Culture Magazine Monday  16/06/2008 G Issue 252
قراءات
الأثنين 12 ,جمادى الثانية 1429   العدد  252
 

الذاتي والموضوعي في السيرة الذاتية لدى عبد الرحمن منيف «2»
محمد عبدالرزاق القشعمي

 

 

كيف يكتب عبد الرحمن منيف رواياته؟ أما وقد اتفقنا على أن عبد الرحمن منيف روائي، وليس كاتب سيرة، فإنني سأعرض هنا إلى أسلوبه في كتابة رواياته، قبل كتابتها فيقول: (الرواية عمل يحتاج إلى استعداد، ويحتاج أكثر إلى مثابرة وصبر وشعور عال بالمسؤولية، إضافة إلى الصدق، وشيء من الشجاعة.

وإذا كانت القصيدة لحظة إشراق، والقصة القصيرة اقتناص الومضة والمفارقة، والمسرحية تتطلب مناخًا ديموقراطيًا، فإن الرواية أكثر ما تحتاجه الجلوس يوميًا وراء الطاولة لساعات متواصلة من أجل التفكير العميق ثم الكتابة صفحتين إلى ثلاث صفحات، إذا فتح الله ويسر، الرواية تحتاج تحضيرًا طويلاً، وفضولاً لمعرفة الأشياء: أسمائها ومواعيدها وتفاصيل التفاصيل عن دورتها في هذه الحياة.

كثيرًا ما يضيق بي من التقيتهم من لجاجة السؤال.

لا أتعب من محاولة المعرفة والتعلم.

افتح عيني على اتساعهما لرؤية الأشياء حولي، مهما كنت أعرفها، أنظر إلى رفة العين حين يتكلم الإنسان لأكتشف مدى ما يعنيه وكم من الصدق فيما يقول، وأحاول أن أرهف سمعي كي أسمع الصمت.

أما حول شخصيات رواياتي فإني أرى بعضهم في المنام، ولا أمل من الحديث معهم، ولسنا دائمًا على وفاق؛ إذ كثيرًا ما يتمرد (الأبطال) ويشقون عصا الطاعة، ثم يستعلون، وتكون لهم أيضا حياتهم الخاصة.

وصدف أكثر من مرة أن مد بعض (الأبطال) ألسنتهم هزءًا بعد أن اختاروا طريقهم الخاص وحددوا مصائرهم بأنفسهم.

الرواية مهما حاول الروائي تصورها لا تتكون إلا بالكتابة، فالكتابة مثل تظهير الصورة، إذ بها وحدها تكتسب شكلها وقوامها وملمحها الحقيقية، وقبل ذلك تكون مجرد احتمال (10).

ولا يقصد منيف أن الرواية تخرج من تحت سيطرته باستعلاء الأبطال؛ بل هو يعني أنهم يكبرون، وتغدو الأحداث المرتبطة بهم تنثال عليه - ككاتب للرواية - انسيابيًا وبسلاسة طبيعية.

إنه يعتبر كتابة الرواية عملية شاقة، ولولا ما فيها من المتعة لهجرها جميع الروائيين، ويشبهها بالحب الذي يُعاني فيه الإنسان أحيانًا، غير أنه يولد لديه شعورًا بالغبطة الداخلية، فيه الكثير من التعويض، ويرى تعويضه في استجابة القارئ (11).

جولة في (سيرة مدينة): (سيرة مدينة) رواية تحكي قصة مدينة عمّان الأردنية في أربعينات القرن العشرين، حين كان منيف فتى يافعًا، بل منذ دخوله الكتُاب حتى ذهابه إلى الجامعة في بغداد.

عمان التي ولد فيها عبد الرحمن منيف، ونشأ فيها يتيم الأب ترعاه أمه وجدته لأمه (العراقية)، وتنقَّل بين حواريها وجبالها، وسوقها، وواديها (السيل)، ومسجدها الحسيني.

الكتاب في مجمله رواية في سيرة، وسيرة في رواية، تتداخلان معًا فيحسبها القارئ أول مرة سيرة، فإذا هو أمام رواية بطلتها المطلقة: جدته، التي تبرز في كل قصة من قصص هذه الرواية، وتسيطر على المشاهد، بشخصيتها الحازمة حينًا، وبحنانها حينًا، وبتعليقها اللاذع حينًا آخر، تظهر الشخصيات الثانوية وتتوارى وتبقى شخصية الجدة طاغية على كل مشهد، وحين ينهي الرواية تنتهي بموت الجدة، التي تتركه يصارع جدة جديدة: بغداد الحنون والقاسية.

ولا أحسبني قائلاً إلا أن (سيرة مدينة) إنما هي سيرة جدته التي تربى في كَنِفها.

يقول منيف في كلماته الأولى (لسيرة مدينة): (هذا الكتاب عبارة عن سيرة لمدينة، هي عمان، وليس سيرة ذاتية لكاتبه، وإن تقاطعت السيرتان، بسرعة وجزئيًا، في بعض المحطات.

كما أنه ليس رواية، لأن الخيال فيه محدود، وإن استعار من الرواية بعض أدواتها، كطريقة العرض والبناء.

انه كتاب يحاول أن يستعيد ملامح مكان في زمن معين، اعتمادًا على الذاكرة.

والذاكرة، مهما حاول الإنسان الدقة والأمانة، خداعة، شديدة المكر، لأنها تقول الأشياء التي تعنيها، ما تعتبره أكثر أهمية، ضمن مقاييسها الخاصة.

لذلك فإن بعض الوقائع الواردة ربما لم تحصل بهذا الشكل تمامًا، لكن هكذا بدت لمن رآها، أو هكذا استقرت في الذاكرة، دون أن تكون هناك أية نيّة أو رغبة بتحويرها، أو إعادة تشكيلها ضمن نسق مختلف.

هذا أولاً، وثانيًا: لا يدَّعِي هذا الكتاب أنه (تأريخ) لعمان بالوقائع والأرقام، إذ لم يعتمد على المراجع والمصادر، ليس استهانة بها، وإنما ارتأى قراءة أخرى، موازية من خلال عيني انسان عاش ذاك الزمن في ذلك المكان، وافترض، بالتالي أن من المفيد أن يقول كيف رأى الأشياء، كيف عرفها أو تعرف عليها، دون مقارنتها مع المراجع والمصادر والأرقام، باعتبار أن هذه القراءة تتيح إمكانية جديدة للكشف والاكتشاف، ومن ثم لإعادة ترتيب الأحداث والوقائع بطريقة مختلفة، قد تساعد على رؤية إضافية.

إن المكان، في حالات كثيرة، ليس حيزًا جغرافيًا فقط، فهو أيضا البشر، والبشر في زمن معين.

وهكذ نكتشف علاقة جدلية بين عناصر متعددة، متشابكة ومتفاعلة؛ فالمكان يكتسب ملامحه من خلال البشر، الذين عاشوا فيه، والبشر هم تلخيص للزمن الذي كان، وفي مكان محدد بالذات، وبالتالي فقد اكتسب الناس ملامح وصفات ما كانوا ليكتسبوها لولا هذه الشروط.

وحين أصبحت لهم هذه الصفات أثروا في المكان والزمان، كما تأثروا بهما، مما ينعكس في النتيجة، في إعطاء الأماكن والأزمنة ملامحها، كما أن تلك الأمكنة، وتلك الأزمان، ستؤثر بدورها في أن يكون ناسها بهذا الشكل، وحين يكون الناس هكذا، فإنهم يؤثرون فيما حولهم ويتأثرون.

وحديث الإنسان عن المدينة التي تعني له شيئًا خاصًا، بمقدار ما يبد وممكنًا فإنه شديد الوعورة، وبعض الأحيان عصي، لأن السؤال الذي يطرح نفسه: أي شيء يمكن أن يقال، وأي شيء يترك؟ وهذا الذي قيل، وذاك الذي تم تجاوزه، أهو ما يجب أن يدوّن ويبقى، أم أن ما ترك كان الأجدر بالتدوين، ومن ثم بالبقاء؟ ليس ذلك فقط، إن الكتابة عن مدينة الماضي التي يحبها الإنسان تحول هذه المدينة إلى كلمات، والكلمات ذاتها، مهما كانت بارعة، زلقة، خطرة، ماكرة، وغالبًا لا تتعدى أن تكون ظلالاً باهتة لحياة، أو في أحسن الحالات ملامسة لها من الخارج، أو مجرد اقتراب، علمًا بأن الحياة ذاتها كانت أغنى، أكثر كثافة، ومليئة بالتفاصيل التي يصعب استعادتها مرة أخرى.

ثم ما هو المقياس الذي يجب أن يُعتمد في الاختيار؟ ما هي أهمية الأشياء التي تقال وتلك التي تم تجاوزها؟ ولمن؟ والمدينة، أية مدينة، هل لها صورة واحدة يراها الجميع بنفس الطريقة؟ ثم..

هل إن المدينة مجرد أماكن وأشياء وأسماء، وحتى بشر؟ وكل هذه، هل هي في حالة ثبات أم تتغير في كل لحظة، كما يعاد تشكيلها في الذاكرة مرة بعد مرة، خاصة والزمن يمضي، وتتدخل أسباب وعوامل كثيرة ومؤثرة؟ وهل من حق الكاتب أن يجبر الآخرين على رؤية الأماكن والبشر كما رآهم هو، أو كما أحب أن يراهم؟ وهل كان هؤلاء هكذا فعلاً، أم أن العواطف والمسافات غيرت في الأشكال والأحجام، وغيرت في المواقع أيضًا، تبعًا لما يعتمل في العقل والقلب(؟ (12).

ثم يثبت التهمة على نفسه؛ إذ يفرق بين الذاتية والموضوعية، ويتهم نفسه ببعده عن الموضوعية، واقترابه من الذاتية في (سيرة مدينة)، فيقول: (والكتابة، خاصة من هذا النوع، عن الأماكن والبشر، ألا تعتبر بشكل ما، بنسبة ما، انحيازًا يبعدها عن الموضوعية، وألا يعتبر الكاتب صاحب هوى أو غرض، وربما حالمًا أو واهمًا، وهو ينتقي، وهو يعطي الصفات؟ وإذا كان من الممكن التسامح مع الأماكن - باعتبارها محايدة - هل هي كذلك فعلاً؟ وقد تشي بها أمور كثيرة، وربما يستطاع إعادة تصويرها أو تركيبها بأقل قدر من التحريف، فماذا عن البشر الذين لا يتوقفون لحظة واحدة عن التغير؟ (13).

فإذا كان المكان قد طاله شيء من التحريف - كما يقول - فإن البشر طالهم أكثر من ذلك، طالتهم الرمزية التي انتقى لها منيف شخوصها بعناية؛ فبعد حوالي نصف قرن من الزمان يتذكر منيف مدينته الأولى التي نشأ بها؟! إنما تذكر جدته وأراد تكريمها ووفاءها حقها، فهي كجدة المتنبي كفلته منذ الصغر وكانت له أمًا وأبًا؟ لقد انتقى منيف رمزًا لجدته مكانًا يبقى ما دامت السماوات والأرض، فالشخوص قد تتغير وتزول، أما الأماكن فتغيرها بطيء، ومحايد! وعالم منيف عالم يرتكز على الرمز، و(الرمز وسيلة لتكثيف المتناثر، وتركيز المفكك، والوصول إلى مركب جديد بديل لا يكافئ الواقع، أو يوازيه، بل يكون متقدمًا عليه، وقائدًا له، لأنه خلاصة التجريد، وعمق الجوهر.

وعندما تكون قيود الواقع الفيزيقية أو الاجتماعية شديدة وتكون الرؤية عميقة ومصحوبة باتساع حدود الخيال، وانطلاق طاقاته في التشكيل من خلال الصور، ومع رغبة في جمع الشظايا المتناثرة غير المتآلفة في نسق جديد، منظم، متآلف، يقوم بالتوصيل المقنع المؤثر، يكون استخدام الرمز أمرًا مبررًا، مع ضرورة ألا يكون هذا الرمز غارقًا في الغموض أو الإعتام التام، أو الظلمة الداكنة (14).

وقد أكون مغرقًا في تفسير الرمزية عند منيف إذا ما قلت إن شخصية الجدة لا ترمز إلى مدينة عمان فحسب، بل هي ترمز إلى منيف نفسه، فالجدة الشخصية الرئيسية والمهمة في الكتاب تكمل - بحكم تجربتها وحكاياتها وتعليقاتها - بعض ما كان ينقص (منيف الصغير) في تلك الأيام - كما يقول إحسان عباس - ، فلقد تقمص حين كبر شخصية الجدة وأرخى لها عنان التعليق والتهكم اللاذع لتنوب عنه في مكان لم يكن بمقدوره التعبير عن موقف تجاهه.

وحين أراد منيف أن ينهي سيرة مدينته سلخ جدته منها، فسافرت إلى بغداد، وحين أراد أن ينهي شخصيته في تلك المرحلة، اختار لها وفاة الجدة؛ لتكون نهاية حقبة، وبداية أخرى، فقال بعد دفن الجدة: (وخرج الحفيد من المقبرة إلى دوي المدينة، خرج إلى بغداد القاسية والحنونة؛ ليبدأ مشوارًا جديدًا في هذي الحياة (15).

إن عالم منيف عالم رمزي، خصب، متموج، عنيف، مقلق، صاخب، متحرك، أبدًا، متوتر دائمًا، ومثير للتوتر (16).

اختتام: نهاية هذا البحث أجدني - وأنا أعرف بمنيف من نفسه، كما قال لي ذات مرة - مشوشًا في التعبير عن ذاتية منيف وموضوعيته، فهما عنصران يتداخلان لدى كل كاتب إنساني، يكتب بلغة أدبية، فيها من الغموض، والتستر، والاختباء، ما فيها، فلا يمكن الفصل بينهما أو وضع حواجز أو فواصل بينهما لديه.

هذا في الحديث عن الكتبة الإنسانيين، فكيف بالحديث عن عبد الرحمن منيف، الروائي المتمرس، الذي يعرف متى يَرِدُ الماءَ وَمتى يُصْدِرُ، فلا بد أن الذاتية والموضوعية عنده تتستران بسياج قوي، يغذيه حمله هموم المواطن العربي من المحيط إلى الخليج، وإحساسه بآلامه، وبالمشاكل التي تعترض طريق نهضته.

وهو على حد قول مؤمنة العوف: (هناك بعض التناقض في الطرح العام لموضوعات عبد الرحمن منيف، فهو ضد الشيء، وضد نقيضه في الوقت نفسه، ليس هناك شيء واحد هو معه، ويمكننا اعتبار ما ورد في رواياته تصوير حالات إنسانية تتقارب وتتنافر، أي إن شخوصه تتحرك ضمن شروط موضوعية خاصة بها(17).

المراجع

عبد الرحمن منيف والعراق (سيرة وذكريات)، ص 90.

(10) القشعمي، محمد بن عبد الرزاق.

ترحال الطائر النبيل، بمناسبة بلوغ عبد الرحمن منيف السبعين من عمره.

- ط2.

- بيروت: دار الكنوز الأدبية، 1425هـ - 2004م محمد القشعمي.

ترحال الطائر النبيل، ص33 - 34.

نقلاً عن: نعمة خالد.

حوار مع عبدالرحمن منيف، مجلة الجديد، ع12 (شتاء 1996م)، ص12.

(11) ماهر جرار.

عبد الرحمن منيف والعراق... ، ص 97.

(12) منيف، عبد الرحمن.

سيرة مدينة: عمان في الأربعينات. - ط1. - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994م، ص5 - 6.

(13) السابق، ص 6.

(14) شاكر عبد الحميد.

عالم عبد الرحمن منيف الروائي، ص 158.

(15) عبد الرحمن منيف، سيرة مدينة، ص 272.

(16) شاكر.

عبد الحميد.

عالم عبد الرحمن منيف الروائي، ص 161.

(17) العوف، مؤمنة بشير.

قراءة في أعمال الدكتور عبدالرحمن منيف الروائية - 2، مجلة المشرق، ع3، ديسمبر 1994م، ص 389 - 419، ص 417.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5820»ثم أرسلها إلى الكود 82244

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة