Culture Magazine Monday  16/06/2008 G Issue 252
قراءات
الأثنين 12 ,جمادى الثانية 1429   العدد  252
 

الطبعة الأخيرة
خالد البسام

 

 

عندما يبدأ الكتاب والمؤلفون وغيرهم تأليف الكتب يحلمون كثيراً.

تبدأ أحلامهم بالتواضع وهم يؤلفون الكتاب ويشقون ويتعبون من أجله، ومن أجل خاطر اسمهم الذي ينتظر الدخول إلى هذا العالم الجميل، وعندما ينتهون من تأليفه تكبر تلك الأحلام ومعها تزداد الأمنيات.

ولعل أهم أحلامهم هي أن تصبح كتبهم مشهورة و يقرأها الجميع وتوزع في كل مكان، ويكتب عنها النقاد ويشيدون بها طبعا، ويكسبون منها أموالاً كثيرة، وتترجم إلى عدة لغات مهمة، وعلاوة على هذا أيضا يحصلون على شهرة كبيرة تفوق أو تعادل شهرة نجوم السينما ومطربي الغناء.

وليست كل تلك الأحلام غير مشروعة، بل هي عادلة تماما، ومن المفترض ان تتحقق ولو جزء منها. كما ان تلك الأحلام ليست قاصرة على الكتاب الغربيين فقط، ولكنها أحلام تشمل جميع الكتاب والمؤلفين سواء كانوا في الغرب أو الشرق.

كما أن تلك الأحلام ببساطة ليست قاصرة على الشعراء وحدهم أو الروائيين، ولكنها أحلام لجميع من يؤلف كتابا سواء كان فيلسوفا أو باحثا سياسيا أو كاتب قصص أطفال أو مؤلف مسرحي أو غيرهم.

وعندما يطبع المؤلف كتابه الأول وهو مملوء بالطموحات والأحلام التي لا تعد ولا تحصى، فإن الدنيا لا تسعه بل حتى الأمنيات لا تتمكن منه.

لكن كل ذلك يبدأ في التبخر من عقله عندما يقدم عمله إلى مجموعة من الناشرين كبارا كانوا أو صغارا، وتجيئهم ردودهم البغيضة: هذا العمل لا يصلح، وهذا العمل غير مشوق، ومؤلفك لا يبيع، وغير ذلك. وفي النهاية فانه إذا حصل على ناشر مسكين مثله فانه يحمد ربه مليون مرة على هذا النعمة.

فعند بعض الناشرين العرب مثلا يدفع بعض المؤلفين أثمان الطباعة كاملة إذا أراد نشر كتابه، وهذا يعنى انه لن يحصل على فلس واحد منه. وإذا أراد المسكين الشهرة والانتشار فالناشر هذا لا يعرف إلا بيع الكتب في أماكن محدودة وغير معروفة، والحصول على نقود كثيرة منه.

ومع ذلك يقبل هذا المؤلف المسكين تلك الشروط ويطبع الكتاب بأسوأ صورة وبأرخص ثمن، ولا يجد أية دعاية عنه أو أخبارا أو غير ذلك.

هناك بعض الحلول التي تطرح على هذا الكاتب المسكين سواء كان روائيا أو حتى شاعرا. ومن أهم تلك الحلول هو القيام بتلك الخلطة السحرية المشهورة عربيا وهى الكتابة بطريقة الثالوث المحرم: دين، جنس، سياسة. وهي خلطة ثبت نجاحها الباهر في الكثير من الروايات وخاصة الخليجية، وبالذات إذا كانت كاتبتها امرأة شابة.

ومن الحلول الأخرى هي ان يطبع الكتاب لنفسه ويوزع بنفسه ولا يبقي سوى ان يقف في الشارع أو أمام مكتبة ويقرأ للناس ما كتبه في الكتاب، وتلك طبعا مهمة مستحيلة.

وهناك حل سخيف- وربما عادل- وهو ان يُشهر الكاتب بدار النشر النصابة التي أخذت كل حقوق النشر وغيرها ولم تعطه حتى فتات. فأتذكر مثلا ان دار نشر لبنانية مشهورة لم تعط الحقوق المادية لكاتبة سعودية شهيرة أيضا، إلا بعد ان اعترفت تلك الكاتبة وصرحت بأنها لم تستلم أية حقوق مادية من تلك الدار. بعد ذلك التصريح مباشرة قامت تلك الدار المحترمة بإرسال شيك ببضعة آلاف من الدولارات للكاتبة.

والغريب أننا نواجه كلاما مكررا يقوله أصحاب دور النشر ويرددونه بشكل سخيف وهو ان الناس لا تقرأ وان الكتب بالكاد ان تسوق، وان العرب لم يعودوا يقرأون ! وهذا كلام مضحك. فإذا كانت الناس لا تقرأ والكتب كاسدة، فلماذا إذن انتم كدور نشر تنشرونها وتوزعونها، لماذا لا تقفلون أبوابكم وتبحثون عن مهنة أخرى؟ لماذا هذا التشنيع الدائم على ان الكتب لا تُقرأ؟ إذن من أين لديكم الأموال الهائلة والأرباح الكثيرة من تجارة الكتب؟ أليس هذا موضوعا عجيبا؟

النتيجة النهائية معروفة وهى ان الكاتب لم يصبح مشهورا ولا هو كمؤلف صار مشهورا ولا احد كتب عنه، ولا أحد قرأه أيضا. وبينما كانت من ضمن أحلام المؤلف المسكين طباعة كتاب عشرات الطبعات، يبقي كتابه بطبعته الأولي متراكما في المكتبات وفي بيته مغطى بالغبار لعشرات السنين، ونسي أن يكتب عليه (الطبعة الأخيرة)!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة