Culture Magazine Monday  17/11/2008 G Issue 261
سرد
الأثنين 19 ,ذو القعدة 1429   العدد  261
 

مدائن
(الداهنة) أسيرة لباب الشاعر عبدالله الزيد
إعداد - عبدالحفيظ الشمري

 

 

رحلة الشاعر عبد الله بن عبد الرحمن الزيد معلقة دائماً بحبال الوجد والهيام بحياة هادئة ووداعة، تسكن تضاعيف أمله بالشعر، وقد تحول إلى حقيقة إنسانية لا بد لنا إلا أن نلمحها بوضوح، وندركها بوعي تام؛ فالوجد لدى الشاعر عبد الله الزيد يصحو على لواعج الفَقْد التي مُني بها أولاً لأنه شاعر صادق، وتالٍ لأنه إنسان عفوي.. وزد على هذا وذاك كونه ذا حساسية مفرطة في تلمُّس كل ما هو جمالي أصيل.. لا مراء فيه ولا تورية.

في فضاء (مدائن) نحاول أن نتلمس خطاب المكان في تجربة الشاعر الزيد.. حيث يحنّ دائماً في شعره إلى الأماكن الأولى، مدارج الصبا وعالم الطفولة الذي أضحى كحلم بعيد.

فكلما تأملت قصائد الزيد حتماً ستطالع ودونما عناء أنه معنيّ بأمر المكان العام.. ذلك الذي ينهل منه جُلّ المعاني الفائقة وَجْداً وهياماً بما مضى من تكوينات وإيحاءات عابرة إلى مجاهل الذكريات.

الشاعر عبد الله الزيد، وفي أروع قصائده التي تعنون للمكان، وتؤكد توقه لإبراز ما يعتلج فيه وكأنه قطري بن الفجاءة أو مالك بن الريب حينما يعبران فجاج الأرض بحثاً عن ألق الخلود في الذاكرة الإنسانية، لتأتي قصيدة (ترتيلات نجدية في تضاعيف الخليج) محركة لنبرة الخطاب المكاني الذي يشد ذهن الشاعر، بل يغلق عليه منافذ الأمل، فلا شيء غير الوداع يمكن أن يعيد ترتيب الوجد اللاعج:

قفا ودّعا نجداً.. فبي مثل ما به

وفيه الذي يشقى وفيه الذي أهوى

إلا أن المكان يأخذ خصوصيته في ذات القصيدة حينما يتماهى الشاعر الزيد في وصف مكان عابق بحزن الذكرى، حينما رحل الأحبة عن (دارة الوشم) الصغيرة، تلك التي ضمت في أعطافها وجدان الشاعر، وأحلام عائلته الصغيرة التي تفرقت بهم السبل، وغيّب الموت أجملهم وأروعهم وأحنهم على فؤاد الشاعر، ومشاعره:

إلى دارة في الوشم تهفو مواردي

وأنثال مثل الوجه في نشوة البشرى

أجيءُ كما يأتي الربيع لفصله

وألثم قبل الوجد نوارة الذكرى

فالشاعر الزيد عني بجماليات المكان بل تجاوزه إلى فَهْم حقيقي واعٍ، يؤكد للقارئ أن المسافة بين الإنسان وحزنه هي تلك البقعة التي تختزن الذكرى حيث لا يقوى أبداً على مبارحة المألوف في حياته، ولاسيما حينما يكون شاعراً حقيقياً يتنفس عبق الصدق، وعفوية الشعور؛ ليسجل لنا وعن اقتدار ودربة ما يعنّ له من لواعج أليمة ليس بوسعه إلا أن يبوح ببعض تفاصيلها المؤثرة، في وقت يرغب الشاعر فيه أن يدثر حكاياته الشيقة بغطاء من مديح الذكرى لكي يبقى للماضي في ذاته شذرات من ودٍّ ماتع.

ولم يشأ الزيد أن يفصح بما يحمله من شوق لتلك القرية الغائرة كوشم في ذاكرته.. تلك هي (الداهنة) التي لا يجد بُدّاً من زيارته، وتجديد العهد بذكراها الطيبة، لكن الزمن الآن ربما بات أقوى من يُعيد رسم تفاصيل العلاقة بينه وبين تلك التخوم التي تؤوي النسيان أو التحول المادي الذي لا يسجل أي حضور ممكن في الوجدان.. إذ لم تعد تلك الحياة البسيطة إلا مجرد ذكرى، وهذا ما شق على الشاعر الزيد وجعله يطنب في رثائه للمكان الذي مات في وجدانه وتحول إلى مجرد ذكرى.

فالداهنة هي القرية التي أسرت ذكرياتها لباب شاعرنا الفذ الزيد.. فجعلته نبتة ريفية تضوع (ريحانة الفأل) شعراً خالصاً ينبع من وجدان رجل هدّه الحب والهيام بماضٍ بسيط ووادع.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة