Culture Magazine Monday  18/02/2008 G Issue 234
فضاءات
الأثنين 11 ,صفر 1429   العدد  234
 

(باريس) و(اليونسكو).. و(إرث العابر)..؟!

 

 

في معية عدد من (السكرتاريات) اللواتي يجدن أكثر من لغة، واللواتي كن يتبدلن، مع صعودنا وهبوطنا بين أدوار مبنى (اليونسكو) المهيب ب(جماله) و(جلاله) على جادة (سوفران) في العاصمة (الباريسية) والتي تعيش حالة مهرجانية ملفتة على الدوام.. كنا نتعرف على مكونات المبنى وموجودات طوابقه المتعددة: من قاعته السينمائية والمسرحية معاً.. إلى صالات معروضاته التشكيلية الأممية.. إلى مكتبته الزاخرة المذهلة ب(موجوداتها) ومراجعها وكتبها وأقراصها المدمجة وشاشاتها وقرائها الذين لم أستطع أن أعرف كم هم؟ ومن أين وكيف جاؤوا.. بكل هذه الأعداد؟ إلى.. قاعته الرئيسية الكبرى حيث تشهد اجتماعات (المؤتمر العام) الذي يعقد كل عامين بحضور ممثلين عن جميع الدول الأعضاء في المنظمة.. إلى قاعة (المجلس التنفيذي) الذي يتم انتخاب أعضائه الواحد والخمسين من قبل المؤتمر العام كل ست سنوات.. إلى قاعة (اللجان الوطنية) التي تأتي من كل بلد عضو في المنظمة من موظفين حكوميين، وأساتذة، وكتاب، وعلماء، وشخصيات اجتماعية ونقابية، والتي لا أدري إن كان لنا نصيب منها على مستوى (الوطن) أم أنه لا علاقة للوطن وأبنائه ب(ترف) كهذا.. إلى مكاتب (سكرتيريته) التي تتألف من خمس عشرة دائرة تعنى بشؤون: التربية، والتعليم، والعلوم الطبيعية، والاجتماعية والثقافية، والإعلام والاتصال.. التي يشكل مجملها (صلب) عمل المنظمة ومحور أهدافها التي قامت فلسفتها في البدء على تلك الجملة الشعرية المعبرة: (بما إن الحروب.. لها أصل في عقول البشر، فينبغي بناء حصون للسلام في عقول البشر أيضاً).. والتي كتبها سياسي بريطاني هو (كليمنت اتلي) وشاعر أمريكي هو (أرخيبالد مكلايش).. لتقوم هذه المنظمة ل(بناء حصون السلام) في عقول وقلوب ووجدان أبناء البشرية جمعاء (دون تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين)..

بهذه الهيكلية العريضة أفقياً.. ومتعددة المستويات رأسياً، وبهذه الأهداف التي تضمنها ميثاق المنظمة التأسيسي والذي يشمل كل ما يخص حياة الإنسان في حاضره ومستقبله عدا نزع السلاح وقرارات الحرب والسلم.. كان طبيعياً أن تكون (اليونسكو) هي أول وأهم منظمات الأمم المتحدة الخمس عشرة، وأن يكون مديرها الذي يجري انتخابه كل ست سنوات من قبل أعضاء المؤتمر العام.. هو (ثاني) شخصية أممية مهمة بعد الأمين العام للأمم المتحدة، وأحسب أن لهذه (الأهمية).. كان يجري الصراع دولياً وقارياً على الترشيح لهذا المنصب.. أملاً في الفوز، خاصة بعد انطواء مرحلة الاحتكار الغربي للمنصب وما صحبها من هيمنة نتيجة تعاقب خمسة من المديرين الغربيين عليه.. بامتداد ثلاثة العقود الأولى من عمر المنظمة، وانتقال المنصب بعد ذلك إلى ابن المنظمة وأستاذ الفلسفة الفرنسي (رينيه ماهو).. الذي تقلب في أكثر من موقع من مواقعها.. إلى أن جرى انتخابه عام 1961م لدورتين، فقدوم لحظة التحول الكبرى مع مجيء نجم اليونسكو الحقيقي الدكتور أحمد مختار أمبو: الإفريقي.. السنغالي ابن داكار - الذي كان لي شرف اللقاء به في جدة.. إبان ذروة مجده وأزمته -، فكان لانتخابه بالإجماع.. ذلك المغزى السياسي الذي لم يخف على الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين ب(أن الأمم الصامتة التي اجتمعت في باندونج عام 1955م).. قد بدأت تعبر عن نفسها، وتفرض إرادتها باختيارات غير (أوروأمريكية).. كاخيتارها للدكتور أمبو ليكون مديراً عاماً للمنظمة عام 1974م، فلم تطق الولايات المتحدة، وبريطانيا.. ذلك، خاصة بعد أن أخذت (الأكثرية) الإفريقية الآسيوية اللاتينية.. تمسك ب(قرار) المنظمة وكلمتها الفصل.. أما بعد أن قدم مشروعه ل(إقامة نظام إعلامي دولي جديد متوازن)، وعادل، كجزء من النضال من أجل علاقات دولية أكثر ديموقراطية وعدالة).. على أن يكون (متوافقاً مع المبادئ الأساسية للميثاق ومع أهدافه وغاياته الإنسانية).. ولاقى ذلك الإجماع من قبل أعضاء المؤتمر العام للمنظمة، فقد اعتبرت الدولتان (أمريكا وإنجلترا).. بأن ذلك منه أو من المنظمة أمر فوق الاحتمال، وهو نتيجة طبيعية ل(وقوع المنظمة تحت طغيان الأكثرية)، أو كما قال توصيف (اليونسكو) لما حدث بأنه (القشة التي قصمت ظهر البعير)، فكان أن أعلنتا عن انسحابهما من المنظمة في عامي 1984، 1985م.. على التوالي بعد أن تلقيتا دراسة أعدتها (مؤسسة هيريتج).. تقول خلاصتها ب(أن عالماً بدون الأمم المتحدة سيكون عالماً أفضل)، ومن ثم تبع ذلك.. إيقاف مساهمتهما في ميزانية (اليونسكو) البالغ قدرها 25% للأولى.. و4.66% للثانية، ولكن منظمة اليونسكو.. لم تمت، ولم تتوقف عن تنفيذ برامجها التعليمية والتربوية والثقافية، ولم يتشرد موظفوها وخبراؤها ومستشاروها البالغ عددهم قرابة ثلاثة آلاف.. داخل وخارج المقر، لكن الدكتور أمبو.. ورغم الإجماع عليه لدورة ثالثة.. اختار مصلحة المنظمة على مصلحته وسلم راية إدارة المنظمة لخلفه الثامن الإسباني: البروفيسور (فيديريكو مايور).. الذي عمل من قبل مساعداً فمستشاراً له، لكن الإعلام الجديد.. كان قد بدأ، وتوقف الإعلام (الأحادي) الغربي المهيمن الذي كانت تقوده الولايات المتحدة.. وأصبح العالم كله شريكاً فيه: مصدراً ومستقبلاً، وكان ذلك هو إنجاز الدكتور أمبو الأبرز، ثم أعقب البروفيسور مايور.. بعد انتهاء ولايتيه خلفه الياباني الدكتور (كوشيرو ماتسورا). التاسع.. بين مديري المنظمة.

***

لو أن أخشاب (الأرو) العسلية الجميلة التي تغطي جدار المكاتب والقاعات.. تتكلم، لروت -وهي الشاهدة- ملحمة التغيير الكبرى التي قادها الدكتور أمبو.. في فكر (اليونسكو) وتوجهاتها العادلة المنصفة ومن خلفه شعوب ودول عدم الانحياز في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية لتصبح (اليونسكو).. وكما حلم الكاتب الفرنسي ليون بلوم (الضمير الأخلاقي والثقافي للإنسانية)، ولكن أخشاب الأرو.. لا تتكلم، إلا أن تلك اللوحات التشكيلية الأممية ب(أمكنتها) وشخوصها) وأحلام رساميها.. المنتشرة بين أدوار المبنى وممراته، كانت تنظر.. وتتأمل.. وتختزن في ذاكرتها كل ذلك الذي حدث، لتفاجئنا في حديقة المبنى - عند مغادرته - شجرة زيتون فلسطينية خضراء: ربما من يافا أو من حيفا أو من عين كارم.. ولكن الذي كتب إلى جوارها كان يقول: إنها هدية من (إسرائيل)..!!

على أية حال.. كان مقدوراً علينا أن نتحمل تلك المفاجأة، لكن الذي لم يكن بمقدوري أن أتحمله.. وجود نص ب(العبرية) على لوحة خشبية بيضاء.. قائمة في ركن من أركان الحديقة، قيل إنه كلمة مأثورة.. أو حكمة عبرية، فلم أعن بمعرفتها.. عنايتي باستنكار وجودها وب(العبرية) في منظمة يفترض أنها لا تتحدث ولا تكتب إلا بلغاتها الست المعتمدة: الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والصينية والروسية والعربية.. فكيف جاءت..؟ ومن وضعها في هذا المكان؟

إن الأقرب إلى المنطق والعقل.. أن لا يكون مجيؤها ووضعها في هذا المكان قد تم في عهد الدكتور أمبو الذي كان أحد أبرز أسباب الحروب الأمريكية البريطانية عليه اعتماده لقرار الأمم المتحدة (رقم 3279) ب(عنصرية) إسرائيل في مقدمة دعوته ل(إقامة نظام إعلامي دولي جديد).. ولكن ربما كانت قبل تسلمه مهامه، أو ربما كانت بعدها..

نعم..

لم تكن زيارتي هذه هي الأولى ل(اليونسكو) فقد كان لي شرف زيارتها.. من قبل عندما كان أخي الدكتور إبراهيم مناع مندوباً للمملكة لدى المنظمة، ولكنها.. كانت زيارة سريعة خاطفة، أقرب ما تكون لمطالعة مانشيتات الصحف.. دون قراءة تفاصيل ما جاء فيها من أخبار.

***

لقد ختمنا يومنا (الثقافي) هذا.. بزيارة كان لابد منها ل(الملحقية الثقافية).. السعودية بباريس.. ومديرها الملحق الثقافي في فرنسا وسويسرا وبلجيكا وإسبانيا، الشاب المتوثب والطموح: الدكتور عبدالله علي الخطيب، فقد تعرفنا عليه منذ ساعاتنا الأولى في باريس.. وسعدنا به، وبتعيينه حديثاً في هذا الموقع الذي كان أليق ما يكون به، فهو من أبناء جامعة (روان).. وخريج كليتها العتيدة في (اللغات).. وهو بطبيعة الحال يجيد الفرنسية كأحد أبنائها.. كزميليه وصديقينا في باريس الأستاذ أحمد أبو دهمان، والدكتور معجب الزهراني..

في الطريق إلى مكتبه.. أو في داخل مكتبه، لست أذكر، فاجأتني (صورة) أو منحوتة ل(عروس) من الجزيرة العربية.. هي جزء من معرض (إرث العابر) الذي افتتح به مهمته الثقافية.. في (باريس) فقد كان يدرك بحكم دراسته في (روان) أن الفرنسيين لا يحسنون (الاستماع) إلا لما هو (مكتوب) فيقرؤوه.. أو (مجسدا) فيشاهدوه، فأقام بالتعاون مع قسم الآثار بجامعة الملك سعود وبرعاية وزارة التعليم العالي.. هذا المعرض عن (الاكتشافات الأثرية الحديثة في المملكة العربية السعودية).. في شهر نوفمبر الماضي ب(المعهد الوطني لتاريخ الفنون). أمام (المكتبة الوطنية) الفرنسية في أفخم وأجمل مواقع العاصمة باريس.. ليكون أجمل لحن افتتاح لعلاقته بهم وبالجامعات والمعاهد والكليات والأكاديميات الفرنسية..

عندما قرأت الكتاب الراقي والجميل، الذي أعد بالفرنسية والعربية لتوزيعه خلال أيام المعرض.. لم أصدق أن الجزيرة العربية تضم في قراها (الفاو، والربذة) وفي مواقع محافظاتها ب(العلا): (دادان) و(المابيات) كل هذا الجمال الحضاري الباهر.. ب(لوحاته) البرونزية، و(نقوشه) الجدارية، ومنحوتاته الفخارية، فقد أذهلني ما قرأت وما رأيت.. وأحسب أن حال الفرنسيين الذين قدر لهم زيارة المعرض كان أضعاف حالي ذهولاً وتعجباً وانبهاراً، ولكن معرض (إرث العابر).. لعب دوره دون شك وعلى أفضل المستويات وأرقاها، وهو يقدم صورة مغايرة عن كل ما عرفوه عنا.. ليكون الحب والتقدير ليس من نصيب الدكتور الخطيب وحده.. بل ومن نصيب المملكة أيضاً التي رعت كل هذا الميراث الحضاري الباهر، وقدمته لعاصمة الثقافة في العالم: باريس.

في الليل من ذلك اليوم.. أو في الليلة التالية، كان الدكتور عبدالله يجمعنا.. على عشاء في مطعم (لا وبروكوب) بالحي اللاتيني، الذي كان يتردد عليه أديب فرنسا الأشهر: (فولتير).. بل وكتب على أحد موائده التي مازال يحافظ عليها (المطعم) أحد كتبه، وعندما تحدثنا ل(النادل) عن إعجابنا بحفاظ المطعم على هذه الصفحة من تاريخ فرنسا.. فاجأنا بأن المطعم يضم أيضاً.. النسخة الأصلية لرسالة الوداع التي كتبتها الملكة ماري أنطوانيت ل(الأمة الفرنسية) قبل محاكمتها التاريخية الشهيرة، بل ويضم إحدى قبعات (لويس بونابرت) فكان عبق كل تلك الذكريات يفوق بجمال أريجه.. روائح الطعام الفاخر والشهي الذي قدمه لنا الدكتور عبدالله علي الخطيب.. في تلك الليلة.

كم أتمنى لو أن المملكة.. قدمت هدية تذكارية مجسمة لمبنى (منظمة اليونسكو) في باريس.. وأخرى ل(مكتبتها الوطنية).

_جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة