Culture Magazine Monday  18/02/2008 G Issue 234
فضاءات
الأثنين 11 ,صفر 1429   العدد  234
 

رجاء النقاش:
في ثمالة لقاءاتنا المكتوبة؟!
عبدالله الجفري

 

 

* اهتزت منصة المجد التنويري، وارتج ذلك التفرد بفن النقد الأدبي لدى أستاذ جيل وكشاف موهوبين، وذلك بإعلان وفاة من وصفه الكاتب المصري جمال القصاص ب(الأب الروحي للنقد الأدبي الذي حوله من نخبوي إلى جماهيري)!!

لقد أسقطه المرض اللعين السرطان في الموت، وقد كان المجد بنشاط المبدع يواصل رسالته التي انطلق بها في استهلال العشرينيات.. فألقى ضوء نقده الموضوعي على من توسم في عطائهم الأدبي: الإبداع، وكان على رأسهم الروائي الذي انتشر بعد ذلك (الطيب صالح)، ووصف (النقاش) بأنه (أعاد اكتشاف رواية الطيب صالح الشهيرة موسم الهجرة إلى الشمال).

أما في مصر.. فقد كتب هذا الناقد الكبير مقدمة ديوان أحمد عبدالمعطي حجازي، الأول: (مدينة بلا قلب) والشاعر الفلسطيني محمود درويش.

ولم يكن الناقد الكبير رجاء النقاش مجرد ناقد يخضع لنظريات ومدارس النقد، فقد غرس فيه معلمه الناقد الكبير محمد مندور رحمهما الله: تلك المعاناة الوجدانية التي تتبلور في عقل الناقد بهذا التحليل الذي يقضي على المنطق، فيمزجه بالشاعرية التي يجسد بها أبعاد قصيدة، أو رواية.. فيحفل حينئذ بالجمال، وبالحق.. وهدفه من خلال رؤيته النقدية: إبقاء ذاكرة الثقافة العربية للمحافظة على الغد والواقع، والتراث أو الماضي.

وقد اهتم كثيراً بالتاريخ المصري، وبالإنسان المعاصر، وبرواد الثقافة، فكتب عن (أزمة الثقافة المصرية) عام 1958م، و(تأملات في الإنسان) عام 1962م و(صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر) عام 1975م و(الانعزاليون في مصر) عام 1981م.

***

مرحلة مرضه:

* وفي الأمسية الشعرية بجامعة القاهرة على هامش فعاليات جائزة (شاعر مكة الكبير محمد حسن فقي) قبل أكثر من عامين: التقيت صديقي بالمراسلة، الشاعر المتألق بشير عياد الذي تفضل وأهداني أحدث إصداراته الصادرة عن (مكتبة الأسرة) بعنوان (ناطحات شعرية)، قراءة جديدة في شعرنا العربي القديم.

وفي تلك الأمسية: أخبرني الشاعر الودود بشير عياد بمرض الناقد الكبير رجاء النقاش الذي عانى من آلامه كثيراً حتى ودع دنيانا، وفي عمره أشجار المحبة له من الناس.

- قلت: لقد قصرت كثيراً في استمرار التواصل مع هذا (الناقد الأستاذ) الذي آخت بيننا وشائج من الألفة والصداقة العميقة طيلة فترة تواجده في (الدوحة) عاصمة قطر رئيساً لتحرير (أدسم) مجلة ثقافية تنويرية هي: (الدوحة)!!

في تلك السنوات القصيرة: كنت أذهب إلى الدوحة في العام الواحد مرات عدة بإلحاح من صديقي رجاء النقاش، فيعقد أمسيات الحوار الثقافي الجاد والمغذي فكرياً في منزله أو (دوحته) الخاصة، وكان يحتفي بي بخصوصية مشاعر المحب الجميل الذي ما إن يتكلم حتى تصغي إلى علمه ومعلوماته المتدفقة، وأستاذيته التي تستقطب إصغاء الجميع!!

* لقد آلمني خبر مرضه كثيراً، وحاولت الاتصال بهاتفه الذي زودني به صديقي الشاعر بشير عياد، لكن جهاز التسجيل كان يقف حائلاً بيني وبين نبرة صوته المحببة التي طالما كان يثري سمعي بها يوم كان حبل الود بيننا موصولاً من الدوحة إلى جدة، وهو يستعجلني في إرسال مقالي الشهري الذي أشارك به بالكتابة في المجلة!

استرجعت تلك الذكريات الأجمل التي أدين له فيها بفضل المؤازرة، ودفعي إلى الأمام، وتشجيعي، وهو الذي تفضل علي ورغب أن يكتب لي مقدمة كتابي: (حوار في الحزن الدافئ)، فلما حصل الكتاب على جائزة الإبداع العربي من منظمة الثقافة والتربية والعلوم، قلت له: لقد زكت الكتاب مقدمتك الرائعة!!

وكانت فرحته بالجائزة كأنه الحاصل عليها.

وعاد بعد ذلك إلى القاهرة، والتقيته هنالك مرات قليلة، والقاهرة بطبعها توصلني بالأصدقاء الذين أحبهم، لكنها هذه المرة: قطعت عني وصال رجاء النقاش!!

***

* وذرفت عيناي اليوم دموع الشجن والذكريات التي كانت تفيض بمواقف الصداقة الجميلة بيننا.. فقد صادقته منذ تعرفت عليه وهو: رئيس مجلة (الدوحة) الثقافية التي انتشرت بين عشاق القراءة والمعرفة، وقال البعض: إنها صارت تنافس مجلة (العربي) وتعمقت صداقتنا فكان يدعوني كلما زرت الدوحة إلى بيته هناك وعائلته في القاهرة، ونمضي شطراً من الليل في حوار عن الجديد في الكتب، واستمتع برؤيته النقدية وعمق ثقافته، وكنا نتواصل بالهاتف.. ودعاني للكتابة لمجلة (الدوحة).

إن الكتابة في تفكير وإحساس (رجاء النقاش) صوت نفسي، ينطلق من أعماق الإنسان، ليقرر قيمة ويشير إلى خلاص فكري، وإن التعبير الصادر من الإنسان بقلمه.. هو: فلسفة حياة، ومنطق إيمان، ومخاض فكرة!

وتبقى الكتابة: دافعاً حسياً.. وفماً لا تغذيه لقمة خبز!

واستطاع (النقاش) أن يصور ذلك كله في حياته.. ثم أراد أن يؤكده بالطريقة التي ودع بها الحياة!

* ورجاء النقاش: كان يمكن أن ينبت في حقل الإبداع، شاعراً، وقلت له في أحد حواراتنا:

- أنت رقيق المشاعر، ضوئي الوجدان، شمعة إنسان.. فلماذا لا تكون شاعراً؟!

- أجاب بابتسامة: المهم أن أعبر عن هذا الإحساس - الإنسان!

يرحم الله (رجاء النقاش) الحبيب، ويسبغ عليه الراحة في نومته الأبدية.

* رجاء النقاش: يعرفه القارئ المتابع الشغوف بالكتاب، فكتبه منتشرة ويتخاطفها قراء يقدرون النقد الموضوعي بخلفيته الثقافية الشاسعة.. ذلك لأن (رجاء النقاش): يعتبر من صفوة المثقفين الذين أسهموا في وضع قواعد وأساسيات النقد الحديث.

***

رسالة أخيرة من رجاء:

عندما كتبت عن الأزمة الصحية التي تعرض لها ناقد هذا العصر، الكاتب الكبير رجاء النقاش.. لم أتوقع سرعة مبادرته في التعبير عن استقبال كلماتي عنه، أو الكتابة إلي عبر الفاكس من القاهرة.. فقد باعدت السنون بيننا، وطوتنا دوامة الحياة، فإذا كل واحد منا: (كل في طريق) رغم ما جمع بيننا من حميمية الصداقة على امتداد صدور مجلة (الدوحة) القطرية، وحتى حجبها بكل ذلك الزخم المميز من الثقافة والإبداعات الذي قدمته المجلة شهرياً للقارئ العربي، منذ كان (رجاء النقاش) رئيساً لتحريرها في هالة النجاح الدائم حتى إغلاق المجلة.

وقلت عنه: لقد كان د. أحمد زكي (أدسم) رئيس تحرير لمجلة (العربي)، وكذلك (رجاء النقاش) لمجلة (الدوحة)!!

وقد آلمني مرضه الذي بات يعاني منه: صابراً مجالداً، شاكراً الله عز وجل على ابتلاء المؤمن في شخصه.. وكانت تصلني أصداء من كلمات (رجاء النقاش) من ذلك الزمن الجميل حين تحدث عن (القراءة) التي نحض على تشجيعها في صفوف الشباب، وتوفير المكتبات والحث على ارتيادها، فأراد أن يؤكد أن القراءة في العالم العربي لم ولن تموت، وأضاف:

- (لكن الذي مات ولم يعد له جمهور هو الكلام الذي يتكرر، والفكر الذي يضع يده في ماء فاتر ولا يقترب بهذه اليد من النيران الملتهبة)!!

***

* لقد سعدت أن الكاتب الكبير رجاء النقاش: قرأ كلمتي عنه، فكتب لي بكل امتناني له، ودعائي له بالمغفرة:

- أخي الحبيب الأستاذ الكبير عبدالله الجفري

لا أدري كيف أشكر لك ما فاض به قلمك العذب الموهوب الذي يقطر بالموسيقى والشعر حول أخيك المتواضع.. لقد سعدت بكلماتك لأنها ذكرتني بأجمل أيامي، ولأنها أعادت إلي من جديد ذلك النسيم الجميل الطيب الذي يهب علينا من كلماتك الرائعة.

ولا أشك لحظة في أنك تكتب من قلبك، وهو قلب نبيل مليء بالعطف والعاطفة نحو الإنسان والحياة.. وقد مرت بي لحظة شعرت فيها أن اللقاء بينك وبيني أصبح عسيراً بعد ما ألقته الدنيا في طريقنا المشترك من متاعب ومصاعب، وها نحن نلتقي من جديد، لأن قلبك النبيل لم يهدأ حتى أعادني إليك.. وكنت بعيداً شريداً وحيداً، لا أظن أن لقاءنا سوف يكون من جديد:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما

يظنان كل الظن ألا تلاقيا

ها نحن معاً قد عدنا إلى نقطة المحبة الأولى.

وها أنا ذا أتلقى منك أوراق وردك، فأزداد قوة وإرادة على مواجهة المرض وانتظار الغد بنفس متفائلة!!

***

* وبعد... فإن الفارس الأصيل تبقى فيه صفة (الفروسية)، ورجاء النقاش: أديب وناقد فارس، أقام قاعدة نقده على الموضوعية، وشكل فكراً يضيف إلى النص ولا يجرحه.. متمسكاً بأخلاق الكبار حين يطرح رؤيته النقدية.

* لقد صفى (رجاء النقاش) نفسه من شوائب الحياة واستطلع تأملاته.

أما كتبه النقدية والتسجيلية لحياة رواد مصر، فقد كان يلتقط فيها الصور الحقيقية، ويظهرها على الورق كأنه يحمض فيلماً.. وتنطبق عليه عبارة (فرود ماركس):

- إن الكلمات عند الكاتب المبدع: تبدو وكأنها حصوات التقطها للتو من قاع غدير، صافٍ رقراق.

يرحم الله الحبيب الأصيل في سلوكياته، الصادق في إنسانيته، الصديق الذي ترك لنا ثروة من الثقافة!!

***

من كلمات رجاء الراسخة:

إنني أدعو إلى فكرة: الاقتصاد الثقافي

لأن الثقافة سلعة رابحة إذا أحسن تقديمها

عكس الفكرة السائدة: إن الثقافة

خدمة ينفق عليها ثم تخسر!!

***

* ازداد عدد المطابع ودور النشر في الوطن العربي، وأصبحت الكتب تصدر كل عام بالآلاف مما جعل لصوص الثقافة يتصورون أن النجاة من جريمة السرقة الثقافية أمر سهل وميسور، وأن المكاسب المادية والأدبية التي تحققها هذه السرقة مضمونة.

***

* لقد تخلفنا في مجال الترجمة بصورة واضحة، وأستطيع أن أقول من غير أن أتجاوز الحقيقة: إننا أصبحنا متأخرين عما يصدر في العالم من آثار أدبية وفكرية وعلمية بما لا يقل عن نصف قرن.

***

* إن ما أنتقده بصورة عامة هي تلك الحروب التي يشنها المثقفون العرب ضد بعضهم البعض في العواصم الأوروبية.. وهو الوضع نفسه الذي نعاني منه في داخل العالم العربي.

***

* القراءة في عالمنا العربي لم تمت ولن تموت، ولكن الذي مات ولم يعد له جمهور هو الكلام الذي يتكرر.

والفكر الذي يضع يده في ماء فاتر، ولا يقترب بهذه اليد من النيران الملتهبة.

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5717»

- جدة a_aljifri@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة