Culture Magazine Monday  18/02/2008 G Issue 234
فضاءات
الأثنين 11 ,صفر 1429   العدد  234
 

مساقات
الذاكرة الجاهلية !
د.عبدالله الفيفي

 

 

الشِّعر تراث العرب وأُسُّ تربيتهم الاجتماعيّة له في نفوسهم قداسة، وعلى عقولهم سطوة، وفي وجدانهم سِحر، أيّ سِحر! ولذلك ما لبث العرب أن عادوا بعد ثورة الإسلام الأُولى، وفي العصر الأموي، إلى نهضة جاهليّة جديدة لا تقلّ عنفوانًا عن سابقتها، ومن خلال مدرسة الشِّعر التي استأنفتْ بثّ تراثهم العصبي ما قبل الإسلامي- على غرار ما تفعله بعض القنوات الفضائيّة الشعبيّة اليوم!- متجلّيًا ذلك على سبيل النموذج في نقائض جرير والفرزدق والأخطل، التي كانت (شِعر الرَّدّ) في نموذجه القديم، وسِباقًا شِعريًّا محمومًا، تُدار فعاليّاته في المربد خاصّة، وفي البصرة عامّة، حيث الحضور القَبَلي القيسيّ اليمانيّ المتناحر، الذي ما كانت لتخمد ثاراتُه إلا بسيف الحَجّاج بن يوسف الثَّقفي، وأحيانًا في الكوفة، حيث مسرح الجماهير الشِّعريّة بحوافزها القَبَليّة والطائفيّة معًا، فقد غدت النقائض بين شاعري تميم- جرير والفرزدق- ملاهي شعبيّة، لا نظير لإغرائها وجماهيريّتها بين العرب، ومتنفّسًا لباديتهم بخاصّة، تهبّ بأعاصير الذاكرة الجاهليّة.

وعليه بقي الشِّعر حامل غثاء التاريخ العربي، الحافل بتناحر العرب، وسِجِلّ تقاليدهم من التنابز بالألقاب، وجهلهم فوق جهل الجاهلين، عَبْر كُلّ الأجيال. يتشرّبه الطفل منذ يعي، وقبل أن يَثْقَف شيئًا، حتى من كتاب الله- أي منذ أناشيد ترقيص الأطفال الحافلة ببذار تلك القِيَم- فإذا هو يشبّ عن الطوق وفيه جاهليّة صميمة صمّاء، هي في أساسها جاهليّة آبائه المعتّقة بالشِّعريّة. ولعله إنما جاء الحديث النبوي عن هذا الشراب الموبوء الذي يحمل إلى النفس العربيّة شتّى الأوبئة والأسقام: «لأنْ يمتلئ جَوْفُ أحدكم قَيْحًا خيرٌ له من أنْ يمتلئ شِعرًا»، أو «لأنْ يمتلئ جَوْفُ رجلٍ قَيْحًا يَرِيهِ خيرٌ من أنْ يمتلئ شِعرًا »(1)، تنفيرًا من ذلك النوع من الأدب، قليل الأدب!

ولبئس الشراب، وساء الأدب، وتَعِسَتْ الثقافة التي تمثّلت في مثل هجاء الفرزدق جريرًا، أو جرير الفرزق، مع أنهما ابنا عمٍّ، من قبيلةٍ واحدة، إلاّ أنهما من عشيرتين مختلفتي الطبقة، حسب معايير الطَّبَقِيّة القَبَلِيَّة: بني يربوع الكلابيّة، وبني مجاشع الدارميّة. كيف لا، والشِّعر كان منبر الروح الجاهليّة في الجزيرة، وحاضن قِيَمها، التي جاء الإسلام ليجتثّها من جذورها، فأبَى الشِّعر إلاّ أن يحافظ عليها، ويزيدها، وينمّيها، ويطوّرها، ويمدّها بكل وسائل البقاء والتأثير؟! أيّ روح؟ إنها روح الغزو، والغدر، والنهب، والسلب، والسبي، واحتقار المرأة، بكل ما يمتّ إلى المرأة بصلة.. عادات استباحة الخصم، دمًا ومالاً وعِرضًا، وديوان ثارات عربيّة لا تفتر.. حتى ليدهش من يقرأ أيّام العرب: كيف استحبّ أهلوها العمَى على الهدَى، مع حصافة عقولهم، ورجاحة فِطَنهم، ودهاء سياساتهم؟! لكنّهم في النهاية ضحايا الشِّعر، والشِّعر أفيون العرب!

لقد أصبح الشاعر كاهن ذلك السِّجلّ التاريخي كلّه، بعد أن فَقَد وظيفته الكهانيّة القديمة بوصفه سادن عقائد العرب، متنبّئها وقدّيسها. كما أن الشِّعر كان إعلام ذلك الزمان، ومسعّر نيرانه، فكم من حروبٍ قَبَليّة بين إخوةٍ قامت لبيت شِعر؟! وكم قبائل سُحقت شِعريًّا لبيت شاعر؟! كبني العجلان، إذ قال فيهم (النجاشي الحارثي، ت. 40هـ= 660م):

قُبَيِّلَةٌ لا يَغْدِرُوْنَ بذِمّةٍ

ولا يَظْلِمُوْنَ الناسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ

وكم قبائل أخرى ارتفعتْ منزلتها القَبَلِيّة شِعريًّا إلى عنان السماء ببيت آخر؟! كبني أنف الناقة، إذ قال فيهم الحطيئة:

قومٌ هُمُ الأَنْفُ والأذْنَابُ غيرُهُمُ

ومَن يُسَوّي بأَنْف النَّاقةِ الذَّنَبا

ومع احترامنا لقول (عبدالقاهر الجرجاني) في كتابه «أسرار البلاغة»، عن الحطيئة: إنه «نَفَى العار، وصحّح الافتخار، وجعل ما كان نَقْصاً وشَيْناً، فضلاً وزَيْناً، وما كان لقباً ونَبْزًا يسوءُ السمع، شَرَفاً وعِزًّا يرفع الطَّرْف، وما ذاك إلا بحُسن الانتزاع، ولُطف القريحة الصَّناع، والذِّهن الناقد في دقائق الإحسان والإبداع، كما كساهم الجمالَ من حيث كانوا عُرّوا منه، وأثبتهم في نِصَاب الفضل من حيث نُفُوا عنه، فَلرُبَّ أنفٍ سَليم قد وَضع الشِّعرُ عليه حَدَّه فجدَعَه، واسمٍ رفيع قَلَب معناه حتى حطّ به صاحبَه ووَضَعه».. مع احترامنا لهذا التحليل البلاغي، فإن التحليل الثقافي يقول: إنه ما كان لولا مكانة الشِّعر في وجدان العرب لهذا المدح من صدى لدى العرب، مهما بلغ بلاغة، وحُسن انتزاع، ولُطف قريحة صناع، وذهنًا ناقدًا في دقائق الإحسان والإبداع!

وبهذا ظلّ العرب عبر تاريخهم أُلعوبةً كلاميّة، وما زالوا، تتقدّم الأُمم من حولهم وهم قابعون في مضاربهم، مخدّرون بشِعرهم، قد ألهتهم عن كُلّ مكرمةٍ قصيدة قالها عمرو بن كلثومٍ (ما)، فصيح أو عامّي. وظلّ فخر الشعراء بالغَدر، والظُّلم، ووأد المرأة، وهجاء خصومهم بأنهم: «قبيّلة لا يغدرون ولا يظلمون»، ف«الظُّلم من شِيَم النفوس»، كما قال حكيم الشعراء (أبو الطيّب المتنبي)، وعدم الغَدر كان عيبًا في شِيَم العرب، حتى في عصر الخلفاء الراشدين، وخلال القرن الهجري الأوّل، خير القرون، وفي غضون تنزّل الهدي الإسلامي، الذي كانت من أهم مشاريعه محاولة انتزاع العنصريّة (العربيّة- الأعجميّة)، والعصبيّة (العربيّة- العربيّة)، ولكن.. هيهات!

وما أشبه الليلة بالبارحة! فالشِّعر العامّي اليوم هو وريث ذلك التراث، عليه ينشأ ناشئ الفتيان فينا، لينضح بما فيه! إن الشِّعر هو مدرسة القَبَلِيَّة الممتدّة، وصانع مجدها، ولسان إعلامها، ومخلّد ذكرها، فلا قَبَلِيَّة ولا عنصريّة هنا بلا شِعر. وهو اليوم كما كان بالأمس وقود العصبيّة، وحامل لوائها، لا تمحو آثاره تربية، ولا يشفي من أسقامه تعليم؛ ستجد عقليّة ربِّه، وإنْ نال أعلى الشهادات، ذات عقليّة عَقِيل بن عُلَّفة، والحطيئة، والنجاشي الحارثي، والفرزدق! بل لا يشكّ متأمّل في أن أولئك الأعلام من شعراء الجاهليّة والإسلام كانوا أكثر طرافة، وأعلى همّة، وأرجح عقولاً، وأنضج فكرًا، وأقلّ جلافة، وأرحم سوقيّة من بعض شعراء اليوم من المحيط إلى الخليج؛ لأن أولاء المتأخّرين ربما جمعوا في أحشائهم الشِّعريّة- مع عاميّة اللغة- اتّضاع الفِكر، وتخلّف الأُمّة، وبواعث التعويض. ولا أدلّ على ذلك الإرث البالي، الذي يزيّنه شياطين الشِّعر من الإنس والجن، مِنْ أن الأغراض الشِّعريّة نفسها ذات الأبعاد الأخلاقيّة، التي ظهرت في نهايات العصر الجاهلي- والتي انقرضتْ فلم يعد لها ذكر في الشِّعر الفصيح، أو باتت فيه مستهجنة إنْ وُجدت- كالنقائض، وغرض الهجاء، والفخر، والمديح، ما زالت بين ظهرانينا من أغراض الشِّعر العامي الحيّة، قلّما يخرج عنها شعراءه، بل هم قد لا يُحسنون شِعرًا خارج أُطرها! هذا إلى جانب الغَزَل في قالبه المباشر العتيق، أي ما كان يسمّيه القدماء: النسيب والتشبيب بفلانة بنت فلان الفلانيّة المتيّم بها فلان بن فلان الفلاني!

فهل يماري أحد إذن أن الشِّعر اللَّهجي هو من الناحية القِيمية وريث الشِّعر الجاهلي بقضّه وقضيضه، وبلا منازع؟ وهو حفيد القصيدة الجاهليّة شكلاً ومضمونًا؟ وإنْ تبرّأ من لغة ذلك الشِّعر المعربة، فاصطفى بذاك أسوأ ما في تاريخ الشِّعر العربي، ليضيف عليه رداءة اللغة وانحرافها عن قوانين لغة العرب.

في ثقافة كتلك ها هي تي قناة فضائيّة تُجلس المشعوذ مع حسناء، وتلك قناة فضائيّة تُجلس حسناء في مواجهة ما يُسمّى التراث الشعبي! فالعقل الشعريّ، والعقل الخرافي، ما زالا حاضرَين مستبدّين بالشعب العربي. يُستغلاّن أسوأ استغلال من تجّار العقول والنفوس. ذلك العقل الخرافي العريق الذي ما ينفكّ يعزو كُلّ ما يعجز عن تفسيره علميًّا من الظواهر الصحّيّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة إلى الجنّ والشياطين، بما في ذلك الشِّعر نفسه.

(ولنا مع شياطين الشِّعر جولة أخرى، والعياذ بالله!)

1) البخاري، (1981)، صحيح البخاري، عناية: مصطفي ديب البُغا (دمشق- بيروت: دار القلم)، 5: 2279 (الحديثان 5802- 5803).

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

* (عضو مجلس الشورى) aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة