Culture Magazine Monday  18/02/2008 G Issue 234
ذاكرة
الأثنين 11 ,صفر 1429   العدد  234
 

ياسين رفاعية
محمد حمد البشيت

 

 

يحدثنا الصحفي الكاتب الأستاذ ياسين رفاعية في كتابه (رفاق سبقوا) عن تلك الذكريات الحميمة المفعمة بالمودة الصادقة عن هؤلاء الرفاق الذين عايشهم في بداية مشواره الثقافي الطويل بداية من عمله، بالقصر الجمهوري السوري، بالمكتب الصحفي لجانب زملائه ومنهم الكاتبة (غادة السمان) والمختصة بالتقارير الصحفية التي تصدر باللغة الإنجليزية، بينما ياسين رفاعيه مختص بالتقارير التي تصدر وتنشر بالصحف اللبنانية آنذاك ومعهم الكاتب اسكندر لوقا أما المكتب الصحفي فيديره الكاتب نشأة التغلبي إضافة إلى تلك الفتاة الدمشقية التي كانت تضرب على الآلة الكاتبة، وخلبت لب قلب الشاعر الكبير (أمين نخله) وقال فيها أجمل قصائده تلك قصة أخرى سأوردها هنا فيما بعد. حسبما ذكرها لنا ياسين رفاعية في كتابه (رفاق سبقوا) إهداء الكتاب، كان هكذا: (إلى سعاد الصباح الشعلة التي تتألق جرأة وشجاعة في سماء شعرنا العربي) الأديب الأستاذ ياسين رفاعية، من الكتاب العرب الكبار ذي الباع الطويلة في تناوله لكل موضوع يكتب عنه؛ نتيجة ثقافته الواسعة الغزيرة المتعددة المواهب! كتب المقالة الصحفية اللاذعة فأسمع... كتب المقالة الأدبية المعمقة فأبدع... وكتب المقالة السياسية فأشبع، أشبع نهم القارئ العربي الذي يتابع بشغف معرفة كل شيء وعن كل شيء يجري في وطنه العربي من المحيط إلى الخليج؟ قرأت له الكثير من المقالات والاطروحات الثقافية المتعددة والمميزة معاً، في الصحف اللبنانية والصحف السورية، إضافة إلى ما يكتبه في بعض المجلات العربية وما أكثرها؟ أكتب هذه المقالة (لمجلتنا الثقافية) ليس لكي أنوّه عن الكاتب الرائع ياسين رفاعية، وإن كان من واجبي كقارئ أن أكتب عنه ككاتب عربي له مكانته المشهورة والمشهودة بين الكتّاب العرب!! أقول ذلك دون أدنى معرفة شخصية به؟

وما عنيته بمقالتي هذه مجرد إلقاء نظرة عابرة على الكاتب والكتاب، الذي يحتوي على المعلومة الموثقة عبر رحلة ثقافية جميلة بهذا الكتاب، فقد أتى على ذكر الكثير من الكتاب والشعراء الذين جايلهم والتقاهم ودوّن انطباعاته عنهم، وإنني أعتقد أنه أتى على ذكر أشياء جميلة لم يأت على ذكرها غيره من قبل، دعونا نقلب وريقات كتابه لنعرف شيئاً عن هؤلاء (أمين نخله) و(فؤاد الشايب) و(معين بسيسو) و(خليل حاوي) و(صلاح عبد الصبور)؟

يقول رفاعية، هؤلاء العمالقة هم موضوع هذا الكتاب وهم جميعاً في قمة العطاء وبسبب إبداعهم أولاً وأخيراً، عانوا في نهاية حياتهم وقد لا يكون هناك أي ارتباط بينهم جميعاً سوى الإبداع، إلا إن الموت هو الذي جمعهم في ذاكرة التاريخ واختياري لهؤلاء كان بسبب علاقتي الشخصية بهم، واحد بعد واحد جميعهم عايشتهم سنوات طويلة، باستثناء صلاح عبد الصبور الذي كانت معرفتي به عبر لقاءات متتابعة.

فأمين نخله، سيد الغزل في القرن العشرين دون منازع وسيد اللفظة الأنيقة عانى في السنوات الأخيرة من حياته موتاً بطيئاً قاسياً بعد نزف مفاجئ في الدماغ، أما فؤاد الشايب الذي مات في ذروة شبابه فهو الآخر سقط فجأة بسبب الضغوط النفسية التي عانى منها عندما أحرق الصهاينة في بونس إيرس في الأرجنتين منزله بسبب محاضرة ألقاها باللاتينية في جمهور غفير عدد فيها ألاعيب الصهيونية، أما الشاعر الفلسطيني معين بسيسو فهو أيضاً سقط بعد رحيله من بيروت بعامين فقط. إذ كانت بيروت رئته الشعرية التي كان يتنفس بها ولم يكن قد تجاوز من العمر ثلاثة وخمسين عاماً توفى بلندن، وخليل حاوي الذي انتحر بعد يوم من الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982م، وصلاح عبد الصبور سقط بعد محاكمة مرتجلة وقاسية.

ويأخذنا رفاعية إلى عالم الشاعر الكبير أمين نخله، ويروي لنا قصة حبه مع (فريال) فيقول: حينما كان يتردد علينا أمين نخله بالمكتب الصحفي لم تنتبه غادة السمان ولا أنا ولا الزملاء إلا بعد فترة طويلة حينما اكتشفنا أن الشاعر الكبير أمين نخله وقع في حب هذه الفتاة الدمشقية التي كانت تضرب على الآلة الكاتبة.. فهو حينما يقرأ علينا قصائده وعيناه مصوبة إلى هذه الفتاة ومنها قصيدته التي مطلعها!

أنا لا أصدق أن هذا الأحمر المشقوق فم

بل وردة حمراء من لحم ودم

وقد أثارت إعجاب الأخطل الصغير، فأرسل يدعو أمين نخله. للعشاء ويحبب إليه كتابة الشعر. أمين نخله شاعر البيان الذي ليس له من بين الشعراء مثيل... بل لعل أدق تشبيه في شعره ما قاله الشاعر الكبير نزار قباني عنه: (إنه ينقش الشعر على حبة الرز) وإن عدداً من النقاد فسروا هذا الرأي على أنه رأي سلبي بأمين نخله، لكنه من الناحية الإيجابية واقعي أيضاً.

فقد اطلعت على مخطوطات كثيرة لشعر أمين نخله فوجدت فيها (خرائط) من التشطيب والتغيير حتى أصبح من الصعوبة بمكان قراءة القصيدة ما لم يستعن المرء بأكثر من خبير في فك الألغاز ومع إن خط الأمين من أجمل خطوط الشعراء، بل إنه خطاط ماهر لشدة حبه للعربية. لكن القصيدة ما كانت تخرج من بين يديه إلا بعد تغيير الكلمات فيها مائة مرة وربما أكثر. وسيرد في هذا الموضوع مدى حرصه على شعره من خلال الرسالة التي ستنشر للمرة الأولى التي يطلب فيها من الشاعر السوري، مدحت عكاش تبديل كلمة بكلمة في إحدى قصائده قبل نشرها في مجلته (الثقافية) ولم يسبق لي أن سمعت على كل حال بشاعر عربي أحب العربية وأتقنها كما فعل أمين نخله؟.

أمين نخله تزوج وأنجب ولدين (سعيد نخله المحامي المعروف الآن) وباسل نخله وعاش حياة فيها من المجد الشعري ما لم ينله الملوك والعظماء، ومع ذلك نقي السريرة بسيطاً حبوباً حلو المعشر جليساً جميلاً بين الجلساء،

وأمين نخله كان دائماً صديقاً شخصياً للملوك والأمراء والرؤساء العرب ولساسة البلدان العربية، وقد أهداه الملك فيصل - في إحدى زياراته للسعودية - سيفاً ذهبياً وخنجرين ذهبيين. وكذلك نال هدايا من مختلف الملوك والرؤساء.

متعة ثقافية عذبة في وريقات كتاب - رفاعية - خصوصاً عن أمين نخله. وقد استوقفتني واستهوتني قصيدته (للحبيب الأول).

أحبك في القنوط وفي التمني

كأني منك صرتُ وصرت مني

أحبك فوق ما وسعت ضلوعي

وفوق مدى يدي وبلوغ ضني

هوى مترنح الأعطاف طلق

على سهل الشباب المطمئني

أبوح إذن فكل هبوب ريح

حديث عنك في الدنيا وعني

سينشرنا الصباح على الروابي

على الوادي على الشجر الاغن

أبوح إذن فهل تدري الدوالي

بأنك انت اقداحي ودني

أتمتم باسم ثغرك فوق كأسي

وارشفها كأنك أو كأني

نعم حبنا فانظر بعيني

وعرس للمنى فاسمع بأذني

كأن الصحو يلمع في ظنوني

ويخفق في ضلوعي ألف غصن

على الوتر الحنون خلعت شوقي

وماج هواي في آه المغني

ففي النغم العميق إليك أمشي

وأسلك جانب الوتر المرن

ذات يوم في عام 1983م حمل الأستاذ المحامي سعيد نخله الأعمال الكاملة لوالده وقدمها هدية للأستاذ رفاعية، ثم قال له: إن ثمة كلمات كتبها عنك الأمين في كتابه: (الهوى الطلق) وكان أمين نخله نشر فصول هذا الكتاب في مجلة الأسبوع العربي، يقول الأمين نخله عن ياسين رفاعية: (أعرف في دمشق كاتباً من أحب الكتاب والشباب إلى نفسي، أبوه صانع خبز، فهو حين يدير في الأحاديث ذكرياته يقف الماء عموداً، كما يقول مثلنا في لبنان، من فرط ما يشيد باسم والده؟

في أخي ياسين رفاعيه ياابن خباز دمشق، أبوك لله دره فهو الذي من فرنه بعث إلي (مائدة أفلاطون) بهذا الرغيف الشهي، واذكر الناس قول الشاعر: (وبات على النار الندى والملحق).

في ختام مقالتي هذه عن كاتبنا ياسين رفاعية هناك الشيء الكثير الذي لم آت عليه في كتابه (رفاق سبقوا)، ولكنني اخترت بعض ما كتبه يراع هذا (الفيحائي) نسبة إلى الفيحاء دمشق، دمشق الغوطة وبردى والفيجه وبلودان وقد ارتشفنا مياهها العذبة مثلما هي عذوبة كتابها وشعراءها أمثال. نزار قباني، وسليمان العيسى، وياسين رفاعية، وغاده السمان، وعبدالسلام العجيلي. وغيرهم من الكتاب الذين يتابع القارئ نتاجهم لما تحتويه كتبهم من مادة ثقافية حاملة سمة التجديد وليست سمة التكرار والترديد.

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة