Culture Magazine Monday  21/01/2008 G Issue 230
فضاءات
الأثنين 13 ,محرم 1429   العدد  230
 

المال والمثقف العراقي 5-5
قاسم حول

 

 

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

قرآن كريم

في أعوام التسعينات وبالذات في نهاياتها كان التحرك السياسي العراقي للمعارضة العراقية القاطنة في بلدان العالم الأوربي والأمريكي تتحاور مع الولايات المتحدة الأمريكية للعمل معها كأدلاء في غزوهم للعراق. لم تكن مؤتمرات المعارضة العراقية تحمل الأمل الجميل بل كانت أشبه بوليمة لتقاسم الغنيمة العراقية بين أحزاب دينية وقومية. وكان حضور اليسار العراقي هامشياً أو يكاد أن يكون غائباً. وسرعان ما وضحت معالم الصفقة، رأس العراق وليس رأس النظام.

في هذا الوقت كانت ثمة حبكة ثانية تجري بشكل سري حيناً وعلني حيناً آخر وهو تشكيل فرق عمل ثقافية وإعلامية يتم تدريبها في الأجهزة الأمريكية في الولايات المتحدة الأمريكية لتلتحق كفرق إدلاء ثقافية وإعلامية. لم تكن كل الأسماء معروفة حيث كان بعضها يعتمد السرية والاختفاء خلف مؤتمرات وندوات ودورات ثقافية في أمريكا. ولكن عندما بدأ غزو العراق وتمت الإطاحة بالدكتاتور ونظامه فوجئ المثقفون العراقيون بكثير من الأصدقاء وأعضاء في الرابطة الثقافية للمغتربين العراقيين، قد عادوا إلى العراق داخل شاحنات الجنود وطائراتهم وآلياتهم العسكرية ليتسلموا المواقع الإعلامية والثقافية التي شغرت بهروب رموز النظام البعثي الثقافية خوفاً من حالات الانتقام.

كانت الصورة ضبابية في البداية ولكن معالمها اتضحت فيما بعد، ولكن ثمة تمهيد لهذه الظاهرة. وهذا التمهيد يتمثل في أمرين، الأول إسقاط نظرية المؤامرة. والثاني تسخيف العقلية التقليدية للمثقف العراقي.

لقد بدأ الكثيرون من الكتاب العرب والعراقيين يعملون على إسقاط نظرية المؤامرة وساهمت قنوات فضائية كثيرة في تعميم فكرة سخف تعبير المؤامرة حيث لا يجوز أن نعزي كل شيء إلى وجود مؤامرة على الشعوب وعلى الأوطان فهذا محض افتراء وهي نظرية قديمة أشاعها الروس والأحزاب الشمولية على حد تعبير المثقفين المنخرطين في دورات الأجهزة الأمريكية.

وفي ذات الوقت بدأ العمل على إشاعة سخف العقلية التقليدية العربية والعراقية التي تعتبر التعاون مع مؤسسات ثقافية أمريكية والحصول على دعم لتطوير الجانب الثقافي العراقي هو نوع من العمالة للخارج والأجنبي والمحتل. وملخص الإشاعة أن ثمة مؤسسات تمتلك أرصدة لتطوير الثقافة في العالم وبشكل خاص عالم الشرق الأوسط، وتعميم فكرة المؤسسات والمجتمع المدني. فما المانع للاستفادة من هذا الصندوق الدولي لإنعاش الثقافة العراقية؟!

وتحت خيمة هاتين النظريتين ظهر عدد من الأسماء في الحياة السياسية والثقافية العراقية شكل بعضها مفاجأة للآخرين حيث تكونت لجان تحت الوصاية الأمريكية والإسرائيلية أحياناً تتقاضى رواتب يسيل لها لعاب المحتاجين داخل العراق وخارجه أيضاً. ففي حين كان راتب الصحفي في تحويله بحسابات الدولار بين عشرة وعشرين دولاراً شهرياً إبان الحقبة الدكتاتورية (وطبعاً لا تحسب الحسابات بهذه الطريقة بسبب هبوط سعر الدينار العراقي) ولكن الراتب ما يعادله بالدولار فإن راتب المثقف الذي دخل العراق مع الأمريكيين كان بحدود الأربعة عشر ألف دولار شهرياً في حدنه الأدني. وهناك رواتب استثنائية. وعلى سبيل المثال:

في مقابلة أجريتها مع وزير عراقي خلال إخراجي لفيلم وثائقي سألته عن معدل رواتب موظفيه الإعلاميين في الوزارة فخبرني بأن لديه كوزير مستشارين اثنين من الإعلاميين، الأول عينه هو أي الوزير ويتقاضى راتباً شهرياً قدره خمسمائة دولار في الشهر وهناك مستشار آخر تم تعيينه من قبل الأمريكيين في وزارتة بعقد سنوي مقداره ثلاثمائة وستين ألف دولار في العام أي بمعدل ثلاثين ألف دولار شهرياً. ولم تكن هذه الرواتب هي الحد الأعلى الذي حصل عليه الآتون بل أن ثمة صفقات وعقود تمت في مجال الإعلام والثقافة باعتبار أن كل شيء تهدم وكل شيء قابل للتجديد وكل شيء يؤسس من جديد ويتم شراء تلك المعدات بعقود مع شركات أمريكية تزود العراق بالمعدات التقنية وتؤسس الفضائيات وتنشيء مراكز الدراسات والبحوث وتنشيء الصحف الجديدة والديمقراطية وتجلب المطابع الحديثة فوضعت ميزانيات لإعادة إعمار العراق وصناديق للتنمية ومنها التنمية الثقافية والحديث يتم عن عشرات وأحياناً مئات الملايين من الدولارات. لقد وقف أحد الكتاب أمام حجم الصفقات التي ينظر إليها والرواتب التي يتقاضاها زملاؤه وهو حائر أين يذهب وعائلته وأولاده هرباً من التهديد والموت وهو لا يملك شيئاً يساعده على الهروب، وقف مندهشا وقال (أنا نادم إني كنت شريفاً) وبكى.

بين إندهاش مثقفي الخارج لما يجري أمهامهم وهم مدعوون للعمل في سيارات صناديق القمامة وبين مفاجأة مثقفي الداخل الذين ظنوا بأن زملاءهم غادروا العراق بدافع الحلم الثقافي الجميل والمحافظة عليه، فإن ما يحصل للعراق ولمثقفيه ليس بعيداً على الإطلاق عن مفهوم المؤامرة بل هو المؤامرة بذاتها وعلى كل مثقف عراقي وعربي أن لا يسهم في إسقاط نظرية المؤامرة، ففي ذلك جزء من المؤامرة ذاتها. إن إسقاط نظرية المؤامرة مردود تماماً، حيث المؤامرة تكمن في العائلة الإنسانية الواحدة، فإتفاق أب وأم على طريقة تزويج ابنهم أو ابنتهم هو شكل من أشكال المؤامرة فكيف بمصالح دولية كبيرة وثروات خرافية الحجم وشركات عملاقة تنتعش بعد مخاوف إفلاسها وستراتيجيات مرسومة لمنطقة شرق أوسطية.. كيف يجري كل ذلك من دون تخطيط، من دون مؤامرة.

بين إندهاش مثقفي الخارج ومفاجأة مثقفي الداخل يقف الضمير حائراً في وقت بدأ فيه بقايا المثقفين داخل العراق يسافرون بإتجاه الشام وعمان أماناً من موت مؤكد تقوم به قوى متعددة (بدون نظرية للمؤامرة وبدون العيش بالعقلية التقليدية التي أكل الدهر عليها وشرب) فيجري اغتيال المثقفين والأكاديميين في حين يتمتع الآتون من المثقفين مع القوات الغازية، يتمتعون بالحماية والحراسات والعيش في المنطقة الخضراء فانسحب بعضهم بعد عدة أعوام من الرواتب الكبيرة والعمولات المتأتية من الصفقات التجارية الإعلامية والثقافية، وعادوا إلى بلدان اللجوء وذهب الآخرون بعيداً في الاستثمارات الثقافية والإعلامية وعملوا على أن يبقى العراق بدون قوانين للثقافة والإعلام لكي تبقى الصفقات قائمة والعمولات قائمة وتعقد كلها بدون رقيب قانوني.

لقد كان من المفروض أن لا يحصل للعراق وللمثقف العراقي كل الذي حدث، وأن يعيش المثقف العراقي متوازناً بين الواقع الاقتصادي في بلده الخزين بالثروات الهائلة والتاريخ العريق وبين حلمه المشروع، لكن المشاريع السياسية والأحزاب اليسارية واليمينة والسلفية كلها وبدون استثناء عمدت على تخريب الوطن لحساب الأرباح الذاتية المريضة، فتركت المواطنين في صراع والمثقفين في صراع مع الذات ومن ثم مع الآخر المختلف بطريقة قاسية وكل ذلك بسبب الفقر والفاقة والحرمان.

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة