Culture Magazine Monday  22/12/2008 G Issue 263
فضاءات
الأثنين 24 ,ذو الحجة 1429   العدد  263
 

رواية (كلاب جلجامش)
قاسم حول

 

 

مقدمة: في مدينتي (البصرة) أحد أصدقائي يكتب ولكنه قليل النشر ويحاول أن يبتعد عن النشر في العراق فينشر مقالة في مجلة أدبية في مسقط أو مجلة نسائية في الكويت، ينشر مقطوعة قصصية أو قصة قصيرة وهو لا يعتقد أن أحداً في العراق أو في البصرة يمكن أن يقرأ مثل هذه المجلات البعيدة التي لا توزع في العراق. طرق بابه أحدهم ذات ليلة. نهض صاحبي وفتح الباب. واجهه عند باب الدار رجل ممتلئ يلف رأسه بيشماغ ويلفه حول رقبته. سأل الطارق بأمر منه أو بإيعاز من غيره، هل تستطيع أن تكتب كتاباً أهم من كتاب (مفتاح الجنان) ففهم صاحبي السؤال بوضوح وفهم أن قصصه المنشورة في البعد قد تمت قراءتها وهي غير مرغوب فيها. أجابه (طبعاً لا أستطيع)، فقال له الطارق (طالما لا تستطيع تأليف كتاب أهم من مفتاح الجنان فعليك التوقف عن الكتابة)!

اسم هذا البلد (العراق) وأطلق عليه مؤلف رواية كلاب كلكامش (سواديا) وهو ما يعرف به العراق - أرض السواد. وفي هذا البلد تدور أحداث رواية الكاتب والسينمائي العراقي شاكر نوري المقيم في دبي.

العراقيون الذين تركوا بلادهم قسراً بسبب ما آل إليه الوطن والحال تناثروا في بلدان العالم. وبعضهم ضاق به العيش والبرد والرتابة فعاد إلى بلدان الشرق والخليج كي ينعم بشتائها أو يكتوي بصيفها. هذه الفوضى والخلل الذي أصاب العراق وأصاب الثقافة العراقية أنتج أدباً جديداً وفناً جديداً ينتمي للثقافة العراقية المهاجرة. لم تكن هي المرة الأولى في التأريخ التي تشهد الثقافة فيها هجرة والمثقفون تهجيراً، ولن تكون الأخيرة، فقبل هذه الكارثة التي حلت بالوطن العراقي ثمة كارثة حصلت في اليونان وقبلها في تشيلي وقبلها نسبياً في المعسكر الاشتراكي. لكن كل تلك الهجرات كانت قصيرة ثم عاد المهاجرون مثل طيور السنونو إلى أوطانهم حيث الدفء والشمس.

هجرة العراقيين طالت وقد تطول أكثر، فالمسألة لم تكن عسفاً سياسياً ولا حتى موتاً مادياً بل أن الأمر تجسد في ثقافة استيطانية طردت ثقافة أهل البلد وثقافة تأريخهم وثقافة التلاقح مع الثقافات وفرضت ثقافة سلفية مفسرة بطريقة عجيبة صارت تحكم أقلام المثقفين وتحكم نمط تفكيرهم وهو شأن يشبه الاستحالة لكنه حصل بنسبة ما لأن البديل هو الفناء من الوجود ما حدا بالمثقفين قدر استطاعتهم للهجرة وصارت رواياتهم حادة وذات رموز ودلالات هي أشبه بالكوابيس وبأحلام اليقضة المرهقة فتجد في الروايات، التململ في الحب والتململ في الحرية والهروب من المكان إلى اللامكان والتنقل بين الحلم النائم والحلم اليقظ وبين الحلم الواعي والحلم اللاواعي فتدخل الروايات والقصص في عوالم مسكونة بالخوف والرفض والأمل الغائم.

رواية كلاب كلكامش:

رواية (كلاب كلكامش) الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات المختلف تتحدث عن ثلاثة من الأصدقاء لم تكن الأناشيد الوطنية تعنيهم في المدارس ولا الأبواق التي تجسد تلك الأناشيد، وسافروا تاركين الوطن. أنور وسرمد وبطل الرواية. وجدوا أنفسهم في باريس. سرمد قرر العودة إلى وطنه المسمى (سواديا). أنور، بعد سنوات مات في المستشفى بباريس وبطل الرواية ذهب إلى أمريكا. تأتيه برقية من ممرضة جزائرية في باريس تقول: (مات صديقك أنور صباح اليوم في تمام الحادية عشرة والنصف ليلاً في مستشفى هوتيل ديو وترك لك وصية أرفقها مع هذه البرقية. أقدم لك أحر التعازي. الممرضة زهرة مستشفى هوتيل ديو).

الوصية تقول.. (كل ما أطلبه منك أن تقوم بنقل جثتي وتعمل على دفني في بلدنا سواديا. لا أريد أن أدفن في بلاد الغربة بل أعانق الأرض التي ولدت فيها. لا تحزن. الموت حق، أو هكذا علمتنا الكتب السماوية منذ الصغر وحفظناها عن ظهر قلب دون أن نعي معانيها. لقد رتبت كافة الأمور المالية لهذا الغرض لأنني لا أريد أن أرهقك بموتي بعد أن أرهقتك بحياتي. لا تنسى أن تودع بالنيابة عني صديقنا سرمد. أنت تعلم حتى البرقيات لا تصل إلى هناك. وأعلم أن لا أحد لي سواك في هذا العالم. فهل تحرص على تحقيق وصيتي؟ صديقك إلى الأبد أنور)

أصبح بطل الرواية مثقلاً بدفن جثة صاحبه في بلاده وعليه أن يحملها عبر ممرات الواقع وممرات الوجود ليدخل سواديا فيجدها كياناً سوريالياً، كل الإجراءات فيها لا تمت للواقع بصلة. فها هو البطل بين الرحيل من مكانه إلى مكانه حيث يقيم وبين السفر الواقعي عبر الحدود. وسط هذا الكابوس المفجع تقدم الرواية مشاهد شاعرية، لكن الكاتب مر عليها سريعاً فناديته: لماذا هكذا لا تجيد التوقف في المشاهد الشاعرية وتطيل البقاء في الأمكنة المدمرة؟! مشهد سفر بطل الرواية إلى باريس لنقل جثمان صاحبه ولقائه بالممرضة الجزائرية الأصل كان مشهداً حوارياً ووصفياً مؤثراً وهادئاً ومشحوناً بالصور والتأملات العالية المستوى في الوصف، لكن الكاتب كان كمن يريد أن يخرج من هذه العلاقة الرومانسية ليصل إلى مشاهد الخوف والرعب في سواديا أثناء نقل نعش صاحبه عبر الحدود والدخول في المدينة التي لم تعد مدينة كما ألفها. يكتشف بطل الرواية عدم وجود مقابر في العراق لأن العراقيين عندما يموتون يطلق عليهم اسم خالدون لأنهم يموتون في الحروب من أجل الوطن. فكيف سيدفن صديقه وسواديا من دون مقابر!؟

كان عليه في البداية أن يجد صاحبهما سرمد كي ينقل له وصية أنور في وداعه، لكنه لم يعثر عليه حيث المؤسسة التي يعمل بها مقصوفة وصارت بقايا أطلال. فيظن أن المكان الوحيد الذي يمكن أن يعثر فيه على صاحبهما سرمد هو الحانة، المكان الذي كانوا يرتادونه سابقاً. وفعلاً يذهب إلى الحانة فيجد سرمداً هناك ولكنه هرم وكبير فيعانقه ويبكى ليكتشف أن (سرمد) أصم وأبكم وتقول له صاحبة الحانة: لقد ضربوه على أذنه ورأسه فلم يعد يسمع ولا ينطق. سرمد يحمل في جيبه دفاتر كثيرة صغيرة وأقلاماً لكي يتحدث مع الناس عن طريق الكتابة. كان على بطل الرواية أن يشرح كل شيء عن طريق الكتابة ويعبر عن مشاعره عن طريق الكتابة على دفاتر صغيرة يحملها سرمد في جيوبه. والكتابة هنا رمز عن أن العراقيين هم أول من أخترع الكتابة وها هم يكتبون بها ولا ينطقون ولا يسمعون، فالرواية كلها تحتمل الرموز والتأويل والتفسير. يحاول مع صديقة ومع صاحبة الحانة التي فيها رمز لسيدوري صاحبة الحانة في ملحمة كلكامش أن يدفنوا جثمان أنور ولكن لا توجد مقابر في البلد حيث العراقيون خالدون حسب أوامر السلطات ومشعلي الحروب. ولكن بعد محاولات يرحلون فيها عبر الكلك، السفينة القصبية والرحيل للبحث عن حل ومكان لدفع رفاة أنور، لكن الجثة تتجاوز الأيام فتتعفن وتطال رائحتها أجواء سواديا فيفرح أهل سواديا، أن ثمة جثة غير خالدة وستدفن وستنشأ مقبرة يستطيعون فيها دفن مواتهم حيث أصبحوا مثلهم مثل غيرهم لديهم مقابر وهم ليسوا بخالدين وينبغي على من يموت منهم أن يدفن.

روايات واقعية عن واقع لا معقول!

فلسفة اللامعقول هي فلسفة شكلية وليست فكرية هي فلسفة اختراق الواقع وتهشيم الواقع وإتاحة الفرصة للمخيلة أن ترحل عبر اللامعقول حتى يصبح معقولاً في تفسيره أدبياً وفنياً. اليوم فكرة اللامعقول كاتجاه أدبي وفني أصبحت فكرة واقعية ومعقولة لأن الواقع نفسه بات لا معقولاً ولا يخضع للمنطق في بلاد سواديا - العراق. وإلا ما معنى أن يطرق بابك رجل لا تعرف صفته ومن أين أتى ولماذا أتى وبأي حق أتى ليسألك سؤالاً غريباً (هل بمقدورك أن تكتب مؤلفاً مثل مفتاح الجنان؟) فتخاف وتقول له (طبعا لا)، فيبلغك أن تتوقف عن الكتابة ثم يمشي مغادراً. لنقرأ هذا المقطع من الرواية في مشهد البحث عن فرصة دفن جثمان صاحبه أنور.

(قلنا يا أستاذ بأن المقابر أزيلت من الوجود، بل ولم يبق لها من أثر. ألا ترى شعارات الخلود التي تملأ الجدران والطرقات والساحات. انظر إلى الملصقات، إن من يفكر بالمقابر مخبول في هذا البلد). وأطلق تنهيدة عميقة، وهو ينظر إلى ربطة عنقي قائلاً (كنت أبحث عن ربطة عنق تصلح لبدلتي الجديدة. هل تمانع من إهدائها لي؟) منحته أياها فنظر لي كمن يسدي لي نصيحة (حاول أن تدفنه في أية بقعة ولا تتعب نفسك في البحث عن مقبرة)

ولكن أين ذهبت أكبر مقبرة في العالم؟

قهقه السائق ساخراً (تحولت إلى عمارات وأبراج وفيلات وحدائق وشوارع ومتنزهات)

(كانت في ذاكرتي مقبرة تشبه المتاهة تقطعها الشوارع والطرقات وقبورها مرقمة ويعمل فيها طاقم كبير من حفاري القبور، مقبرة مشيدة هندسياً على شكل الإنسان مصلوباً، يداه ممدودتان بألم لكن ذوي الموتى لما تنبهوا سارعوا إلى قطع اليدين الممدودتين خشية أن تأخذا شكل الصليب فتتحول إلى نعش مسجى على الأرض يسهر عليه الحراس من أجل منع علميات نبش القبور)

الرحلة التي سافر فيها بطل رواية شاكر نوري إلى بلاده سواديا هي رحلة مركزة وفيها مشاهد صورية بليغة في إكتشاف المكان والشخوص مهما بلغ قصر المشهد، حيث وبسبب الرؤية السينمائية للكاتب فإن عمله ينتمي إلى الرواية السينمائية وهو أدب غير مألوف عربياً حيث ثمة روايات سينمائية لها متعة الرواية وتنعش المخيلة في الصورة (خريف مسز ستون الجميل لتنسي وليامز والأم لبودوفكين مثالاً) وبالرغم من كثرة الانتقالات في الرواية والابتعاد عن المنولوجات الداخلية للشخوص فإن الكاتب كان من القدرة على أن يجعل المتلقي على معرفة بالشخصيات والمكان وأجواء المكان بقدرة فائقة. فالمشاهد المتعلقة بصاحبة الحان لم يتوقف عندها كثيراً ولكنها كانت بليغة وواضحة. هذه الشخصيات مع صديقه سرمد الأصم والأبكم الرحلة في سفينة القصب (الكلك) تنقلك إلى أجواء الأسطورة السومرية دون أن تفقد معاصرتها وحداثة الحوار والبناء.. الأسطورة والمعاصرة تلتقيان بجدارة في رواية (كلاب كلكامش)

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

هولندا sununu@ziggo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة