Culture Magazine Monday  22/12/2008 G Issue 263
فضاءات
الأثنين 24 ,ذو الحجة 1429   العدد  263
 
النداء المؤلم
بدور الأحيدب

 

 

كعمودٍ صَدِئ متهالك بيد طفل مات منذ زمن..

ككلمةِ وداعٍ أخيرة..

كرأس مختبئ تحت وسادة يبحث عن نوم..

كحنين أنثى - تساوت عندها الحياة - إلى لذة البكاء..

كرائحة كآبة عتيقة اندست في ثنايا روح..

كفتاة تحرم نفسها كل ما تشتهيه الفتيات لأجل أمها الفقيرة..

كطفل مشرد تفوح من جسده رائحة الحزن والوحدة واليتم..

كسطور جرحها الألم..

كنت..

بيد أن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة..

(كُلُّ ما هُوَ خَارِجِي يُمكِن مُواجَهَتُه

يُمكِن مُقَاوَمَتُه يُمكِن تَحَدِّيه

غَيْرَ أَنَّ ما هُوَ دَاخِلِيّ

يَتَطَلَّبُ مُجَاهَدَةً مِنْ نَوْعٍ خَاص)

حنا مينة:

بضعة وعشرون عاماً مضت ورئتاي لا تزالان تشهقان دهشة سواد الحياة وتزفران الوجع بصمت، ورغم ذلك ما فترت أقشع الألم من كل الأرواح التي تقصدني..

كانت أحلامي بسيطة منذ طفولتي التي كنت أجهل فيها حتى شعور الطفلة حين تحتضن دميتها، أجهل منظر البحر الذي سلب عقول قريناتي حين يصفنه لي والذي أضناني أن أتخيل شكله أو حتى مجرد طعمه المالح..

أجهل السفر وصخب المدن الكبيرة..

كان كل ما أملكه وقتئذ أن أنام في سطح منزلنا وأشارك القمر والنجوم أحاجيهم وضحكاتهم.. كنت كثيراً ما أتقرفص أمام عمود الكهرباء الذي يعتليه مصباح ينير حلكة الظلام والذي تتجمع حوله أسراب الجراد وحشرات أخرى في الليل..

كنت أتحسس أصابع قدمي الصغيرة الغضة وأرسل بصري حيث المصباح وكل الحشرات المحيطة به وأغرق في التأمل..

لم أكن أحبذ أبداً قتل الحشرات، وكنت أستنكر عمل أختي التي تكبرني بعامين حين هي تمسك الجراد وتتسلى بقص جناحيه كي يفقد قدرته على الطيران..

كبرت لكن الطفلة لا زالت بداخلي أحتضنها كل حين وأبكيها بداخلي كل غطة مساء..

صرت حكاية أتشرد فيها في دهاليز الوحدة أبحث عن وطن دفء وحنان..

حضن الأم لم أتذوق طعمه ليس لأني فقدتها بل حتى وأنا أعيش في كنفها لكن أمي لم تعر عواطفي واحتياجي المتعب لحضنها أي اهتمام.. لم أكن أتذكر أبداً أن أمي قد احتضنتني أو قبلتني أو حتى مسحت على رأسي لتعوضني فقد أبي رحمه الله..

لم أرضخ لواقعي المرير فصرت أختلس اللحظات لأدس رأسي في حضنها أو أسرق منها قبلة لكن سرعان ما أصاب ببؤس شديد حين تصرخ أمي في وجهي:

أنت كبيرة على مثل هذه التصرفات.

كانت الطفلة تصرخ بداخلي أن انظري إليّ يا أمي فأنا ما زلت طفلة.. انظري إلى ملامحي التي لا تزال تحتضن براءة الأطفال ونقاءهم.. انظري إلى كل تصرفاتي التلقائية بلا أقنعة زائفة وبلا خبث الكبار..

أمي.. ما زلت طفلة.. متى ستدركين أني أحتاج إليك أكثر من أي وقت مضى؟!!

كنت دائماً أتساءل: لماذا تختلف أمي عن أمهات صديقاتي؟!

ابتأستُ وأمي تكوم جمود الأسئلة أمامي ولا إجابة تذيبها!!

مفارقة صعبة بيني وبين شقيقاتي اللاتي يشبهن كثيراً طباع أمي.. كن قاسيات شديدات لا يحبذن أبداً إظهار مشاعرهن حتى مع أطفالهن!

لم أنس أبداً حال صديقتي مريم حين صارحتني بأنها متعبة؛ لأنها لم تحتضن أمها منذ يومين.. كانت مريم تتكلم عن حضن الأم وأنه لا يوجد أي صدر يمكن أن يمنح ويشبع كما يمنح ويشبع صدر الأم.. لم أنس أبداً أنني طأطأت رأسي وفرت دمعة من عيني كان سجّانها الاحتياج.. همستُ لصديقتي:

أنتِ الآن متعبة لأجل يومين فقط فكيف بعمر بأكمله؟ كيف تتصورين فتاة تجهل ملامح حضن الأم؟!

لحظتها صمتت صديقتي واحتضنتني وبكينا.. اختلافي عن طباع أسرتي الجافة كان يتعبني كثيراً.. كنت فيضاً من مشاعر متدفقة؛ ومن هنا بدأت المعاناة!!

غمرني الألم والتعب والاحتياج فانكببت على الكتب أقرأ وأكتب.. أنبش الكلمات بحثاً عن إجابة.. أعصرها.. ولكن لم أجد سوى وحشة الصمت وأسئلة لا تزال عارية من إجابة تكسوها..

كنت كثيراً ما أحبذ الجلوس تحت الشمس حتى في ظهيرة الصيف الحارقة.. شعور ما كان يخالجني بأن حرارة الشمس ربما تغمرني بشيء من حنان!!

وسارت حياتي بشكل رتيب ممل.. واستمرت وسادتي تشرب من ماء عيني كل ليلة؛ فكنت دائماً ما أودع صحوتي وأستقبل غفوتي بالدمع وكأن يداً تهصر قلبي وتملؤني بالوجع..

وذات مساء أسجيت جسدي على سريري من تعب ترتيب الدار، أغلقت الأنوار وغرقت غرفتي في ظلام دامس لا أكاد به أن أميز أو أقرأ حكايات أصابعي التي دائماً أجادلها بعملها السابق في أحضان يومي.. ألومها وأقبلها حسب مقتضيات أفعالي، هذا المساء تركت أصابعي تسقط على صدري، وكأني كنت أخاف ألا يستدل الهواء إلى صدري، خشخشة عند الباب، ومن ثم انفتح لتعم غرفتي مساحة من النور القادم من الصالة لأجد جسد أمي التي لم أتبين ملامحها، وقبل أن تتقدم خطوة واحدة قالت:

نائمة؟!

اعتدلت جالسة وفركت عيني وأنا أجيبها:

لا يا أمي لم أنم بعد، تفضلي...

من خلال النور الصارخ القادم من خلف أمي رأيت يدها تمتد لتضيء النور الذي سطع في عيني ليضعف نظري المحفوف بأصابعي وكأني أتفادى شمس ظهيرة حارة، اقتربت أمي من سريري وجلست على حافته وابتسامته هادئة طيبة تتعلق بشفتيها، تلك الابتسامة التي عصرتُ كل أيامي لأفوز بها وخسرتها وجدتها اليوم تأتي إليَّ دون أن أنتظرها، وقالت بصوت خفيض:

بنيتي اشتقتك..

احتضنتني بقوة أنستني جفاف السنين الماضية..

ضحكنا من فرط السعادة ثم بكينا..

ولا حرف يترجم صدق مشاعرنا وقتئذ..

كل شيء غاب لحظتها ولم يسعفني الحرمان الذي عشته أن أسألها:

ما الذي غيّرك يا أماه؟!!

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة