Culture Magazine Monday  22/12/2008 G Issue 263
قراءات
الأثنين 24 ,ذو الحجة 1429   العدد  263
 

ثقافتنا بين المكتوب والمكبوت
د. خلف الجراد

 

 

تتسم الثقافة العربية بغَلَبة الطابع الازدواجي عليها، بين خطاب منطوق معلن، وآخر مُضْمَر مسكوت عنه، أو بين المستتر المكبوت والظاهر المكتوب، إلى درجة أن بعض الباحثين يؤكّد أن المسكوت عنه أو المخفي والمكبوت أكبر بكثير وأهم دلالة ومعنىً من المنطوق به أو المكتوب والمعلن والمعَمّم. وقد كان للثقافة العربية على الدوام إطاران مرجعيان، أكبرهما ثابت مستتر في معظم الأحيان، والآخر متغّيرٌ ومعلن في جميع الأحيان.

وبرأي الدكتور غالي شكري، فإن الإطار المرجعي الثابت للثقافة العربية يتألف من مجموعة القيم الدينية والأعراف والتقاليد والعادات المنحدرة منذ أحقاب موغلة في القدم والمختلطة بعضها ببعض على نحو بالغ التعقيد، بحيث يصعب تحديد انتمائها (النقي) إلى دين من الأديان أو عصر من العصور. ولكنها تشكل في الوعي واللا وعي مجموعة من ضوابط السلوك الفردي والجماعي وأنماط التفكير، التي من شأنها التداخل، ربما غير المرئي، في نسيج أية (دعوة) أو (رسالة) أو (رؤية)، مهما ابتعد بها منطوقها عن الفكر الديني أو القيم الطائفية أو الأعراف القبلية والتقاليد العشائرية والعادات العائلية. وما زالت هذه الأنساق من الأفكار والقيم والسلوك والانفعالات سارية المفعول إلى وقتنا الحاضر، تهتك بقسوة أستار (المكبوت) في حياتنا (د. غالي شكري، الخروج على النص، 1994، ص160). والحقيقة فإن الدين والسياسة والجنس تشكّل المصادر الكبرى للإطار المرجعي للخطاب الخفي والمكبوت، غير المصرّح عنه والممنوع (دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً). وهي مصادر أطلق عليها الكاتب الراحل بوعلي ياسين تسمية (الثالوث المحرَّم)، لكنّه بسَّط الإشكالية والمسألة برمتها، حيث أعادها إلى (الصراع الطبقي أو الاجتماعي المغلف بأشكال وأقنعة لفظية واصطلاحية مختلفة). إذ يرى في إطار هذا التفسير (الطبقي - الاجتماعي) أن الفرد المُحبَط الذي لا يستطيع حلّ مشكلاته المتفاقمة قد يلجأ إلى الخمرة أو المخدّرات أو الانتحار أو الزهد الديني ...إلخ، أما الطبقة أو الفئة الاجتماعية الفاشلة فلا ترى أمامها سوى الإيديولوجيا المتلاعبة بوعي الجماهير (عبر التضليل وتزييف الوعي والحقائق)، لأنها مضطرة إلى التبرير، وإقناع الآخرين حتى بما هي نفسها غير مقتنعة به. فتلجأ مثلاً إلى اصطناع التدين المبالغ به، أو ارتداء لبوس القيم ومظاهر العفة... وغير ذلك من أقنعة لإسكات المحيط والإمعان في تضليله، والتلاعب بأحاسيسه وعواطفه وتوجهاته.

من هنا يربط بوعلي ياسين بين استغلال الدين وعادات الكبت المتصلة بمسائل الجنس والسياسة من طرف فئة مُعيّنة، لتشكّل في مجموعها سلطة غير قابلة للمناقشة أو المراجعة أو التشكيك. وقد قاده هذا التفسير (المادي للتاريخ والدين والعلاقات الاجتماعية) إلى الربط بين الصهيونية والنهب الإمبريالي، واستبداد الطبقات الحاكمة، وتحالفها مع فئة تدّعي النطق باسم الدين وقيمه أو تحاول (الإيقاع بالجماهير في نفوذ أصحاب الدعوات المتلبسة بلباس الدين) (بوعلي ياسين، الثالوث المحرَّم، ط5، بيروت، 1985، ص261 - 262).

وبرأينا فإنّ تفسير مسألة الازدواجية في الخطاب الثقافي العربي (بين المكتوب والمكبوت) لا يمكن أن يعزى من الناحية العلمية والموضوعية والواقعية إلى عامل واحد أو سبب بعينه، دون النظر إلى تشابك العناصر والمسببات والمؤثرات التاريخية، والاجتماعية، والدينية، والسياسية، والثقافية، والنفسية (السيكولوجية). بل قد يتوهم بعض المثقفين أنّ ما يتطلعون إليه أو يحلمون بتحقيقه هو ما يفكر به العامة أو يسعون لبلوغه، فيزداد أصحاب هذه الرؤية تمسكاً بآرائهم وأفكارهم. ومن أجل استقطاب الرأي العام، فإنهم يخاطبون الناس (على قدر عقولها) أو تبعاً لأهوائها واتجاهاتها. وفي هذا السياق الانتهازي والنفعي ترتفع وتيرة المحاباة والمسايرة للأفكار الخاطئة والسلوكات المتخلفة، وحتى لبعض العادات والتقاليد، المناقضة في جوهرها لروح الدين والعقل والمنطق. ومن نافل القول أنّ هذه (الشعبية) المصطنعة، والتقرّب غير الصادق من الناس، لا تتطابق مع حقيقة ما يفكر به هؤلاء المثقفون، الذين يضمرون ويبطنون غير ما يصرّحون به أو يلقنونه لطلبتهم في الجامعات، أو ما يتحدثون به في الندوات والملتقيات والفضائيات. فمكمن العلَة إذاً ليس في المعرفة واللا معرفة، أو في الفجوة بين المثقفين وبيئاتهم الاجتماعية والثقافية (المتأخرة)، وإنما في ازدواجية عدد من هؤلاء المثقفين وممارساتهم المتناقضة، وما تتسم به مواقفهم من ثنائيات وتعقيدات، ولا سيما بين الذات والموضوع، بين القول والفعل، بين المنطوق والمسكوت عنه. مع الإشارة إلى أن مثل هذه التناقضات والأضاليل لن ينتج عنها سوى الفشل والخيبات، فكلما ازدادت الفئات المثقفة إيغالاً في تناقضاتها وتناحراتها وا زدواجية سلوكها، زادت مساحة التزييف والنفاق والمسكوت عنه، وكبرت الفجوة المعرفية والحضارية بيننا وبين الآخرين، ودفعت الثقافة الحيّة والمثقفون الصادقون وقوى التجديد الثمن غالياً، وتلكأت عملية النهوض أكثر فأكثر، وأصبح التقدم المجتمعي أصعب وأعقد وأشد عسراً؟

دمشق www.Khlaf-aljarad.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة