Culture Magazine Monday  23/06/2008 G Issue 253
فضاءات
الأثنين 19 ,جمادى الثانية 1429   العدد  253
 

عطف المستبدّين وتعليم الضعفاء
د. مصلح النجار

 

 

يقول المعلم البرازيلي العريق الدكتور باولو فريري Paulo Freire (1921- 1997): لا يَحصلُ المستبَدُّ بهم على تعاطف المستبدِّين إلا عندما يواجهونهم بالعنف، فالتعاطف لا يستجدى، ولكنه يُنتزَع انتزاعا، إن كان ثمّةَ حاجةٌ له. أما الاستبداد فسلوكٌ مع الآخرين يحولُ دونَ ممارستِهم إنسانيتَهم بشكل كامل.

اشتُهرَ فريري بشعار (التعليم كممارسة للحرية) الذي جهرَ به من خلالِ كتابِه Education as the practice of freedom ثم أنضج مشروعَه في كتابِه (تعليم المستَبَدِّ بهم) Pedagogy of the oppressed.

شغل فريري نفسَه لما يزيد على نصف قرن من حياته بالتعليم، وبالتحديد تعليم الكبار، وتخصّص في تعليمِ مواطنيه من فلاحي البرازيل، فابتكرَ شِرْعة في ذلك من خلالِ طريقةِ (الحوار)، وكان كتابُ تعليم المستبَدِّ بهم ذروةَ أدائه، فحثّ فيه على التعليمِ بوصفه عملَ مقاومة، ضدّ الاستبدادِ من خلال وعي مشكلات الضعفاء، وتمكينهم من ممارسةِ فعلِ حوارٍ حولَ ظروفِهم، لإيصالهم إلى استبعادِ حاجتِهم إلى من يستبدّون بهم، وبذلك يكون التعليمُ بما ينعكسُ به من ثقافةٍ فعلَ تحررٍ ناجما من حالةِ وعي جماعية.

أحسَب أن مقولةَ القوّةِ الكامنة في ضعف الضعفاء كفيلةٌ بأن تضيء لنا جزءاً من تجربةِ فريري وأن تساعدَنا على فهمها.

لقد آمن فريري بأن إسباغ السمة الإنسانيةِ على المجتمعات، ومقاومةَ أفكار تشييء المجتمعات والأفراد هما إجراءان مؤهلان لتقويةِ تلك الجماعات الفقيرة والجاهلة، بإزالة عامل ضعفها، وهو الجهل.

إن الشعور بالمشكلة، ثمّ إدراكها هما فاتحة حلّها، وبالتالي فإن تعريف الجاهل بجهلِه هو البداية الموفقة لتغيير واقعه، وليستبدلَ به واقعا أحسن، ثمّ يجيء دور قيادة هؤلاء نحو المعرفةِ التي تحرّر أصحابها من كل تسلط، وتحرر العالمَ بأسره من أنواع الظلم كلها، ويكون ذلك بأن يعلَّم الجاهلون عن أنفسهم، لا بأن يُتّهموا بالجهل، وينظرَ إليهم باستعلاء، فيغيّر هؤلاء الذين كانوا يعيشون على الهامش، ليرفضوا العيش بوصفهم أشياء تتأثر ولا تؤثّر، ويقرّروا هم أن يضطلعوا بمهام التغيير، من دون أن يكرّروا تجارب التغيير التي تأتي بطاغية خلفا لطاغية، ولاستبداد خلفا لاستبداد، أو أن يعجبوا بصور المستبدّين، ويحاولوا تقليدها عندما يتحررون من ضعفهم. فهؤلاء الضعفاء ينبغي أن يدركوا ماهية أنفسهم، وحقوقهم، ويكونوا أصحاب قرار، يترجمونه إلى فعل تغيير.

وإذا كان الاستبداد سلوكا مضادا لممارسة الإنسانية، فإن الثورة هي سلوك مضادّ لانتزاع هذه الإنسانيّة بكامل تجلّياتها. إنّه وعيٌ بثقة تامّة، ومن دون خوف من الوعي، أو مما يترتب عليه، سعيا إلى الاعتراف بوجود أصحابه، فبالمغامرة تتحقّق الحرّيّات للبشر.

فتحيّة لباولو فريري الذي علّم الفقراء، والضعفاء، والفلاحين، والمستبَدَّ بهم، وإن عودة الأمّيّة للانتشار في العالم، في كثير من جيوب الفقر، تملي علينا أن نتذكر هذا المعلِّم الذي غير تاريخ وطنه وأبناء وطنه، والبلدان التي عمل بها من خلال التعليم.

- عمّان muslih@hu.edu.jo


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة