Culture Magazine Monday  24/03/2008 G Issue 240
تشكيل
الأثنين 16 ,ربيع الاول 1429   العدد  240
 

من الحقيبة التشكيلية
رماديات عبدلكي
مفاتن المفردات الهامشية في حياتنا!

 

 

في العددين ما قبل السابق من المجلة والخاصين بالملف الشامل عن السياسي والثقافي العربي الأستاذ غسان تويني ظهر الغلاف معبراً بصدق عن هذا الرجل وعشقه للبنان بريشة مبدع لا يقل عن أي قلم شارك بهذا الملف، هو الفنان يوسف عبد لكي العربي الأصل سوري المنشأ عالمي السمعة والشهرة، حول هذا المبدع تلقيت رسالة من الأستاذ عبد الكريم العفنان الذي كان له الجهد الكبير في إعداد ذلك الملف تحمل رسالته موضوع مادة رائعة يمكن للقارئ من خلالها التعرف عن قرب على عالم الفنان يوسف عبد لكي، جاءت بقلم الناقد علي الكردي الذي يأخذنا إلى أعماق هذا الفنان بأسلوب شيق يجبرنا على الاستمرار ويضيف لنا الكثير من خفايا إبداع الفنان يوسف، سعدنا بهذا المقال ونسعد بأن يشاركنا المتعة به بقية القراء.

يقول الناقد علي الكردي إن أعمال يوسف عبدلكي الغرافيكية تستعصي على القراءة، وعلى الرغم من ذلك فهي أعمال تستفز المشاهد، وتحرضه على مغامرة الخوض في غمار سياقاتها، وتركيباتها، وعناصرها المكوّنة التي تنهض على لغة بصرية، تعلن منذ البداية تفرّد صاحبها، وتميّز تجربته الإبداعية التي حفرت مسارها على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، حتى باتت عنواناً هاماً له مساحته الخاصة في المشهد التشكيلي السوري والعربي على حدّ سواء. ويواصل الناقد علي الكردي قراءته حول الفنان يوسف عبد لكي قائلاً: أعتقد أن الهاجس الإبداعي لعبدلكي، منذ بدايات تجاربه الأولى كان ينحو باتجاه خلخلة القواعد والمعايير المتعارف عليها، وإعادة صياغتها وفق منظوره الخاص، دون أن يعني ذلك إخلاله بالنسب الهندسية، أو القواعد الجمالية التي يستمد المنتوج الفني مشروعيته من خلالها، وللدلالة على ذلك نعيد للذاكرة أعماله عن دمشق القديمة التي عرضها في المركز الثقافي الروسي في مطلع سبعينيات القرن المنصرم.

في تلك الأعمال قدّم عبدلكي عمارة البيوت الدمشقية القديمة بخطوط مختزلة، وبتلخيص شديد، وبالتالي قدّم رؤيته الجمالية وحميمية ارتباطه الروحي بهذه البيئة بشكلٍ مثير للدهشة، وبعين ثاقبة كشفت جمالية تلك الجدران المتهالكة، المائلة التي تتكئ على بضعها بحنوّ شديد، مستخدماً الأبيض والأسود.. والتناقض بين الخط والفراغ ليبرز ثراء هذه العمارة وقيمها التشكيلية والجمالية، بعيداً عن تصويرها الفوتوغرافي، بوصفها محاكاة للواقع كما هو.

في أعماله الغرافيكية اللاحقة، على اختلاف تقنياتها، سواء كانت في الحفر على الحجر، أو الزنك، أو النحاس، أو الحبر الصيني على الورق، وبشكلٍ خاص في (مجموعة الخيول 1973 -1980، انتقل عبدلكي إلى مرحلة جديدة برزت خلالها قوة امتلاكه لأدواته سواء لجهة قوة الخط الذي يحدّد ملامح اللوحة، أو الشغل على الظلال وتدرج الأبيض والأسود.. أو قوة التكوينات، والقدرة على التأليف التي تمنح لوحته دلالات متعددّة، تتيح إمكانية قراءتها على مستويات مختلفة، فإذا كان الحصان -كما هو شائع- رمزاً للحرية والجموح، والانطلاق في فضاء فسيح، فقد كانت بعض أعمال مجموعة (الخيول) تعطي هذه الدلالة، كالحصان المكبّل الذي يشرئب رأسه في مساحة العتمة، وفي لوحة أخرى نرى كبوة حصان رأسه غارقاً في العتمة، يكافح بكل قوته لكي ينهض نحو الضوء، لكن عبدلكي لم يقف عند هذه الدلالة الرمزية الشائعة للحصان، بل عمل من خلال تحوير الشكل (شكل الحصان) إلى إعطاء دلالات أخرى مضادة له، وهنا تبرز قدرته الإبداعية على التأليف، وتحوير المضامين بتحوير الأشكال، فرسَمَ الحصان الرمادي المضاد كرمز للوحشية، والعنف، والقسوة، وتطورت هذه المرحلة بإدخاله عناصر جديدة راحت تكتنز بها لوحته التي باتت مليئة بالرموز المركبة: الإنسانية والحيوانية والأسطورية، بالإضافة إلى مفردات حميمية من حياتنا اليومية التي اغتال القمع جمالياتها.

كل هذه العناصر المركبة كانت تحتشد في لوحته، وتتجاور دلالاتها المتناقضة جنباً إلى جنب.

في لوحة (كل صباح - حفر على الزنك - 1986) نرى انسياب الخطوط اللينة للرجل المكبّل والمرأة المقموعة، تتجاور مع الخطوط الحادة لرأس الوحش الذي يخيّم على مائدتهما الصباحية.

مجموعة أشخاص

في مجموعته الغرافيكية (أشخاص 1989-1995 غاب الحصان وحضر الإنسان، لكن أي إنسان هذا طالما أن الفنان قادر على تحوير الشكل بمهارة فائقة، وبالتالي تغيير الدلالات؟! في هذه المجموعة يبرز العنف، ويتجلّى استعراض القسوة في أكثر أشكالها حدّةً، وبروحٍ تهكمية ساخرة، وقد توزّعت أعمال هذه المجموعة بين الأبيض والأسود (حفر) وبين لوحات ملوّنة (تقنيات مختلطة + باستيل)، لكنها توّحدت بدلالاتها الرمزية التي نسجت تنويعات متعدّدة على الموضوع ذاته.

طبيعة صامتة..!

في مجموعته الأخيرة تحت عنوان (طبيعة صامتة..- 1995 - 2007) (فحم على ورق) التي شاهدنا قسماً منها في معرضه في خان أسعد باشا، وقسماً آخر في معرضه الأخير في (غاليري أيام)، يمكن وضع خطين تحت كلمة (طبيعة صامتة..)، لأن أعمال تلك المجموعة تطرح سؤالاً مشروعاً على المتلقي، وهو بالفعل سؤال محيّر: هل ما نشاهده في اللوحات هو طبيعة صامتة، تحاكي تشكيلياً مفردات موجودة في الواقع، كالأكواب، والزجاجات الفارغة، وعلب السردين والأسماك والأزهار الميّتة؟! أم ثمة أبعاد أخرى تختبئ خلف هذه الأشكال يريد عبدلكي تمرير أو بث رسائله من خلفها، وفي هذا السياق إذا كانت اللغة البصرية بأبعادها الفنية والجمالية هي لغة قائمة بذاتها، وبالتالي لا تحتاج إلى التأويل الكلامي لكي تصل مدلولاتها إلى المتلقي، فهل يكتفي عبدلكي في هذه المجموعة بالشغل على اللغة البصرية؟! يبدو لي أن الأمر مركب، وأكثر تعقيداً من ذلك، فإذا كان عبدلكي في هذه المجموعة من أعماله أكثر استرخاءً، إلا أننا لا نستطيع القول: إنه غادر كلياً مراحله السابقة المحمّلة بأثقال العنف والقمع، والصراعات الدامية، وإن تكن أعماله الأخيرة بدت أقل قسوة، وإلا لماذا نرى السمكة الميتة مثبّتة بالمسامير، والجمجمة مقيّدة بالسلاسل؟! أو القبضة المقطوعة وكأنها حيّة ومشدودة الأوتار؟! بعض القراءات التي تناولت أعمال عبدلكي قالت: (إنه يريد تحريك الطبيعة الميتة، لا الصامتة)، وهو قادر على ذلك من خلال امتلاكه لأدواته التي تؤهله اللعب باقتدار على تدرجات الأبيض والأسود، وظلالهما في كل ملم من لوحته، الأمر الذي يكسبها الغنى والجماليات.

مثل هذه القراءة قد تضيء جانباً من المسألة، لكنها لا تعطي الجواب الكافي على السؤال الأساسي الذي يظلُّ محيّراً.

فهل نحن أمام إشكالية (السهل - الممتنع) ذلك السؤال الذي يستعصي على الإجابة؟! الفنان الناقد أميل منعم في مقاربته لأعمال عبدلكي، قدّم إضاءات يمكن أن تكون مفاتيح مهمّة لفهم وتذوّق تلك الأعمال على نحوٍ أدق، على الرغم من أن أعمال عبدلكي تثير الدهشة لدى المشاهد، وتستحوذ عليه بدقة تكويناتها، وقوة خطوطها، وغنى ظلالها، وجمالياتها، وبالتالي تفرض نفسها عليه، دون الحاجة إلى أي تأويل إضافي، لكن إذا ما أردنا تجاوز مرحلة الدهشة والإحساس الشعوري باللوحة إلى البحث عن أبعادها، وإدراك ماهية هذه الأبعاد على مستوى الوعي، للوصول إلى المغزى العميق الكامن خلف تلك الأعمال، لا بد من الاتكاء على بعض المفاتيح لاستجلاء ما انغلق منها.

يبدو أن عبدلكي في أعماله الأخيرة، تقصّد عن سابق وعي وتصميم تحطيم (المقاييس الكلاسيكية المحدّدة لإطار اللوحة طولاً وعرضاً)، وبالتالي تجاوز النسب الهندسية المتعارف عليها، باعتبارها قانوناً يقدّم لكل موضوع ما يناسبه من حيّز بصري (يشكّل فيه موضوع الرسم مركز اللوحة وغايتها) كما يقول إميل نعيم، بيد أن هذه المغامرة لا يستطيع أي فنان أن يقدم عليها ما لم يكن واثقاً أولاً من سيطرته على أدواته سيطرة كاملة، تمكّنه من اللعب الحر على مساحة اللوحة، وبالتالي إخضاعها إلى تصوّره الخاص، سواء لجهة بناء اللوحة، ومعمارها الفني، أو لجهة الدلالات التي يودّ بثها بناءً على هذا التصوّر.

من المفيد الإشارة هنا، إلى أن عبدلكي الذي درس وعاش في فرنسا فترةً طويلة من الزمن، قد أُشبع نظرياً، وبصرياً، وثقافياً من خلال الاطلاع والاحتكاك على تجارب الغرب، ومدارسه الفنية المتنوّعة، لكنه في الآن ذاته أصر بعنادٍ شديد على أن يكون له صوته المتفرّد وبالتالي يمكن القول: إن صيرورته الفنية مرّت بمخاض معقّد من المسارات إلى أن وصلت إلى هضم وصهر كل هذه التأثيرات، وإعادة إنتاجها وفق رؤيته ومنظوره الخاص للأشياء، الذي يمنح لوحته هويتها الشرقية بامتياز، لكن المدهش في هذا السياق أن نرى ملمحاً من ملامح تأثيرات الفلسفات الشرقية، بمخزونها التأملي.. الروحاني تفعل فعلها في أعماله الأخيرة.

وبالتالي تشكّل خلفية، أو مرجعية من مرجعياته، حيث يبرز اهتمامه الشديد بتوضّع الشكل ضمن حيّ

كبير من الفراغ، لا بل يمكن القول: إن اهتمامه بالفراغ الذي يغني فضاء اللوحة، لا يقل عن اهتمامه بالشكل الذي يتوضّع في متن اللوحة، وهذا الأمر يتسق مع اهتمامه بنقل النوافل، أو المفردات الهامشية في حياتنا إلى متن اللوحة، وبالتالي تسليط الضوء عليها ليبرز مفاتنها، حيث يصبح الشغل على غصنٍ، ونصل سكين، أو فردة حذاء، أو علبة سردين أو رأس سمكة ومسمار معقوف هاجس أعماله الأخيرة، وبهذا المعنى يمكن أن نفهم لماذا قال منعم: (إذ يحرف الفنّان مفاهيم عن أنساقها المعتادة ويقوّض في نسيج الواقع بعض مسلّماته، تبدأ لوحته بالاكتناز).

من الجرأة بمكان أن يحوّل عبدلكي مسماراً معقوفاً إلى لوحة تشكيلية تكتنز بالجمال والدلالات، ولنا أن نتصوّر صعوبة البناء المعماري الفني على تلك المفردة الفقيرة يقول منعم: لقد أنشأ الفنّان لوحة من لمعة بيضاء في مربّع أسود. من مسمار مفروز ومعقوف على مستطيل مظلم وخلفية أشد ظلمةً.

والمسمار لبساطة شكله المتناهية وضحالة قيمته، يصعب الرهان عليه ليقوم برهاناً على المهارات الفنية، حيث لا تداخل مساحات ولا تجاويف ولا تنوّع سطوح ومستويات تسمح له بالإفادة من التدخلات الحرفية التي تغنيه بالحركة والظلال ليشّع ويضطلع بعبء المساحة الطاغية. لكن المسمار، رغم ذلك، يملك قابلية اكتناز المعنى. يستمده من تاريخ ثري تسبح في فضائه ذكريات طويلة عن التعذيب والقسر والمقاومة والصلابة، وهي ما تمنحه جدارة الحضور.

من المؤكد أن عبد لكي في رحلته الأخيرة (طبيعة صامتة..؟) لم يغادر مراحله السابقة كلياً، ولعل اللوحة الطولانية المهداة إلى (جميل حتمل) تبثُّ رسالةً بهذا المعنى أكثر وضوحاً من سابقتها، فضمن إطار عمودي مغلق من الجانبين، تتموضع الأشكال مفصحةً عن سطوة العنف، ودرامية الموت، عندما ينغرز نصل السكين المعدني اللامع على السطح الغارق في عتمته.

هذا النصل النازل بقوة من الأعلى، شبيه بالقدر الذي لا رادّ له، وهنا يبرز التأليف الذي يحمل المعنى من الكتلة النقيض التي تتموضع في أسفل اللوحة على شكل عصفور يحمل من الهشاشة والطراوة واللطافة ما يبرز التضاد الحاد مع عنف نصل السكين اللامع الذي يشي بوقوع الجريمة بمواربة تنقذ اللوحة من مباشرتها.

إعداد : محمد المنيف monif@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة