Culture Magazine Monday  24/11/2008 G Issue 262
قراءات
الأثنين 26 ,ذو القعدة 1429   العدد  262
 

معجب الزهراني: حوار آخر
أ.د محيي الدين محسب

 

 

عندما يصل الوعي إلى المرحلة التي يقيم فيها المسافة اللازمة بين الذات والرأي فإنه يستطيع أن يؤسس لقيمة الحوار وضرورته الحية في بناء العلم والمعرفة والثقافة. ولا شك عندي أن الصديق الدكتور معجب الزهراني هو في طليعة من يدرك -ويمارس- هذا التوجه الفكري.

هذه الرسالة التي بعث بها إليّ تعقيباً على مقالتي (معجب الزهراني والخطاب التراثي حول المرأة) التي نشرتها المجلة الثقافية (ع258، 28 شوال 1429هـ) تضيف تأكيداً جديداً على ذلك الإدراك وهذه الممارسة. وقبل أن أدخل في محاولة استثمار فرصة هذا الحوار المعرفي، ومن ثم في دعم بعض الاستيضاحات المتعلقة ببعض نقاط الاختلاف بيننا في التصور أو المعالجة، أود أن أورد في البداية نص رسالة الدكتور معجب وقد استأذنته في ذلك فكانت استجابته الكريمة.

صديقي العزيز محي الدين.. سعدت بما كتبت عن مقارباتي المتعلقة بوضعيات المرأة في بعض نصوص التراث. ولكي يتصل الحوار وينمو فيما بيننا ومن حولنا أرجو أن تبدي رأيك حول ملاحظات مهمة عندي وأوجزها كما يلي:

أولاً: أنا ممن يسلم بأن من أولى وأهم وظائف الفكر العارف التمييز بين الأشياء والظواهر والقضايا والخطابات وإلا وقعنا في لغة (كل شيء يماثل كل شيء)، وهي لغة هذيانية بامتياز كما قد لا يخفى عليك. هنا تحديدا تبرز أهمية المفاهيم التي يستعملها الباحث أدوات للوصف والتحليل والتأويل خلال قراءة لا يمكن أن تكون بريئة أو محايدة؛ لأنها لن تخلو من تصورات الذات ومعارفها وخبراتها ومقاصدها قبل فعل القراءة وبعده.

ثانياً: منطق التمييز عينه يبيح لي أن أنمي نص الغزالي - بل نصوصه كلها فيما عدا المنقذ من الضلال - إلى (خطاب الوعظ)، ونص ابن حزم إلى (الخطاب الأدبي)، ونص ابن رشد إلى (الخطاب الفلسفي)، وبناء عليه فإن كلاً منها يقتضي قراءة تناسبه في ظني، بغض النظر عن مدى عمقها ودرجة إقناعيتها. ولعلك تعلم أن لدينا عدة نقدية جيدة للحوار مع نصوص الأدب، ومنها أدب الرسائل الذي كتب ابن حزم ضمن إطاره العام وإن حرص كل الحرص على الإضافة والإبداع كي لا يقلد أو يحاكي أو (ينضو مطية غيره) كما يقول. أما خطاب الوعظ فلم يلتفت إليه النقد العربي، قديماً أو حديثاً، كما ينبغي، وهذه قضية مشكلة، ولا تخلو من مفارقة لأنه من أشد الخطابات الثقافية قوة وتأثيراً بالأمس واليوم في مجتمعاتنا العربية والمسلمة (كتبتُ من قبل عن الوعاظ النجوم الذين قد يؤثر الواحد منهم في الرأي العام أكثر من جامعة بأكملها!). ويبقى الخطاب الفلسفي في منزلة بين المنزلتين حسبما أرى. فنحن نجد بين القدماء والمحدثين من حاوره ونقده بغرض تنميته وتعميقه وتطويره، لكنه ظل خطاباً أجنبياً غريباً أو دخيلاً غير مرحب به. ولم تنجح حتى تلك المحاولة الرشدية المتميزة حقاً في إدماجه ضمن السردية الثقافية العربية العامة. ومثله في هذا الوضع المأساوي مثل (الخطاب العلمي التجريبي) الذي تمثله وطوره أفراد أفذاذ لكنهم لم ينجحوا في تحويله إلى خطاب مشروع. وهي معضلة قائمة إلى اليوم وإلا لما وجدنا دال (العلم) ومشتقاته تسمي معارف saviors لا صلة بينها وبين العلوم sciences كما تعرف، ونعرف، اليوم.

وأخيراً إليك الملاحظة الثالثة: فالقول بأن المرجعية الواحدة، أو المرجعيات المتشاكلة إبستمولوجياً، قد تنتج خطابات متنوعة مختلفة، حد التعارض والتناقض أحيانا، هو عندي مسلمة قبلية لا تحتاج إلى جدل. وهي هكذا لأن التحولات التي عادة ما تطال أشكال الخطابات ومضامينها لا يمكن أن تقرأ وتفهم إلا في ضوء مسلمة كهذه. وحتى الجذر المعرفي، وبمعناه الأكثر دقة وصرامة، لا بد أنه يشتغل في حقبة ما أو في مرحلة ما بهذه الطريقة وإلا كيف نتعقل الثورات الفكرية والعلمية في مستوى التاريخ الكوني؟!. ولو اختزلتُ موقفي الخاص في تلك المقاربات لقلتُ: إن القارئ العادي، وليس النموذجي مثلك، سيدرك بسهولة أنني لا أثمن من نصوص الغزالي سوى المنقذ من الضلال، وأنني أحب لابن حزم طوق الحمامة وكل ما يتعلق بمذهبه في القراءة الظاهرية التي تسلم في حق كل ذات في أن تفهم ما تريد وما تستطيع من النصوص- وقد ثمنها إدوارد سعيد أيضاً - وأحب وأحترم ابن رشد مفكراً طالما كتب ليحذر من فوضى الأفكار وفوضى القيم وفوضى المعايير..!.

ولك مودتي.

معجب الزهراني.

الرياض. في 28-10-1429هـ).

ومن الواضح أن رسالة الدكتور معجب تعمد إلى استثمار استراتيجية ذكية هي استراتيجية التأشير الضمني في الخطاب الذي يدع للقارئ مهمة مد خطوط الاستنتاج للوصول إلى النتائج غير المصرح بها، ولكنها النتائج المرغوبة لدى الكاتب. ومن ثم فإنني سأبدي جملة ملاحظاتي بناء على ما فهمتُ أنه (مقاصد) الملحوظات الواردة في تلك الرسالة الراقية:

أولاً: تنطوي ملحوظة الدكتور معجب الأولى ضمناً على القول بأن مقالتي عندما تبنت مقولة التشابه بين خطاب ابن حز م وخطاب الغزالي وخطاب ابن رشد بخصوص المرأة قد وقعت في الإخلال بأهم وظائف الفكر العارف وهي وظيفة (التمييز بين الأشياء والظواهر والقضايا والخطابات). وهنا أود أن أقول: إن سعي الفكر العارف نحو التمييز وإدراك الفروق بين الخطابات لا يعني إلغاء سعيه أيضاً نحو إدراك التماثلات والتشابهات. بل إنني أقول - ونحن بصدد حديث يتصل بنظرية الخطاب الثقافي-: إن هذا المسعى - إدراك التماثلات والتشابهات- يقع في صدارة الاهتمام؛ لأنه بدون الحفر المعرفي صوب اكتشاف الجذور العميقة والطبقات التحتية المكوِّنة للأنظمة المعرفية، فلن نصل إلى ما يسميه فوكو ب(الاقترانات المفهومية) التي تشكل النظام المعرفي (الابستيم) لمرحلة تاريخية معينة، أو لعصر معين. ف(الابستيم) يوحّد الخطابات المتنوعة داخل بنية تحتية من الافتراضات الضمنية حول وضعية المعرفة في تلك الفترة التاريخية أو ذلك العصر. وعلى هذا فإن مفهوم (القطيعة المعرفية) لا يكتسب دلالته إلا من خلال الكشف والاستدلال على وجود قطع ابستيمي؛ أي تحول من نظام معرفي إلى نظام معرفي آخر. فهل استطاعت قراءات الدكتور معجب أن تدلل على أن ثمة انتماءات ابستيمية متغايرة بين الخطابات الثلاثة حول المرأة: خطاب ابن حزم، وخطاب الغزالي، وخطاب ابن رشد؟ إن مقالتي ذهبت إلى الاستدلال على سريان التماثل العميق بين هذه الخطابات الثلاثة مع إدراك كامل لوجود اختلاف في النوع الخطابي الذي ينتمي إليه كل واحد منها. وإني لأتصور اتفاق الدكتور معجب معي في أن اختلاف النوع الخطابي لا يؤدي بالضرورة إلى اختلاف في النظام المعرفي (الابستيم): فما تقوله- شكلاً ورؤيةً- قصيدةٌ معينة في لحظة تاريخية معينة يمكن أن يقوله الطراز المعماري أو اللوحة التشكيلية أو لوائح العلاقات الاجتماعية -كوثائق الزواج مثلاً- في هذه اللحظة. ولعلي هنا أقتبس قول الفيلسوف روبيرتو ماكادو الذي ذهب فيه إلى أنه في أركيولوجيا فوكو (يختفي تمايز الخطابات أمام تجانس أكثر أساسية يرجع إلى أصناف التلاؤم والانسجام في حقبة محددة) (عن: د. السيد ولد أباه: التاريخ والحقيقة لدى ميشيل فوكو. الدار العربية للعلوم -بيروت- ط2-2004م- ص125).

وعلى ضوء ما سبق فإنني أقول للصديق معجب: إنك في ملحوظتك الأولى تلك قد حاولتَ القيام ب(خطف) مبكر للقارئ لكي يقف إلى جانبك، ومن ثم لكي (ينفر) مما جاء في مقالتي؛ لأنها-كما تقول- تنطلق من (لغة (كل شيء يماثل كل شيء)، وهي لغة هذيانية بامتياز!! وأقول لك: لو أن قارئاً لخطابك هذا قد رأى فيه (عنفاً) ضمنياً، ومن ثم رأى فيه شكلاً من أشكال (خطاب التوحش) بناء على التماثل في استراتيجية الإقصاء الخطابي، هل يكون هذا القارئ يهذي بامتياز؟!!

ثانياً: تتصل الملحوظة الثانية بالسابقة، وتبدأ بالتقدم خطوة جديدة نحو الاستحواذ على القارئ؛ وذلك من خلال توقع الكاتب -طبعاً- انحياز القارئ إلى خطاب يصفه صاحبه بأنه يتبع (منطق التمييز)!! في مقابل خطاب تمّ إقصاؤه المبكر بنسبته إلى (لا منطقية الهذيان). وهنا أريد أن أدعو القارئ بدوري ليتبين بنفسه: إلى أين أفضى ما يسميه الدكتور معجب ب(منطق التمييز)؟

يرى الدكتور معجب أن نص الغزالي ينتمي إلى (خطاب الوعظ)، ونص ابن حزم إلى (الخطاب الأدبي)، ونص ابن رشد إلى (المنطق الفلسفي). وبناء عليه - يقول الزهراني- (فإن كلاً منها يقتضي قراءة تناسبه). وأقول لصديقي معجب: أنا لم اختلف معك في اختياراتك التصنيفية لأنواع الخطاب. فالقضية ليست هنا. القضية بوضوح هي: هل هناك بين هذه الخطابات قطيعة معرفية فيما يتعلق بتشخيص الموقف الوجودي والاجتماعي للمرأة؟ وهل أدى تبنيك ل(منطق التمييز) إلى اكتشاف معالم فارقة حول هذا الموقف من المرأة يجعل معالجة قضيتها مندرجة في ثلاثة أنظمة معرفية (ابستيمات) متمايزة؟ لقد حاولت ورقتي أن تقول إن ما قدمه الدكتور معجب في قراءاته الثلاث لا يصل بنا إلى الوقوف على ثلاثة خطابات بينها تقابل ابستمولوجي فيما يتعلق بالموقف من المرأة. وكان إيراد الشواهد النصية الدالة على ذلك - من كتاب (طوق الحمامة) بضفة خاصة- وهي شواهد استبعدها الدكتور معجب لكي يستصفي مقولة (خطاب المحبة) تشخيصاً معرفياً لخطاب ابن حزم- أقول: كان ذلك مما ارتكنت إليه مقالتي في الاستدلال على ما ذهبت إليه. وهنا لا أريد أن أعيد ما ذكرته في هذا الصدد، ولكن أريد أن أطرح سؤالاً جديداً: أين يقع الاختلاف بين هذه الخطابات الثلاثة بخصوص ثنائية الجسد/ الروح، وهي الثنائية التي من المفترض أن تأخذ العناية اللازمة من الحفر المعرفي حين يكون الأمر متعلقاً بالبحث في الخطاب عن المرأة؟ وإذا كان خطاب الغزالي ليس بحاجة إلى إضاءة في هذا السياق فإن ما يحتاج إلى إضاءة قول ابن حزم مثلاً: (إننا نرى المرء إذا أراد تصفية عقله، وتصحيح رأيه، أو فك مسألة عويصة، عكس ذهنه، وأفرد نفسه عن حواسها الجسدية، وترك استعمال الجسد جملةً، وتبرأ منه...) ( انظر: حامد أحمد الدباس: فلسفة الحب والأخلاق عند ابن حزم الأندلسي. دار الإبداع- عمّان- 1993م-ص44)، ثم يحتاج الأمر إلى إضاءة موقفه من الشعر عندما رفض- بناء على هذه الثنائية- شعر الغزل والشعر الرقيق لأنه من دواعي نصرة النفس الشهوية وتهييجها مما يؤدي إلى الإقبال على الصبابة والفتنة ويصرف النفس إلى الخلاعة واللذات (السابق، ص148). وكذلك مما يحتاج إلى إضاءة قول ابن رشد مثلاً (إن النفس وإن كانت صورة للبدن على مذهب أرسطو فهي جوهر روحاني قائم بذاته لا ينقسم بانقسام الجسم،... (وهي تتصل) بالجسم على الرغم من اختلاف طبيعتها عن طبيعته اختلافاً تاماً. ومن ثم فهي لا تحل في البدن حلولاً عرضياً ولا تتحد به اتحاداً جوهرياً، وصلتها بالبدن أمر يدق على فهم الإنسان وكل ما هنالك أن الجسم آلة تستخدمها النفس) (انظر: د. راجح الكردي: نظرية المعرفة بين القرآن والسنة). أليست هذه الثنائية نفسها التي شطرت الإنسان في الفلسفة الكلاسيكية، وتولد في سياق استثمارها الإيديولوجي الذكوري ربط الرجل بالعقل ومن ثم بالقدرة على التفكير المنطقي المجرد، وربط المرأة بقطب الجسد الطيني الحسي الذي هو سجن النفس وغريمها الشهوي المنفلت؟ أعتقد أن هذا السؤال لا بد أن يقود إلى استثمار إضاءات معرفية مهمة قدمها الفكر النسوي حول هذه الثنائية في قراءته للفكر الفلسفي الغربي، وبخاصة عند أفلاطون الذي شكل – كما هو معروف- مصدراً مهماً من مصادر التنظير حول النفس والعقل والحب والجسد عند واحد مثل ابن حزم. (فيما يتعلق بنقد الفكر النسوي لهذه الثنائية أحيل مثلاً إلى: Nash, Jo : The Thinking body. Process Press Ltd. E- Book, 2000, pp.7-12 وفيما يتعلق بتأثير أفلاطون في فكر ابن حزم أحيل مثلاً إلى: حامد أحمد الدباس: سيق ذكره).

ثالثاً: في الملحوظة الثالثة قضيتان تتعلق الأولى منهما بالعلاقة بين المرجعية والخطابات المنبثقة عنها، وتتعلق الثانية بموقف الدكتور معجب من فكر الأعلام الثلاثة الذين دارت مقارباته حول خطاباتهم بخصوص المرأة. وأما بالنسبة للقضية الأولى فأنا أتفق معه على إمكان صدور خطابات تنقض مرجعيتها أو تتناقض معها، ولكن ما ساقته المقاربات الثلاث لم يقدم أصلاً شيئاً عن العلاقة بين هذه الخطابات ومرجعيتها. ومن ثم كان سؤالي في مقالتي: إذا كان المنطوق الصريح المعلن لدن أصحاب هذه الخطابات يشير إلى اتفاقهم في الصدور عن مرجعية واحدة، فكيف نوفق بين ذلك وتقرير الدكتور معجب بأنها خطابات متغايرة؟

أما القضية الثانية فللدكتور معجب أن (يثمِّن) أو (يحب) أو (يحترم) من يشاء وما يشاء، ولكني أسأل الصديق الدكتور معجب: هل هذه العواطف كافية للإقناع في الخطاب المعرفي؟

على أية حال فإني أود أن أعبر عن تقديري العميق لصديقي الذي أتاح لي فرصة هذا الحوار الذي لا يسعى إلا لتكريس هذه القيمة نفسها: قيمة الحوار الإيجابي المنتج.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة