Culture Magazine Monday  25/02/2008 G Issue 235
فضاءات
الأثنين 18 ,صفر 1429   العدد  235
 

(باريس) و(اليونسكو).. و(إرث العابر)..؟!) 3 – 3)
عبدالله مناع

 

 

كان (زياد).. السائق الذي تفضلت (سكرتارية المندوبية السعودية الدائمة لدى اليونسكو) بوضعه مشكورة في خدمة تنقلاتنا في (باريس) شاباً تونسياً من مواليد فرنسا يحمل جنسيتها بحكم (الولادة).. كما يحمل لها حباً وولاء لا حدود لهما.. لم ينسه أصوله وعروبته، شأنه في ذلك شأن أمثاله من أبناء مئات الآلاف من المغاربة الأول الذين هاجروا تباعاً إلى فرنسا.. واستوطنوها وعملوا فيها وأقاموا حياتهم العامة والخاصة فوق أرضها.. قبل وبعد رحيل الاستعمار الفرنسي عن (بلادهم)، حتى ناف عددهم على المليون مهاجر.. كما تقول بعض الإحصائيات، وقد تعلم (زياد).. في المدارس الفرنسية وحصل على (البكالوريا) إلا أنه لم يستطع إتمام دراسته الجامعية لحاجته إلى العمل حتى يتمكن من الإنفاق على الأسرة بعد أن تقدمت السن بوالده، ولم يعد قادراً على العمل والكسب، وقد اتجه إلى تعلم قيادة السيارات.. ليصبح سائقاً محترفاً بعد ثلاثة أشهر: يقود عربات الأجرة.. لدى شركات السياحة، فعرف - بطبيعة احتياج السياح العرب الذين كان يتولى مهمة تنقلاتهم في الغالب- كل شوارع باريس، ومتاجرها ومطاعمها، وأنديتها وملاهيها الليلية ومواقعها السياحية المختلفة.. لكنه لم يتعرف على مسارحها الجادة ومكتباتها ودور النشر والثقافة على كثرة تواجدها وتزاحمها في (الحي اللاتيني).. الذي يعتبر بحق: رئة الفن والفكر والثقافة في (باريس)، ولقد كانت تلك.. هي مشكلتنا الوحيدة التي صادفتنا مع أخينا (زياد) -الذي أحببنا فيه عصاميته وأسريته وعروبته التي لم ينس سطراً واحداً منها وهو المولود في ضواحي (باريس).. وليس في ضواحي (القيروان) -بعد أن قررنا أن يكون صباح ثالث أيامنا في (باريس).. بين مكتبات (الحي اللاتيني) بشارعيه الشهيرين (سان ميشيل وسان جيرمان) اللذين يضمان معظم مكتبات الحي إلى جانب أكشاك نهر (السين) فهو وإن كان يعرف الطريق إلى الحي الشهير وإلى شارعيه.. الأشهرين، إلا أنه ما كان يعرف على وجه التحديد أين تقع مكتبة (ابن رشد).. التي أراد الدكتور السبيل أن نبدأ بها يومنا ذاك.. بين الكتب والمكتبات وعالمهما الجميل..؟ أهي في شارع (سان ميشيل).. أم (سان جيرمان)..؟ وهل هي في أول أي من الشارعين..؟ أم في منتصفه.. أم في نهايته..؟

لقد حلت الاتصالات الهاتفية التي أجراها الدكتور السبيل.. مشكلتنا ومشكلة (زياد) في معرفة موقع المكتبة الذي كان في أول شارع (سان جيرمان) لنقف على رصيفها.. تحت سماء باريسية غائمة، و(رذاذ) يتناثر فوقنا.. ونسمات ناعمة باردة.. تلفنا، وكأنها تستقبلنا لندلف إلى داخل المكتبة التي تملكها سيدة فرنسية من أصول شامية، هي السيدة نجاة ميلاد.. التي تملك إلى جانب لغتها وجنسيتها الفرنسيتين خبرات مكتبية واسعة، جعلت منها قطباً مكتبياً يعرفه كل رواد المكتبات من العرب على وجه الخصوص، ورغم أن المكتبة.. ليست كبيرة الحجم مساحة.. إلا أنها كبيرة ب(معرفة) صاحبتها وعلاقاتها الواسعة مع الأوساط الثقافية الفرنسية، وبما حوته من المراجع والكتب الفرنسية الكثيرة والإنجليزية القليلة.. إلى جانب قسم عربي واسع يضم مجموعة فاخرة من كتب المشرق العربي.. إلى مغربه.. إلى خليجه، لكتاب مرضي عنهم، ومغضوب عليهم.. عربياً!!

بعد أن أخذ كل منا يستعرض ما يهمه من كتب المكتبة.. والأستاذة (نجاة) تلاحقنا بصوتها، لترشدنا إلى ما قد نكون غفلنا عنه من كتب المكتبة الهامة.. كان يدلف إلى المكتبة رجل أشيب مهيب هو الأستاذ الدكتور عبدالجليل التميمي: الأستاذ المتميز بالجامعة التونسية، وصاحب مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات.. التي تعنى بعقد المنتديات الفكرية حول القضايا الثقافية والسياسية المعاصرة، كقضايا المجتمع المدني وحوار الثقافات.. والتبادل المعرفي الأورو - مغاربي، ليستقبله الدكتور السبيل بالأحضان وسط دهشتي.. لأكتشف -فيما بعد- بأن مجيئنا إلى مكتبة (ابن رشد) إنما كان في حقيقته محاولة توفيقية ذكية من جانبه: بين رغبتي في زيارة أي من مكتبات الحي اللاتيني.. ورغبته في لقاء الأستاذة نجاة والأستاذ الدكتور التميمي في مكان معروف لديه ليبحث معه، أو معهما بعض تفاصيل إقامة معرض الرياض الدولي للكتاب، والذي سيقام في شهر مارس القادم تحت إشراف وكالة الثقافة بالوزارة.. وما كان ذلك ليزعجني أو يضايقني بأي صورة لو أنه أخبرني به، بل كان سيسعدني حتماً، إذ إن مشاركة (الفرنكوفونية) أو (الفرنكفونيين) في أي معرض للكتاب إنما تثريه حقيقية، وتفتح نوافذه لاستقبال نسمات أخرى جميلة، مرغوبة ومستحبة.

لقد.. امتدت بنا الأحاديث من المكتبة.. إلى أحد مقاهي (باحة) البوابة الرئيسية (لجامعة السوربون).. التي فاجأتني شدة نظافتها رغم مرور عشرات المئات من الطلبة والأساتذة والسائحين فوق بلاطها على مدار ساعات الليل والنهار.. بأكثر مما فأجأني جمال ودقة تنسيقها، حتى لحق بنا الدكتور معجب الزهراني والدكتور عبدالله الخطيب والدكتور غازي مكي الملحق الثقافي السعودي الجديد في لندن الذي كنت أتعرف عليه لأول مرة.. لنتناول غداء سريعاً قبل أن يحين موعد زيارتنا -المقررة بإجماعنا- ل(معهد العالم العربي) المعروف لكل المثقفين العرب الذين يزورون (باريس).. إلا إيا ي والدكتور السبيل.. لقد رتب الدكتور الزهراني لهذه الزيارة مشكوراً إلا أن الدكتورين اضطرا لعدم اصطحابنا فيها.. بسبب سفر الأول إلى لندن، ووداع الثاني له.. كما قالا..!!

***

كان (المعهد) ببنائه الأسطوري المعجز، وأدواره الاثني عشر.. يقف شامخاً على ضفاف نهر السين، على بعد خطوات منا.. كان يحسن بنا أن نسيرها على الأقدام وسط ذلك الجو الخريفي الرائع، إلا أننا فضلنا أن نستعين ب(زياد) وعربته.. حتى يتعرف على الموقع ومداخله ومخارجه.. ليصطحبنا بعد انتهاء الزيارة إلى فندقنا. إن مسمى المكان ب(المعهد).. مغاير لطبيعته، فهو ليس مدرسة ولا كلية جامعية.. كما توحي بها كلمة (المعهد) التي تتصدر اسمه، ولكنه مركز حضاري ثقافي ضخم متعدد القنوات والنشاطات.. فهو يعنى بالفنون والآداب والآثار: ب(المسرح) والسينما والتشكيل والنحت والموسيقى والغناء، وبالمبدعين العرب في كل هذه المجالات.. ويقيم لها المهرجانات، والندوات والمعارض.. بل ويقدم الجوائز في فروع المعرفة الإنسانية المتعددة. إنه بحق جسر تواصل بين (الثقافة العربية) بكل فنونها.. وبين قلبها الحر النابض المتوهج (باريس) فإذا كان هناك من يدهش لأن فرنسا فرنسوا ميتران أقامت هذا (المعهد العربي) في قلب عاصمتها، وعلى نفقتها أرضاً وبناء إلى جانب تحملها ل(60%) من نفقات تشغيله السنوية على الدوام، فإننا لا بد أن نذكره ب(جنود) حملة (نابليون بونابرت) على مصر في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر، فقد كان نصفهم.. من العساكر، أما النصف الآخر.. فقد كان من الأدباء والعلماء الباحثين والرسامين، ليكتبوا عن كل مصر.. وليصوروا بريش رساميهم.. حياتها وثقافتها وآثارها، وقد رافقتهم أول مطبعة عربية قامت بطباعة أول صحيفة تعرفها مصر وهي (التنبيه). لكأن (نابليون).. ب(ذهابه) في معية (كتبته) وباحثيه ورساميه أراد أن ينقل إلى (باريس) وأهلها ثقافة وحضارة مكتوبة مرسومة، أما الرئيس الفرنسي الفذ ميتران.. فقد فضل أن يأتي ب(مصر) وثقافة وفنون العالم العربي بمشرقه ومغربه ويمنه.. بإقامة هذا (المعهد) العربي الفريد الذي يحق له أن يشمخ بهذه الأثرة الفرنسية.. التي خصته دون سواه من ثقافات العالم الواسع والكبير، والتي كان الفضل فيها دون شك للرئيس فرنسوا ميتران.. عاشق الآثار المصرية الذي لم يكتف بزياراته غير المنقطعة لها في الأقصر وأسوان والجيزة.. بل وأقام في باحة أشهر متاحف (باريس) والعالم (اللوفر).. هرماً زجاجياً يراه كل الداخلين إلى متحف اللوفر، والخارجين منه، مؤكداً بذلك أن الثقافة عنده.. تسبق السياسة وربما تصنعها وتشكلها..!!

عندما التقينا ب(المدير التجاري) لمعهد العالم العربي: الدكتور بدر الدين عرودكي وجدناه يتحدث إلينا.. حديث السعادة والفخار ب(المعهد) وإنجازاته الثقافية والحضارية، ومكانته بين صروح الثقافة الموجودة بكثافة في العاصمة الفرنسية، حيث يحتل مكانة (بين الأماكن العشرة الأول الأكثر إقبالاً في فرنسا).. كما أكد ذلك مديره الفرنسي الجديد الدكتور دومنيك بوديس في أحد تصريحاته الصحفية، لكن حديث السعادة والفخار على لسان الدكتور العرودكي.. كانت تخالطه غصص لا تخفى على سامعه، وأسى.. لا تبدده فرحته بلقائنا نتيجة انصراف أكثر الحكومات العربية عنه وعن برامجه.. وعن سداد حصصها المالية في (الأربعين بالمائة) التي تتحملها، ثم فصل ذلك الذي أجمله عندما قال بما نصه تقريباً.. ب(أن ميزانية المعهد لهذا العام هي 21 مليون يورو، وأن الحكومة الفرنسية دفعت منها عشرة ملايين يورو، وأن المعهد حقق دخلاً مقداره ثمانية ملايين يورو ليكون العجز في الميزانية هو ثلاثة ملايين يورو)..!

لم يفاجئني الدكتور العرودكي بأحاديث غصصه وأساه.. بقدر ما أحزنني حال التردي والنفاق التي بلغناها، إذ لو أن فرنسا غافلت عقلها وثقافتها العظيمة.. وأقامت معهداً للثقافة (الإسرائيلية) في ذات المكان لتباكينا وأقمنا الدنيا عليها، وعلى انحيازها.. بل واغتيالها لمبادئ الحرية والعدالة والمساواة التي قامت عليها حياتها، وربما تنادى البعض بقطع العلاقات معها.. أما إذا أقامت معهداً للعالم العربي وثقافته وحضارته (كما هي الحال)، فإن حصار الأسئلة العربية، يشرع وعلى الفور بالإحاطة به: أهو تقدمي أم رجعي..؟ يميني أم يساري..؟ إلى آخر تلك الأسئلة المعطلة.. ليأتي من خلفها: (البرود) و(التعالي).. و(المقاطعة).. ف(التشكيك) فيه، ف(اتهام) رواده والمترددين عليه..!

مع زفرات كنت أحبسها في صدري عند مغادرتنا المكان وسط عشرات المغادرين له في السادسة مساء، فوجئت ب(خيمة قطرية).. وقد انتصبت أمام بوابة المعهد.. لعرض (التراث القطري) بأزيائه، وأدواته، ولوحاته، ومصكوكاته، ومخطوطاته..؟ فكان وجود تلك (الخيمة).. يمثل بحق أنصع صورة ل(حال) الانصراف عنه: (سراً) بحجة أحادية توجهاته، وجهراً بحجة غلاء أسعار قاعاته.. التي تكبح حتى رغبة الراغبين في استئجارها واستخدامها..؟!

***

عند الثامنة من مساء ذلك اليوم.. كان الدكتور معجب يطمئننا بأنه استطاع الحصول لنا في آخر لحظة على تذاكر دعوات.. لدخول (الجراند باليه).. أو القصر الكبير.. المعروف على نهاية جادة (الشانزليزيه) الذي أقمنا فيه أيام الرئيس ميتران أيضاً وعمودية شيراك لباريس معرضنا الشهير: (المملكة بين الأمس واليوم).. لحضور مناسبة ثقافية فرنسية من نوع آخر، هي مناسبة تقديم كتاب جديد لمؤلفه الأديب الفرنسي الكبير الدكتور (جان بول روو).. ل(صفوة) من الأدباء والنقاد والمستشرقين الفرنسيين الأوروبيين وغيرهم.. ممن يتواجدون على الدوام في باريس. كان الكتاب يحمل عنواناً شائقاً ولافتاً.. هو (الفنون الإسلامية) ولأن مؤلفه فرنسي غير مسلم ويتحدث فيه عبر حصر جغرافي شامل عن الفنون الإسلامية عبر العصور.. فقد كان كل ذلك مما يبعث في نفوسنا حماساً لحضور تلك المناسبة، وشوقاً لمعرفة تفاصيلها.

في داخل إحدى القاعات المتوسطة حجماً حول القاعة الكبرى.. كانت كوكبة المدعوين التي سبقتنا بالدخول.. تتهامس أو تتناقش بأصوات خفيضة، وهي تتردد مرة أو مرتين على (بوفيه) صغير احتل جانباً من القاعة وقد وقف عليه نادل إفريقي أسمر، يلبي طلبات قاصديه ب(مربعات الساندويتش) على الطريقة الفرنسية، وبكؤوس العصير المختلفة التي كانت تصطف حوله، بينما احتل صدر القاعة مسرح.. لا يزيد ارتفاعه عن مستوى الأرض بخمسة عشر أو بعشرين سنتيمتراً، وهو الذي سيقف عليه المؤلف والناشر والمحرر والطابع ل(الكتاب).. ليحدثونا عنه، وعن قصة كتابته ونشره.

في الثامنة والنصف بدأت فعاليات المناسبة بكلمات مركزة دقيقة من أولئك الذين وقفوا على خشبة المسرح، والتي لم تكن تتسع لسواهم، كان أخي الأستاذ أحمد أبو دهمان.. يساعدني همساً بترجمة المهم من كلماتهم حتى أتمكن من متابعة ما يجري.. إلى أن جاء دور المؤلف الدكتور روو وقد كان آخر المتحدثين، ليفصل لي أخي أبو دهمان ما كان يقوله.. وكيف أنه قام بعشرات الرحلات إلى مواطن الإسلام المختلفة في آسيا وإفريقيا وأوروبا لجمع مادة كتابه، ولقاء من استطاع اللحاق بهم من الفنانين الإسلاميين عبر السنوات الخمس التي استغرقتها رحلاته، وأن داراً لبنانية للنشر.. تم الاتفاق معها على ترجمته ونشره بالعربية.

عندما انتهت الكلمات.. واختلط المتحدثون بالمدعوين كنت أقترب من الدكتور روو، لأقول له بأنني: عربي مسلم وواحد من التعساء الذين لا يجيدون الفرنسية.. لكن ذلك لا يقلل من إعجابي الشديد بكلمته وبجهوده التي بذلها في كتابة هذا الكتاب الرائع في موضوعه عن (الفنون الإسلامية).

فقال مبتسماً.. وفي تواضع وحياء: أتمنى أن نحب الإسلام وأهله من خلال هذا الكتاب..؟!

***

في صبيحة اليوم الأخير.. وعند الساعة الثامنة كنا نشق طريقنا إلى مطار (شارل ديجول).. لمغادرة (باريس) والعودة إلى أرض الوطن، فلم أجد خلال صمت الطريق خيراً من النظر إلى تلك السحب التي ملأت سماءها، والتي أحبها شاعر فرنسا الأجمل (بودلير).. فكتب عنها قصيدته (الغريب) لتجعل فرانسواز ساجان من حديثه عن (السحب الرائعة) التي أحبها (الغريب) أو بودلير ولم يحب سواها.. عنواناً لروايتها التي جاءت بعنوان (السحب الرائعة).

لأقول وداعاً، أيها (السحب الرائعة).

- جدة 2008/2/20م


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة