Culture Magazine Monday  25/02/2008 G Issue 235
فضاءات
الأثنين 18 ,صفر 1429   العدد  235
 

خطوط في رمال الثقافة
نهر الإبداع العظيم.. أين يوجد؟
علي الصراف

 

 

الإبداع نهر عظيم جارف المجرى، يضم اليوم، أساطيرَ وملاحمَ وقصائدَ وروايات وأعمالاً فنية خالدة. ولكن من أين ينبع؟ وهل يمكن ان يؤتى ماؤه من المنبع نفسه؟

في الحقيقة، الابداع لا يؤتى إلا من منبعه. وما لم تكن قادراً على الذهاب إلى هناك، وعلى قبول كل مغامرات ومتاعب الرحلة، فلا تضيّع وقتك.

ولكن قبل ان تصاب بالجزع، فان منبع النهر ذاك، قد يكون على مقربة من قدميك أصلا. احفر قليلا تحت أرض معارفك، فلعله يتفجر بين يديك ويظل متدفقا إلى الأبد.

في التعبير عن المغزى العميق للفرق بين ما هو أصيل ومزيف، تقول حكاية: كان هاو لجمع الأعمال الفنية، وصديق لبابلو بيكاسو، قد اشترى لوحة موقعة باسمه، ولكن السعر الذي اشتراها به أقنعه بأن اللوحة ربما تكون مزيفة. فذهب إلى باريس ليتأكد من بيكاسو نفسه.

سأله عندما التقاه إن كانت هذه اللوحة حقيقية أم مزيفة.

تطلع بيكاسو إلى اللوحة وقال: انها مزيفة.

بعد بضع سنوات عثر الهاوي على لوحة أخرى لبيكاسو فاشتراها وذهب بها إلى باريس ليقول لصديقه انه اشترى هذه المرة لوحة لا شك فيها.

فقال: انظر، انها لك.

رد بيكاسو: انها مزيفة أيضا.

قال: ولكني رأيتك ترسمها، هي هذه اللوحة بالذات.

فقال بيكاسو: نعم، ألا تعرف أنني أرسم لوحات مزيفة أحياناً؟.

ليست المهارة الفنية ولا المواصفاة الجمالية الرفيعة، ولا حتى يد الفنان نفسه، هي نقطة البداية في تمييز العمل الإبداعي الأصيل عن سواه.

وسواء كان الأمر يتعلق بلوحة ام برواية ام بقصيدة، فالبداية واحدة بالنسبة لجوهر كل عمل إبداعي.

القيمة الجمالية الخلاقة، والمعنى الإنساني النبيل، والطريق المؤدي اليهما نفسه، من بين أول ما يجعل الإبداع إبداعاً.

من المستحيل ان تجد تعريفا نهائيا للإبداع. ويمكن الاختلاف حول كل معنى من معاني الجمال. وما يبدو جميلا اليوم، قد يغدو قبيحا غدا. ولكن ثمة خيط يسمح بان نوصل فناني الكهوف بسلفادور دالي (على اختلاف الرؤية وكل الجدل الممكن)، كما نوصل الملاحم البابلية بهوميروس وهوميروس بالمتنبي، والمتنبي بالجواهري، والجواهري بالسياب، والسياب بأدونيس... الخ.

وإذ تنطوي الظاهرة الإبداعية، أي كل ما يرتبط بالعملية الإبداعية من أدوات ووظائف، على مداخلات وعناصر تأثير كثيرة، إلا ان الإبداع هو ذلك النوع من العمل الذي يتمكن الشخص المبدع من خلاله أن يعكس تجربة إنسانية عميقة ما. وكلما كانت تلك التجربة خاصة أكثر، وتشكل بالنسبة للمبدع موضوعا حياتيا مُعاشا ومُدركا بوضوح وعمق، وتتم معالجته بتورط انفعالي صادق، كان العمل الإبداعي الذي يعبر عن تلك التجربة، أو يصدر عنها، أكثر تجسيداً لما يتطلبه الشرط الأول للإبداع: الأصالة ممزوجة بالابتكار.

لقد أصبح من السهل الآن، نسج منظومة من الحكايات المدهشة على غرار ذلك النوع من (الواقعية السحرية) أو الأسطورية الذي ابتكره غابرييل غارسيا ماركيز، لكتابة رواية مماثلة ل(مائة عام من العزلة). وهذا هو في الواقع ما فعله العشرات من كتاب القصة والرواية في العالم. ومن بينهم كتاب قصة من امريكا اللاتينية، بل من كولومبيا بالذات (موطن ماركيز الأصلي). ولكن أحدا لم ينتبه إلى ان ذلك الجهد كان بالأحرى جهداً ضائعاً بالفعل، وان السنوات مرت بلا طائل على هؤلاء الكتاب، بينما ظل النهر الذي نهل منه ماركيز يتدفق باستمرار.

(الأرض الخراب) ل(ت.اس.اليوت) ما تزال تفعل حتى الآن الشيء نفسه بالكثير من الشعراء. ولو لم تتبدل أشكال الشعر عما كانت عليه في سنوات التجديد العظيمة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لاستمر تأثير (أنشودة المطر) لبدر شاكر السياب طاغيا أكثر مما يمكن ان نعثر عليه الآن. حتى ان رامبو، ذلك الفتى الفرنسي العبقري، ما يزال يثير فينا ب(إشراقاته) و(مركبه المنتشي) الكثير من الهوس، هذا إذا لم نشأ ان نذكر أزهار بودلير الشريرة ولا بعضا من أعمال كيتس الانجليزي، أو لوركا الاسباني أو بوشكين الروسي.

وفي الواقع، فإنه لا يمكن لأحد أن يقلد عملاً لآخر ويتوقع نجاحاً. والسبب هو ان مستوى الانفعال الشعوري بأعمال التقليد ينخفض إلى مستوى لا يتيح أي فرصة للإبهار ولإثارة الدهشة. فتضيع قدرة العمل الابداعية على الخلق والكشف والتحدي.

الغابة المطروقة، لا تثير الخوف والريبة والتوجس الذي تثيره الغابة البكر. والنجاة من غابة بكر ليس كمثل (النجاة) من غابة مطروقة. الأولى معركة حياة أو موت. أما الثانية، فهي، بالأحرى، نزهة.

ولا شيء يبرر للكاتب ان يكون من السذاجة التي تتيح له ان يتصور ان الناس لا يقرؤون او انهم عاجزون عن التمييز بين الأصيل، الذي يخطف الأنفاس، والمزيّف الذي يمر باردا.

لا يلغي ذلك ما يستحقه التقليد من ممكنات. إلا انه يبقى تقليدا عاجزا عن أن يبلغ شأو الأصل. وسيظل بحاجة إلى قفزة ما في فراغ المغامرة قبل ان يمكنه ان يرقى إلى مستوى الجديد.

ان جانبا مهما من بدايات (فان غوغ) كان هذا الفنان الانطباعي العظيم قد كرسه لتقليد أعمال فنانين كبار. غير انه قام بذلك ليتأكد، وليؤكد للآخرين، قدرته الفائقة، لا ليقضي حياته مقلدا. ولكن الرؤية التي كان يضفيها حتى على تلك الأعمال، والتي ستميز اسلوبه الخاص فيما بعد، كانت هي التي وضعته في مصاف أعظم فناني عصره. ولو بعد فوات الأوان، حيث عاش ومات فقيرا ومحطما بسبب تلك الرؤية المختلفة بالذات التي لم يلتفت أحد إلى قيمتها المباغتة.

لقد تحولت انطباعية غوغ إلى مدرسة جمعت فنانين كبارا ومؤثرين مثل سيزان، مانيه، لوتريك، وغيرهم. ولكن كلا منهم كان يرسم بريشته الخاصة، ويرى العالم بعينيه هو، ويجترح خطوطا وأبعادا لم يُقدم عليها أحد غيره. المغامرة ظلت مغامرة. وغابة الانطباعية التي طُرقت من طريق، ظلت مثيرة نسبيا لانه امكن الدخول اليها من طرق مختلفة.

ولكن جميع الذين ركضوا لتقليد غوغ ذاته، بعد اكتشافه، تراجعوا عن الواجهات، وظل الأصل أصلا. أما الأصالة فانها شيء اكثر عمقا. ليس لانها نوع من الحوار العميق مع التجربة الخاصة للمبدع، فحسب، او ليس لأنها تلك التجربة ذاتها فحسب، بل لأنها أيضا ذلك الابتكار الذي يجعل كل ناظر له يظن انه يعرفه أو رآه من قبل، أو كأنه يعكس تجربته الخاصة هو نفسه. فيكون الكاتب هو وانت ونحن، على المستوى نفسه.

الملاحم العظيمة والقصائد والأغاني الفلكلورية والأمثال لا مؤلف لها، ليس لانها كانت سابقة على التسجيل والتوثيق، بل لانها كانت تعكس من التجربة الجماعية ما يجعل أي مالك - مفرد لها مدعيّا.

والمبدعون الكبار، اليوم او في المستقبل، يحيكون الكثير من نسيج الأصالة إن هم قدموا أعمالا تعكس تلك التجربة لتبدو في الوعي الجمعي كأنها شيء، على جدته، موغل في النسيج الاجتماعي نفسه، حقيقي جدا، وبليغ جدا، وفريد جدا.

غابرييل غارسيا ماركيز نفسه لن يستطيع ان يكتب عملا عبقريا مثل (خريف البطريرك) إذا حاول استعارة أجوائه من الشرق العربي مثلا. ولن ينجح أي احد في المقابل، من هذا الشرق نفسه، ان ينتج خريفا مماثلا، إذا كتبه بأسلوب ماركيز، وذلك على الرغم من ان بيئة الشرق تطوي من الفنتازيات السلوكية والسياسية ما يكفي لتجعل العالم كله يضحك بمرارة لمدة مائة عام متواصلة.

هذه الغابة ما تزال بكرا، وهي ما تزال تنتظر مبدعا، يبحث، ويجمع، ويدقق في التفاصيل، كما يفعل ماركيز، ويمتلك في الوقت نفسه تلك الأداة التصويرية الرفيعة التي تجعل من الكلمات بشرا. فالعمل الإبداعي ليس وحيا يوحى. انه عمل شاق أيضا.

ولعل عيب الكثير من (مبدعينا) هو انهم، مثل كذّاب، ينتظرون الوحي ينزل اليهم، بدلا من ان يذهبوا هم إلى مناهله.

لقد رسم يوكيو ميشيما صورة للبحر ولقيم المجتمع الذي يعيش في كنفه لن يتمكن منها إلا روائي ياباني مثله. فالعالم الذي ترسمه رباعيته الروائية (بحر الخصوبة) غني بالمأثرة اليابانية بالتحديد، وبذلك النوع من العطاء الساحر الذي يميز التقاليد اليابانية المستحيلة.

يقول أرسطو، ان الأمر الأول الذي يميز قدرة الشاعر الفنية هو (ان يجعل ما يبدو نادرا او مستحيلا في العادة، ممكنا لدى الجمهور). وهذا ما فعله ميشيما في (بحر الخصوبة) بالنسبة لكل شيء تقريبا. حتى ان الطريقة المشهدية التي انتحر بها هو نفسه قدمت تأكيدا ذاتيا، لا روائيا، هذه المرة، لتلك القيم التي خرج بها من مجتمعه الخاص ومن تجربته الخاصة.

وهكذا، فان الإبداع لا يكون إبداعا حقا، إلا إذا كان جزءا من الثقافة العامة، ومن الأوضاع والظروف الاجتماعية والتاريخية التي تحيط بالمبدع. في هذا المكان بالذات يوجد ذلك النهر، نهر الإبداع العظيم.

- لندن


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة