Culture Magazine Monday  29/12/2008 G Issue 264
فضاءات
الأثنين 1 ,محرم 1430   العدد  264
 
في قديم الزمان
د. شهلا العجيلي

 

إنّ شعباً بلا حكايات يموت من البرد، وأطفاله يعانون من الأرق! لذا، حينما ينفد مخزون الأم من الحكايات، تلجأ إلى التنويع على حكاياتها السابقة، وهذه سمة بارزة في الحكاية الشعبيّة، التي تمتلك قابليّة استثنائيّة للامتصاص، واللعب على ثيماتها الرئيسة، وتحويرها وفاقاً لمتطلّبات الحالة السياسية، أو الاجتماعيّة، أو الاقتصادية، أو التربوية. هذا ما جعل الحكايات الشعبيّة تخضع للحذف والإضافات وفاقاً لتنقّلاتها بين أفواه الرواة، وتلك طبيعة المرويّات الشفويّة عموماً.

تنماز الحكاية الشعبيّة بمميّزات عدّة منها: أنّها لا تستقرّ في مكان واحد، بل تنتقل بانتقال الراوي، وهي تعتمد على الرواية الشفهية، كما أنّ مؤلّفها مجهول، وتدور حول أشخاص ابتدعهم المخيال، وأحياناً حول شخصيّات ممتلئة تاريخيّاً، لكنّها تتحوّر في الحكاية، التي طالما حوّرت صورة هارون، وقرقوش، واستعملت عصا موسى، وخاتم سليمان في أعمال لم ترد في النصّ المقدّس. تتشابه الحكايات الشعبيّة في جميع أنحاء العالم، ولها هدف أخلاقي، مثل تأصيل القيم والعادات الاجتماعية، وإيجاد الحلول المستعصية، أو فتح آفاق للخروج من الأزمات، وغالباً ما يتبدّى ذلك من خلال حضور النموذج الإيجابيّ أو الناقد، ولا تخرج عادة عمّا هو سائد في المجتمع، أمّا لغتها فبسيطة، وليست العاميّة شرطاً لها، بل الفصيحة تحمل الحكاية الشعبيّة بيسر وبشعريّة متفوّقة.

لعلّ السؤال الذي لم يجد له إجابة واضحة هو: هل تتأتّى شعبيّة الحكاية من ذيوعها لدى أفراد الشعب، أم من كونها خطاب الشعب (الثقافة غير العالمة) في مواجهة خطاب السلطة الرسميّ؛ إذ طالما صرّح الدارسون بأنّ الحكايات صمام أمان، يستعمله المكبوتون، والمحرومون، والمقهورون! إنّني أجد هذا التخصيص منافياً للطبيعة البشريّة، فهل أولاد الملوك والحكّام والأغنياء لا يحلمون، وليسوا بحاجة إلى الحكاية؟ وهل تقتصر ثقافاتهم على الأدب الموجّه على نحو ما، أو لنقل الرفيع أو المنتخب؟ وهل هم معزولون تاريخيّاً بحيث لم تتسرّب إليهم الحكايات الأخرى؟

إنّنا بذلك نسلبهم ملكيّة الخيال، فلا شك في أنّ لديهم الأحلام والرغبات التي لن تختلف صيغتها بقدر ما تختلف مفرداتها عمّا هي عليه لدى الآخرين، لكنّ التنميط خصّ العامّة بالحكاية الشعبية، وعزل الخاصّة عن العلاقة معها.

تتداخل الحدود بين الحكاية الشعبيّة وبين أنواع حكائيّة أخرى مثل: الأسطورة، والخرافة، والسيرة الشعبيّة. يتغلّب الجانب الواقعيّ على الجانب الخارق في الحكاية الشعبيّة، وإن احتوت عناصر غير واقعية (الغريب والعجيب والفانتازي)، في حين يتغلّب الجانب الخارق في الخرافات، وإن احتوت عناصر واقعيّة. للأسطورة شأن آخر تماماً؛ فهي تعود إلى الديانات المبكّرة، وتحاول تفسير وجود العالم، وتقوم بتحويل الطبيعة إلى ثقافة؛ لذا هي تتكلم على الآلهة، وأنصافهم، وأبنائهم؛ مما يكسبها صفة القداسة، فضلاً عن رفعة لغتها؛ مما يجعلها في عداد مفردات الثقافة العالمة، ولها علم خاص بها (الميثيولوجيا)؛ مما يخرجها عند معظم الدارسين من دائرة الفولكلور. تبدي السيرة الشعبيّة علاقة الذات بالمجموع، من خلال التأكيد على مفردات البطولة في إحدى الشخصيّات الممتلئة تاريخيّاً، التي ستنقذ الجماعة من التقهقر الذي انتابها.

كلّما تحولنا باتجاه الإنسان، والاهتمام به، وفصله عن الطبيعة، وتأكيد فرديته، نتحول باتجاه الحكاية الشعبيّة؛ فهي تعالج هموم الإنسان بعد أن صار كائناً اجتماعيّاً - ثقافيّاً، أنبتت علاقته بالطبيعة منذ زمن طويل، وهي تشدّ من أزره في مواجهة الحياة اليومية. إنّ حدودها هي الحياة اليومية، والأمور الدنيوية العادية، من مثل مكر النساء، مكائد الزوجات، الصدق والأمانة، ظلم زوجة الأب... ومع ذلك لا تبتعد عن (العجيب).

إنّ ما نتكلّم عليه الآن مغيّب تماماً في البنية الثقافية العربيّة، فمنذ زمن طويل لم نعد نحكي حكاياتنا الشعبية العربية لأطفالنا، بل نستعير حكايات البنى الثقافية - الاجتماعية الأخرى، التي طبعت مراراً في سلسلة (المكتبة الخضراء) و(ليدي برد)، إلاّ أننا نمتلك الحكاية الشعبيّة، وبين يديّ في هذه اللحظة ثلاث مجموعات منها. كما أنّ الحاجة إليها لا تزال قائمة، وليس إقبال الناس على الدراما التلفزيونية المطوّرة عن بعض الحكايات الشعبيّة، سوى دليل على شغفهم بالحكاية.

يعود آخر إنتاج للحكاية الشعبيّة العربيّة إلى القرن التاسع عشر، وقد تمّ إنتاج بعضها لماماً في مرحلة الاستعمار الحديث للوطن العربيّ؛ إذ تنشط الشعوب في الأزمات في ابتداع الحكايات، وترويجها لتصير شعبية.

قد يسأل سائل حول إمكانيّة إنتاج حكاية شعبية اليوم! وأقول إنّ الأمر ممكن، وإنّ الحاجة تستدعي مثل ذلك الإنتاج، ولعلّ حكايات (قنّاص بغداد) الذي نشط في مرحلة من مراحل الاحتلال الأمريكي الأخير على العراق، بذرة حية للحكاية الشعبيّة، إلا أنّ الحقيقة الإعلاميّة التي تغتصب الخبر، وتغلق الباب في وجه المخيال، وتهتك ستر الوقائع، صادرت تلك البذرة.

للحكاية الشعبية أدبيّات محددة؛ فالليل هو مستودع الحكايات، التي تبدأ عادة ببسط أو دهليز، وهو عبارة عن لغز صغير، شعريّ غالباً، لا علاقة له بمتن الحكاية، يطرح بداية على مسامع المتلقين، لتشويقهم، أو تنشيطهم، وهناك عبارات افتتاحيّة مثل (كان يا ما كان في قديم الزمان) وعبارات استدراكية أثناء السرد، مثل: (فاتني أن أقول لكم)، وعبارات ختاميّة نمطيّة أيضاً:

وتوتة توتة خلصت الحدوتة، حلوة، ولاّ مفلوتة!

حلب

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة