Culture Magazine Monday  20/08/2007 G Issue 212
فضاءات
الأثنين 7 ,شعبان 1428   العدد  212
 

ثقافة كرة القدم
قاسم حول

 

 

أرجو ألا يزعل مني الرياضيون وهواة الرياضة، وبشكل خاص هواة كرة القدم. ومع أنها لعبة تعتمد على التكنيك والتكتيك والمناورة والمنافسة بما يطلق عليه الروح الرياضية، ومع كثرة عشاقها ومحبيها، وما لها من أرباح وخسائر مادية ومعنوية، لكنني لست مهتماً كثيراً بمثل هذه الأرباح والخسائر الممتعة؛ لأن حياتي كلها خسارات بسبب عسف الأنظمة التي توالت على بلدي.. العراق.

أنا غادرت العراق عام 1970 وكنت قررت ألا أعود. ولا أدري إن كانت غلطة مني أم عاطفة عندما استجبت لدعوة من وزارة الثقافة العراقية عام 1974 للمشاركة في تأسيس اتحاد السينمائيين التسجيليين العرب؛ فعدت إلى الوطن، وصراحة أول ما وصلت وطني لم أحسن عبور الشارع!

طلب مني وزير الثقافة أن أجري تقييماً للواقع الإعلامي والثقافي المرئي في العراق، واقترح عليّ زيارة المؤسسات الثقافية والإعلامية، وأن أطلع على تنظيمها الإداري وإنتاجها. وكانت بالنسبة لي فرصة لأن أعرف طريقة أداء المؤسسات الثقافية والإعلامية في وطني. زرت مؤسسة السينما ومؤسسة المسرح والفنون الشعبية والإذاعة والتلفزيون ثم بدأت زيارة الصحف العراقية؛ فزرت صحيفة بغداد أوبزرفر، وسألت رئيس التحرير كيف ترى أداء مؤسسات الإعلام العراقية؟ قال لي نصاً: (لقد قدمت طلباً لوزارة الخارجية العراقية لتعييني ملحقاً ثقافياً في إحدى السفارات العراقية). سألته: لماذا؟ قال: (حتى لا يرى ابني التلفزيون العراقي أخشى أن يتلوث بمفاهيم خاطئة ويتدنى عنده الحس الجمالي بالأشياء)؛ فاندهشت أن يتحدث مسؤول إعلامي وهو عضو في الإعلام القومي بهذه الطريقة دون خوف. وبعد حوار طويل غادرته، وزرت مجلة ألف باء، ووجهت نفس السؤال إلى رئيس تحريرها عن وجهة نظره في الأداء الإعلامي العراقي؛ فقال لي نصاً: (نحن الآن نركز على ثقافة الرياضة وثقافة كرة القدم)، وأضاف: ها أنت ترى الآن العراقيين مشدودين للتلفزيون العراقي الذي يعرض كل أسبوع حفلة مصارعة عالمية مع المصارع العراقي عدنان القيسي وهو يربح الصراع مع أكبر مصارعي العالم ولم يخسر ولا حتى مباراة واحدة، وتسمع الصراخ في بيوت الناس والمقاهي مساء كل ليلة جمعة وهم يهللون بالصلوات لانتصار المصارع العراقي البطل، وفي اليوم التالي لا حديث للناس في عملهم سوى مباراة المصارعة؛ حتى نسوا الحديث عن اختفاء البيض من السوق أو زيادة أسعار المحروقات أو التفكير بترتيبنا لأوضاع البيت السياسي العراقي للهيمنة الكاملة على السلطة من قبل حزبنا الحاكم!

لم يكن عدنان القيسي مصارعاً هماماً هزم مصارعي العالم بل كانت السلطة تجلب له المصارعين السمان من أولئك الذين يتصارعون تمثيلاً لتسجيل مصارعتهم الكوميدية في برامج تلفزيونية وتدفع لهم المال الوفير لينهزموا أمام المصارع العراقي، حتى أن مدير التلفزيون نفسه بدأ يصدق الكذبة ويتابع بشوق شديد المصارعة وانتصار عدنان القيسي على مصارعي العالم حيث في أحد الأيام كان في موعد المصارعة خطاب حي لرئيس الجمهورية فأرسل مدير التلفزيون فريق التصوير للبث الحي لخطاب الرئيس ولكنه سجل الخطاب دون أن يبثه حياً، فيما بث حفلة المصارعة من التلفزيون حياً؛ ما أدى ذلك إلى تلقيه عقوبة شديدة (!) وأبعد عن الإعلام فترة من الزمن.

لقد صدق مدير التلفزيون نفسه الكذبة.. فكيف بالمواطن الطيب والبسيط؟!

وبعد أن انتهت دورة المصارعة بدأت دورة كرة القدم وكثرت البرامج الرياضية وانسحبت البرامج الثقافية من التلفزيون العراقي.

الرياضة مهمة؛ لأنها تهندس البدن. وإن الروح الرياضية لو سادت فإنها تصفي الروح من الضغينة وتجعل المنافسة ممتعة، لكنها - بسبب طبيعة الإعلام وجهل المهيمنين عليه ونقص الوعي - جعلت من لعبة كرة القدم تكريساً للعنصرية حتى في أوروبا؛ فالبريطانيون مثلاً يأتون إلى هولندا لحضور لعبة كرة القدم بين الفريقين الهولندي والبريطاني، يأتون وفي أيديهم الهراوات لتكسير السيارات وكابينات الهواتف الزجاجية في حال ربح الفريق الهولندي، وكلا الفريقين مواطنون من أوروبا؛ فكيف الحال لو لعب الفريق البريطاني مع الفريق الياباني أو الروسي مثلاً؟ لقد انتهت الروح الرياضية في ثقافة كرة القدم لتحل محلها الروح العنصرية... كل ذلك بسبب تدني الوعي نتيجة تدني الأداء الإعلامي ومستوى الإعلاميين.

لو أجرينا إحصائية عن عدد البرامج الثقافية في القنوات الفضائية العربية وقارنا ذلك من خلال ساعات البث بين البرامج الرياضية والبرامج الثقافية فسنرى النتائج؛ حتى نقف أمام الحقيقة حقيقة تعميم الوعي أو حقيقة تعميم الجهل لتوصلنا إلى حقيقة مخيفة حقاً. المثقفون بعشرات الألوف لا يسمع بأسمائهم مواطن عربي واحد، ولا يعرف رواياتهم ولا شعرهم ولا أفلامهم نتيجة لسيادة الفكر الرياضي والثقافة الرياضية، وتدني مستوى برامج الثقافة كماً ونوعاً.

لو عملنا إحصائية عن مبيعات الكتاب العربي في سوق الكتب العربية، لنرى أي الكتب أكثر رواجاً من غيرها، فسنقف أمام الحقيقة الموضوعية، حقيقة تعميم الوعي أو حقيقة تعميم الجهل.

لو عملنا إحصائية عن الميزانيات المخصصة للثقافة في بلدان الشرق الأوسط وقارنا ذلك بميزانيات الدفاع إزاء عدو مفترض أو عدو غير موجود فسنقف أمام الحقيقة الموضوعية، حقيقة تعميم فكرة السلام أو حقيقة تعميم فكرة الحرب.

كل ذلك يقودنا إلى حقيقة تتمثل في رغبة أنظمتنا في تعميم ثقافة الجهل وثقافة السهولة وتراجع الثقافة الفنية والأدبية وثقافة الوعي والارتقاء بالمستوى الحسي والجمالي للمواطن.

في لعبة كرة القدم لكأس آسيا تمكن الفريق العراقي من الفوز في وقت يعيش فيه الوطن العراقي الخسارات على شتى الصعد، وكانت المباراة الأخيرة مع فريق المملكة العربية السعودية. ولقد فرحت لأن الاحتفالات في بعض بلدان العالم، وبشكل واضح في بريطانيا، خرج فيها المواطنون السعوديون يرفعون أعلام المملكة مع إخوتهم العراقيين. هذه روح رياضية نموذجية ربما لا تحصل في التأريخ سوى مرة واحدة، وحصلت، وهو دليل الارتقاء بمستوى الوعي والمحبة إلى أعلى درجاتها.

كان العراقيون يحتفلون بنصر في مباراة ويبكون بخسارة وطن... وطن مهدد بالخسارة الحقيقية إذا لم تحصل معجزة... وطن مهدد بالإلغاء إذا لم يتنادَ الأهل والأحباب للوقوف معاً في مواجهة المحنة حتى ترتفع راية المملكة مع راية العراق كما حصل في مباراة كرة القدم لتفويت الفرصة على المتصيدين بالماء العكر.

دعونا نتأمل بعمق وبوعي ونتساءل: لماذا يحصل ما يحصل الآن في العراق؟ لماذا لم يتمكن العراقيون من تحكيم العقل؟ لماذا لم يرتقوا بوطنهم إلى السمو ويخرجوه من المحنة التي رمته في قاع مظلم؟ ذلك هو تراكم الكم من الثقافة السهلة وثقافة الجهل طوال عقود من السنين.. كل برامج التلفزة والإعلام ليست سوى أغان متدنية المستوى.. أغاني المديح للقائد الأول والأخير الذي لا قبله ولا بعده.. برامج التلفزة ليست سوى مدائح الحزب الحاكم ومؤتمراته.. برامج التلفزة ليست سوى تثقيف الناس بقيم الجمال البعثية.. برامج ليست سوى إلغاء حب الوطن من الأناشيد المدرسية والتعويض عنها بأناشيد القائد الضرورية.. برامج الأطفال ألغت من برامج الدراسة ثقافة السلام، وحلت محلها ثقافة الحرب وثقافة الكراهية... هذا التراكم الكمي من هذه الثقافات هو الذي كوّن الشخصية المدمرة للوطن وللإنسان العراقي؛ وبالتالي ثقافة المصارعة المنتصرة كذباً، وهيمنة ابن الدكتاتور على مقاليد الروح الرياضية لتحويلها إلى روح للكراهية.

هذا يقودنا إلى قراءة واقع الثقافة المرئية الآن في فضاء الوطن العربي، في فضاء الأمة الإسلامية، وفي فضاء عالم الشرق الأوسط البديل المرتقب.

إن هجمة واضحة يتم تهديفها نحو المواطن، انحسرت منها البالية والحركة التعبيرية وانحسر المسرح الجميل؛ ليحل محله مسرح التهريج والشتائم وهز الأبدان والصراخ واختيار الممثلين (المتمتعين) بالتشويه الخلقي والخلقي وزجّهم في مواقف تثير الضحك منهم وليس الضحك من الموقف الحياتي الذي يبهج النفس لظرافته... هذه الثقافات انتظروها بضع سنوات وستكتشفون قوة نتائجها السلبية على الشخصية في منطقة قادمة سيطلق عليها منطقة الشرق الأوسط.. لتكن شرقاً أوسطياً، ولكن لا أن يتم تدميرها عبر ثقافة كرة القدم التي يقودها إعلام لزرع العنصرية والكراهية من خلال هذه اللعبة الجميلة، وليس لترسيخ الروح الرياضية، تصاحبها ثقافة موسيقية وغنائية ودرامية هابطة.. لن يكون لكل تلك الثقافات تأثير سيكولوجي فحسب، بل تأثير فسيولوجي سينتج تشويه السلوك الإنساني وتدمير الأوطان... وليكن العراق مثلاً أمام الجميع؛ فعندما تسقط السياسة يسقط النظام، وعندما تسقط الثقافة يسقط الوطن.

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

www.kassemhawal.com -هولندا


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة