Culture Magazine Monday  20/08/2007 G Issue 212
فضاءات
الأثنين 7 ,شعبان 1428   العدد  212
 

الديكتاتور كما رسمه حسيب كيالي«2»
نبيل سليمان

 

 

بعد عسر تمكن هذا الذي غدا نقطة في بحر من أن يبلغ سكرتير رئيس الجمهورية، ملوحاً بالبرقية، وطالباً لقاء الرئيس خمس دقائق. لكن السكرتير ينهال على منيب العطار: (خمس دقائق قد تقرر تاريخ سوريا لمئة سنة، لمئة قرن. خمس دقائق تحتاجها البلاد كما تحتاج العين لضوئها. تريد أن تسأل خاطره؟ ألا تعلم ماذا ترتكب؟ إنك تسيء إلى الوطن! وإذ أنت - اسمح لي أن أقول بصريح العبارة - على غير قصد منك، خائن. هل يسرك أن تكون خائن بلادك؟). هكذا خرج الرجل، وانتهت القصة بقولها: (وإزدحمت الأكتاف حول منيب العطار وتكاثفت واصطخبت، وظلت تتدفق وترتفع حتى غيبته في لججها). بالإضافة إلى حسني الزعيم، صور حسيب كيالي الديكتاتور، ولكن دون أن يسميه هذه المرة، بل اكتفى بتلقيبه (صنم التمر - المثال - التمثال)، حيث تذهب الإشارة إلى جمال عبد الناصر. وكان حسيب كيالي اليساري قد زُجَّ في السجن شهوراً في عهد الوحدة السورية المصرية (1958- 1961). ففي قصة (رحلة جدارية) من المجموعة التي حملت هذا العنوان، يشكو سائق السيارة للراوي المسافر أن (الحال واقف في اللاذقية)، فيود الراوي أن يقول له (إن كل شيء في هذه البلاد سيتوقف عن الحياة إذا استمرت عبادة صنم التمر الذي صنعه الناس ولما يأكلوه بعد.. على أشدها.. إذا ظل الناس يتعاطون كل أنواع المخدرات من غير أن يمر في أذهانهم نتفة حلم، إذا ظل الأحياء في الأكفان السميكة والقبور المهجورة.. ولكنني خفت من محدثي، وخفت من الركاب الثلاثة الصامتين في المقعد الخلفي).

يفتّق الكاتب تلك الصورة في العيش في ظل الديكتاتورية، ويؤسطرها، وذلك في قصة (يوليوس قيصر) من مجموعة (رحلة جدارية) نفسها. فالراوي يستذكر من عهد الديكتاتورية قائلاً: (في تلك الأيام كانت البلاد تحيا فترة مرضية لم تكد تعاني مثيلاً لها من قبل. كل شيء قفز من موضعه المألوف المناسب إلى مكان آخر ليس له. ساد هرج ومرج فظيعان. وكما يجري في الأساطير: المثال الذي صنعه الحالمون، في لياليهم السوداء القاسية وأيامهم الشقية، من خفقات القلوب وصمت الدموع.. هذا المثال دبت فيه حياة شيطانية ملعونة، فانطلق يبعثر كل ما يقع تحت يديه، يقلب، يمزق، يهدم.. والأنكى أنه يخطب طول النهار خطباً جنونية لا تعرف لها رأساً من ذنب، يختلط فيها ضرب المندل باستحضار الأرواح، بنتف من كلام الجرائد.. هذا ليس هو المثال الذي نحتنا! ولقد كان الاستماع إلى هذا الروح الشرير مسلياً بعض الوقت، ولكن التسلية انقلبت بعد قليل إلى عذاب أشبه بحكّ دمّل هائج. لقد امتلأ البلد بألوف العفاريت الصغيرة التي اقتحمت على الناس خلواتهم، وأخذت تفرض عبادة التمثال فرضاً شنيعاً: زُجَّ الآلاف في السجون. مات كثيرون تحت السياط. قرأ الأولاد ثناءً حاراً على عبادة الأصنام.. في هذه الأثناء كان الصنم لا ينقطع عن الخطابة. ولم يكن أحد يفهم شيئاً، ولكن التصفيق كان ضريبة.. صفق أناس لهم لأنهم أضحوا آلات.. وصفق آخرون خوفاً من جيرانهم. وأُولع الصنم بالتبرج فإذا هو لا يتورع عن أن يتزوق بالدم ويكتحل بالسم.. ولعل هذا الولوع إنما كان يستهدف تبرير وجوده المسخ ذاته، وإلا فلماذا كان يضابح صباح مساء لكي يوقف الحياة من حوله، لكي يجعلها من صخر، من صوان؟ ومن مظاهر هذه المضابحة أن الضجة قد أصبحت هي الآمرة الناهية.. إن الخزائن مفتوحة على المصاريع، لكل صاحب طبل أخرق وزمرٍ أبحّ: (ضجّوا من مطلع الشمس حتى مطلعها التالي.. لا تدعوا للناس ثانية واحدة ينصرفون فيها إلى أنفسهم، وخذوا ما شئتم من مال). ذلك لأن ثانية واحدة ينصرفون فيها إلى ذواتهم تكفي لعودة الصنم إلى صوانيته. لقد كان حجم القرقعة والطرطقة والضجيج هو المهم.. وغدا الصمت ضرورة، بطولة، نوعاً من الرفض يميت رعباً أولئك الذين تخدمهم الضجة!).

في روايته الأولى (مكاتيب الغرام -1954) كان حسيب كيالي قد قدم التفاتةً عابرة إلى ديكتاتورية حسني الزعيم. وليس ذلك غير إشارة من إشارات أهم إلى أن وكد كيالي كان في القصة القصيرة. وعلى أية حال فقد كان ما كتبه عن الديكتاتور والديكتاتورية، شأن كل ما كتبه، ينبض بهذا الذي نشرته له مجلة (الثقافة الوطنية) البيروتية عام 1955: (أريد أن أروي للناس حكايا تمتعهم، وتضحكهم، وتحركهم، فإذا لم أستطع، فلا أقل من أن أزرع في وجوههم المتعبة المكدودة بسمة تقتلعهم من هذا اللهاث المكدود المقصود، وتصرف أنظارهم، ولو ساعة أو بعض الساعة، إلى أن الكدّ واللهاث وكل ما أنبت في هذه الدنيا، شيء جدير بأن نرى إليه، أن نتأمله، أن نحبه، لذاته، لا لشيء آخر. وقد اقتضاني ذلك أن أسبر مدى وسائلي في التغلغل إلى القلوب).

كما كان لكل ما كتبه حسيب كيالي ضد الديكتاتورية وضد كل سوءات الحياة، منطلقه الذي حدده في تحقيق أعده حسام الخطيب لمجلة (المعلم العربي) الدمشقية عام 1966، حيث نقرأ: (أنا أنطلق من فكرة رفض هذا المجتمع المهترئ، النغل، المنافق، من فكرة الضحك منه، وصدمه صدمات هوجاء حتى تستيقظ القوى الكريمة فيه).

لقد بات للديكتاتور وللديكتاتورية، في العقد الماضي بخاصة، شأوهما الروائي العربي الذي يضارع ما كان لهما في الرواية الأمريكية اللاتينية. وقد كانت لحسيب كيالي ريادته إلى ذلك، وليت حياتنا المعاصرة كلها لم تحتج إلى تلك الريادة ولا إلى ما بلغته الرواية العربية في أمر الديكتاتور والديكتاتورية، لكنها البلية الكبرى التي بكّر حسيب كيالي في التنطع لها، ليواصل اللاحقون هذا التنطّع إلى... إلى متى؟

Soleman@scs-net.org - اللاذقية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة