Culture Magazine Monday  20/08/2007 G Issue 212
نصوص
الأثنين 7 ,شعبان 1428   العدد  212
 
صدمة عاطفية
أحمد بن موسى محرق

 

 

خالد وشريفة جمعتهما براءة الطفولة، وقسوة المعيشة، وقلة الحيلة. فمنذ أن أكملا من العمر اثني عشر ربيعاً وهما يلتقيان مع إشراقه شمس كل يوم جديد تتبع خطاهما قطيع أغنامهما عبر ذلك الطريق وسط الوادي إلى أن يستقر بهما الحال إلى شجرة السدر، تلك الشجرة العملاقة الوارفة الظلال كثيفة الأغصان، التي جعلا منها نقطة استقرار؛ ليمنحا بوصولهما إليها لقطيع أغنامهما حرية الانتشار والبحث عن الأخضر من الأعشاب في صدر ذلك الجبل الكبير المطل على قريتهما الصغيرة التي لا يتجاوز عدد منازلها أصابع اليدين، فيبدأ كل منهما بإخراج ما في (زوادته) مما جادت به أيدي أميهما؛ ليسدا خواء بطنيهما برغيف خبز من القمح الأبيض أعد في التنور، وقليل من اللبن الدافئ يفترشانه تحت ظلال تلك الشجرة، تشاركهما زقزقة العصافير ونسمة الهواء العليل ومنظر الطبيعة الجميل، فبعد أن يمتلئ بطنيهما وترتوي عروقهما يبدآن بسرد الحكايات البريئة والألغاز البسيطة والنقش على جذع الشجرة بعض الأشكال الغريبة بطريقة عفوية بريئة، يداهمها الوقت بسرعة رهيبة ولا يقطع عليهما لعبهما ولهوهما إلا صوت مؤذن قريتهما، الذي وهبه الله صوتاً يغنيه عن مكبرات الصوت، وتجمع أغنامهما حولهما فراراً من لسعات شمس الظهيرة معلنة بأصوات ثغائها وقت عودتها إلى حظائرها.

استمر خالد وشريفة على هذه الحال ثلاثة أعوام حتى جاء ذلك اليوم الحزين الكئيب الذي كشر فيه شبح الفراق عن أنيابه في وجه تلك الأيام الجميلة، وغرس مخالبه في صدر تلك اللحظات البريئة، ذلك اليوم الذي سألت شريفة فيه خالداً قائلة: ماذا بك فمنذ يوم الأمس وعلامات الحزن والشحوب ترتسم على تقاسيم وجهك، وكأن هموم العالم قد تجمعت على عاتقك؟ حنى خالد رأسه وصوب نظره إلى الأرض وقال بصوت مرتجف ضعيف: لقد قررت السفر! وقعت هذه الكلمة على مسمعها كالصاعقة، اهتزت لها جميع أطراف جسدها، فنظرت إليه وبصوت المفجوع قالت: السفر إلى أين؟ ولماذا السفر يا خالد؟ فقال: كما تعلمين بأنني أكبر إخوتي، ومنذُ أن توفي والدي العام الماضي بمرض الجدري صرت أنا المسئول عن أمي وإخوتي، والمرض أصاب أمي في ناظريها وأقعدها فلم تعد تستطيع العمل على مكينة الخياطة التي كنا نجني منها بعض الريالات، وقطيع أغنامنا ينقص يوماً بعد يوم لكثرة بيعنا منه لقضاء احتياجنا من نقود، وإخوتي يكبرون والمصاريف تزداد يوماً بعد يوم؛ لذا قررت السفر إلى المدينة؛ حيث يسكن خالي (موسى) لعلي أجد عملاً أستطيع من خلال راتبه أن ألبي طلبات واحتياجات أمي وإخوتي. فنظرت إليه والدمع يعتصر في عينيها ولغة البكاء تختلط بكلماتها وقالت: لكن كما أسمع عن المدينة بأنها كبيرة والغربة مرة، والوحدة مؤلمة، فأخاف أن تصم مسامعك بضجيجها وتبهر نظرك أنوارها. اقترب خالد منها وقال لها بعد أن حنت رأسها؛ لكي لا يرى الدمع في عينيها والحزن الذي يسكن أنفاسها: لا تخافي يا شريفة لن تغيرني المدينة، وسأظل خالداً ذلك القروي الذي يعشق كل ذرة رمل في هذه القرية.

أشرقت شمس اليوم التالي، حمل خالد حقيبته السوداء وكأن سواد لونها ينبئه بمستقبله القادم، واتجه إلى المدينة ينتقل من سيارة إلى أخرى ومن قرية إلى أخرى حتى وصل المدينة قبل غروب الشمس. استقبله خاله وهيأ له غرفة صغيرة في أعلى سطح منزله. ورغم تعب الطريق وطول المسافة لم يغمض له جفن تلك الليلة وظل يتقلب يميناً ويساراً وينتقل من زاوية إلى أخرى؛ تذكر قريته الصغيرة وكيف كان جميع من فيها يطفئون فوانيسهم وينامون بعد صلاة العشاء مباشرةً، لا تسمع بعد ذلك سوى نباح الكلاب.

أشرقت شمس يومه الأول في المدينة، حمل أوراقه، وخرج يجوب شوارع المدينة ويتنقل من شركة إلى مؤسسة ومن مؤسسة إلى دائرة حكومية، فلم يحالفه الحظ في اليوم الأول، ومر اليوم الثاني كما مر السابق، فبدأ يتسرب اليأس إلى أعماقه، وفي اليوم الثالث وجد عملاً براتب بسيط جداً ويحتاج جهداً كبيراً، أخذ يزن في عقله بين الراتب القليل والعمل الشاق وفي تلك اللحظة ظهرت أمامه صورة أمه وإخوته فوقع على قبول العمل وباشر عمله من وقته، فتنزيل الحمولة من الشاحنات المرتصة أمام المستودع لا يحتاج إلى تعليم أو تدريب. رجع إلى غرفته بعد غروب الشمس وقد أنهكه الجوع والتعب، رمى بجسده النحيل على فراشه كأنه طائر مكسور الجناح، سقط على الصخور. ظل على هذه الحال يذهب مع شروق الشمس ويعود عند الغروب وكل يوم يزداد نشاطاً وقوة وصبراً... استلم أول راتب له فأحس بفرحة كبيرة كأنه طائر يملك جناحين ولابد أن يطير، كتب رسالة ووضع الراتب في المظروف وأرسله إلى أمه مع بائع القماش العم (سلطان) الذي يعمل في شراء القماش من المدينة وبيعه في قريته والقرى المجاورة. استمر على هذا الحال ما يقارب العام، حرم نفسه من كل شيء حتى أبسط الأشياء، فأمه وإخوانه أحق بالسعادة والفرحة. لم يعرف في تلك المدينة سوى الشارع الذي يذهب منه إلى عمله ويعود منه. كانت بين الفترة والأخرى تأتيه رسائل من قريته تكتبها أخته (فاطمة) تطمئن على حاله وتطمئنه على حال أمها وإخوانها، ولأنها كانت الوحيدة التي تعلم جسر المحبة الذي يربط بين قلب خالد وشريفة، كانت تدون أسفل كل رسالة ترسلها جملة (شجرة السدر تبلغك السلام وهي بألف صحة وعافية)، كان لوقع هذه الرسائل الكثير الكثير في حياته فهي الوحيدة التي تزيل همومه وتبتسم لها شفاهه وتجعله يزداد صبراً وتحملاً ونشاطاً في عمله، ولكن هذه الفرحة لم تدم طويلاً، وبدأت تتلاشى؛ عندما لا حظ بأن أخته لم تعد تكتب تلك الجملة في أسفل رسائلها، فأخذ منه الوسواس ما أخذ واختلق الأعذار الواهية لها، ولكن داخل قلبه كان إحساس مخيف فأرسل رسالة، يسألها ما السبب؟ ومع الرسالة الثانية جاءه الرد الذي كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وذبحته من الوريد إلى الوريد عندما كتبت قائلة في رسالتها (أخي العزيز لقد حاولت تجاهل سؤالك المتكرر في رسائلك الأخيرة عن انقطاع كتابة تلك الجملة في أسفل رسائلي، حاولت بشتى الوسائل، ولكنني رضخت أخيراً أمام إصرارك وتوسلاتك، أخي خالد قد أكون الوحيدة التي تعلم مشاعر الحب المتدفقة والعلاقة البريئة والنية الشريفة التي تربط بين قلبك وقلب شريفة ابنة جارنا، ولكن الذي أطلبه منك قبل أن تكمل قراءة رسالتي أن تفكر بعقلك لا بقلبك، وأن لا تهزك هذه الصدمة العاطفية، أما بالنسبة لشريفة فقد تقدم لخطبتها ابن عمها الذي يسكن في القرية المجاورة بتخطيط من أبيها وعمها وعندما رفضت ذلك حاصروها بأن العادات والتقاليد (توجب بنت العم لابن العم) وأنهما مخطوبان لبعضهما منذ الطفولة، وعندما أصرت على رفضها أوسعها والدها ضرباً، ومنعها من الخروج حتى لرعي الأغنام، فتدهورت صحتها وزاد حزنها فليلها بكاء ونهارها منطوية على نفسها لا تكلم أحداً ولا ترى أحداً، وقد قرروا موعد الزواج في الأشهر القليلة القادمة، والذي أتمناه لك حياة سعيدة بدونها).

عندما قرأ رسالتها أحس بشيء غريب يسري في صدره، أحس برغبة كبيرة في البكاء ورغبة في الضحك، بل أحس برغبة أكبر في الموت. حمل بعض ملابسه المبعثرة في أرجاء الغرفة ووضعها في حقيبته واتجه للقرية ينتقل من سيارة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى. وصل مشارف قريته في منتصف الليل وكعادتها تلك القرى في فصل الخريف كانت السماء ملبدة بالغيوم وضوء البرق والرعد يحول عتمة الليل إلى نهار ويشق عنان السماء وتهتز لها الجبال وقطرات المطر بدأت بالتساقط. امتنع صاحب الأجرة من مواصلة السير إلى قريته خوفاً من أن تمتلئ تلك الأودية بالسيول في أي لحظة، توسل خالد إليه وضاعف له المبلغ لكنه أصر على رفضه وقال: يا بني إن هذا الوادي الذي يحيط بقريتكم قد يمتلئ بالسيول في أي لحظة، وقد شاع صيته بين الناس وغرق فيه الكثير ولا أستطيع المجازفة بحياتي وسيارتي.

حمل خالد حقيبته بعد أن يئس من صاحب الأجرة، وأخذ يسير بين تلك الصخور والأشجار يسقط مرة ويتعثر مرة أخرى وزخات المطر بدأت تشتد. دخل على أمه وإخوته ووجدهم ملتفين حول بعضهم البعض كتلة واحدة يسبحون ويهللون ويدعون الله أن يجعلها سقيا خير ورحمة لا أمطار عذاب. أخذ يقبل جبين أمه ويديها وهي تردد (رحب بك المطر والسيل يا ولدي)، التف إخوانه حوله فرحين بقدومه، ذهبت أخته لكي تشعل الفانوس، لكنه أشار إليها بعدم فعل ذلك. كم كان يتمنى في تلك اللحظة أن يشتعل الفانوس لكي يرى ملامح وجه أمه بعد ذاك الغياب، كم كان يتمنى أن يرى البسمة وهي ترتسم على وجوه إخوانه لكنه خشي في المقابل أن يروا وجهه الحزين ودموعه المختلطة بقطرات المطر. أخذ فاطمة إلى زاوية أخرى من البيت وقال لها أستحلفك بالله أن تخبريني بما جرى منذ رحيلي من القرية حتى الآن. فقالت له: ما جرى هو ما كتبته لك في رسالتي الأخيرة، لكن شريفة توعدت والدها وعماها بأنها ستفضح أمر ذلك الزواج ليلة زفافها أمام المدعوين، فاستدلوا على حيلة أخرى بأن يأتي ابن عمها ليلاً ويأخذها إلى قريته من دون زفاف، وهذا ما حصل قبل سبعة أيام وكما سمعت من نساء القرية بأن زوجها أوسعها ضرباً من أول ليلة تدخل فيها عشها الزوجي. بعد أن أنهت فاطمة كلامها أخذ يسير إلى خارج فناء المنزل يجر خطواته المتثاقلة وأحزانه الطاغية، وقفت أمامه، أمسكت بيده وهي تصرخ في وجه: أين ستذهب في هذه الليلة الممطرة وأصوات السيول تنحدر من أعالي الجبال وضوء البرق يخطف الأبصار!؟ لم يلتفت إليها وكأنها تخاطب جماداً وأخذ يسير عبر ذلك الطريق وسط الوادي حتى وصل إلى شجرة السدر فاحتضنها كاحتضان أم لرضيعها؛ ليعود بشريط ذاكرته للوراء، تذكر الأيام الجميلة التي قضاها تحت تلك الشجرة، تذكر شريفة وملامحها البريئة وحبة الخال التي تسكن وجنتها والإسوارة التي تزين معصمها، حينها أصيب بحالة هستيريا وأخذ يصرخ ويردد بصوت عالٍ (تباً للعادات والتقاليد التي تقتل حباً كحب شريفة.. تباً لكل أب ظالم جعله القدر ولياً، تباً لكل رجل يضطجع مع زوجته وهي لم تعشقه يوماً) حتى سقط مغشياً عليه، لتستيقظ تلك القرية الصغيرة على جثته مرمية على حافة الوادي بعد أن جرفتها السيول عدة أمتار مطعونة بسكين العادات والتقاليد.

الرياض - ص.ب 235894


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة