Culture Magazine Monday  20/08/2007 G Issue 212
سرد
الأثنين 7 ,شعبان 1428   العدد  212
 
دموع سيدة الحديقة
عبد العزيز حمد الجطيلي

 

 

الساعة السادسة والنصف

وهذا الأصيل... وقد بدأت شيخوخته ذبول واصفرار على سعف النخيل والعصافير تعزف آخر ألحان النهار حيث ينتهي الغناء والرقص لحظة ينبت النعاس في عشها المنسوج بين أغصان الشجر!!!

السيدة الجوهرة في حديقة منزلها الجديد وكأنها في موعد مع الغروب تجلس على كرسي الرخام الأبيض تحت شجرة العنب.. تتأمل لحظات احتضار الأصيل والكآبة تملأ ذاتها.. وقد ارتدت (البلوزة) البرتقالية المطرزة بالشمس المشرقة ... وحرف وحرف !!!

واكتملت أناقتها (بتنورة) زرقاء كألون مياه المحيطات. كأن السيدة الجوهرة تتمسك بحلمها الكبير في شمس لا تغيب!!!

الجوهرة صامته أمام جاذبية الغروب وشاعريته... وحائرة بين جمال اللوحة ومخاوفها!!!

الساعة السادسة وخمسون دقيقة

الجوهرة ونظراتها الشاردة وقد بدأت الشمس تغرق في غيمة الظل الجديد... بداية الغروب من آخر أنفاس الإشراق...

نهضت من كرسي الرخام الذي تمتطيه لحظة التأمل والألم ولكن....

جراحنا لا تندمل وأحزاننا لا تنتهي وتشرد قلوبنا لا يتوقف حين نترجل من فرس التأمل وتذكر الحب الذي مضى ولم يمضِ!!!

الساعة السادسة وخمس وخمسون دقيقة

بدأت الجوهرة بإشعال المصابيح الملونة في زويا الحديقة وممراتها الضيقة حتى المصابيح في أعماق المسبح الأنيق أضيئت والفوانيس على الأسوار أضيئت. وتسألت الجوهرة.. لم لا تنسيها مصابيح الحديقة والفوانيس التي يملؤ نورها كل الزوايا والأسوار فجيعة مغيب شمس ورحيل نهارها!!!؟

صمتت الجوهرة بالسؤال الصعب ثم.. ثم بكت ومسحت بالمنديل المعطر عطر عينيها.. وتبسمت قائلة يا لدهاء عيناي وفطنتها حلت لغز خريف الأيام بالدمع حتى تبللت تضاريس الجراح!!!

قامت الجوهرة.. لتلعب دور ساقي الشجر.. وتسقي أحواض الزهور... وتهدهد بحنانها طفولة الورد وتقبل جبينه وتشم رائحة الامتنان..!!

وسارت الجوهرة إلى حوض النعناع وقد تلونت أهدابه الخضراء بالغروب وكأنه ينظر إليها، فابتسمت له وأسقته الماء حتى ارتوى.. وقطفت بعض أهداب النعناع لتضعها في كأس الشاي البارد، وشربت حتى النهاية لعل مذاق النعناع يحصد المرارة النابتة في أعماقها!!!

عادت الجوهرة إلى كرسي الرخام بين نعم اكتئاب ولا...!!!

سألت سيدة الحديقة نفسها والحيرة تحتويها.. لم لا تنسيني رائحة الورد والنعناع على بوابة مساء جديد ذكرى شذى بستان مساءات مضت!!؟

آه... غابة الغروب الموحشة أقوى من حديقة صغيرة مضيئة!!!

ما أصعب الحقيقة حين تتحصن بالسؤال!!!

صمتت عاجزة إلا من بكاء.. (عيناي ما أقوى ذاكرتك.. ذاكر ة قلب!)

عيناي.. ليتك تبصرين الإغماء والغيبوبة والنسيان!!

آه.. ليت قلب حب الأمس كفيف!!!!

الساعة السابعة

الجوهرة تنظر إلى (البلوزة) التي ترتديها وتتأمل الشمس المطرزة عليها وعلى أطراف ضفائرها الذهبية نسج بخيط الحرير حرف اسمها وحرف اسم حبيبها.. شعرت بالسعادة ولكن.! عندما رفعت عينيها إلى مغيب الشمس وقد اكتمل رحيلها!!!

تنهدت الجوهرة وقالت.. بالسخرية حقيقة الأحلام التي نعيد رسمها لا.. لا نستعيدها بعد أن تغرق في محيط يأسنا وقلة حيلتنا!!!

الساعة السابعة ودقيقة واحدة

بدأت مآذن الحق بصوت الحق تؤذن لصلاة المغرب.. الجوهرة تصغي للأذان بصمت وخشوع.. وبعد الأذان قالت: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. ومضت إلى داخل خيمتها الأسمنتية الفاخرة والحزن يسكنها حتى الألم!!!

دخلت الجوهرة إلى البهو الواسع، الأثاث الإيطالي والسجاد الإيراني والتحف الجميلة وفي الأركان مزهريات بلا زهور وأبجورات النور الملونة.. ومدفأة يختبي بها الدفء لحين موسم الشتاء.. وعلى الجدران علقت لوحات فنية احتوت طبيعة العالم كله أنهراً وبحاراً ومحيطات.. أودية وجبالاً. حتى صور عنيزة الأمس وبيوتها الطينية.. وبحيرة الرمل الشاحب فيها علقت كأنها صور للحسناء مهد أحلامها.. المكان رائع حتى الدهشة كأنه معرض فني!!

جلست الجوهرة.. تتأمل في مللها وكآبتها والضجر.. وتسألت.. كيف يضيق هذا البيت الكبير وبكل هيبته وروعته بلحظة تأمل وألم مغيب شمس ورحيل نهارها!!؟

ولم يعجز ثراء المكان عن سد حاجة أعماقي إلى الفرح...!!؟

صمتت الجوهرة..!

إغماء بعد كل قصف سؤال صعب وحيرة أصعب!!؟

قالت.. لابد من مفاتيح الأفكار البسطة تخرجني من زنزانة تفكيري الصعب..!!

أخذت الجوال وهاتفت صديقتها الخاصة جداً منيرة وكان هذا الحوار:

* أهلاً منيرة.. أخبارك وكيف صحة الوالدة؟

* أهلاً وسهلاً الجوهرة الحمد الله أخبارك أنت؟

* الحمد لله منيرة أنا.. أنا بخير بس مشتاقة لك (الجوهرة تتحدث بنبرة فيها حزن وبعض من بكاء).

* الجوهرة سلامات ليش صوتك كذا أنت تعبانه أنت تبكين!!!؟

* اطمئني منيرة أنا بخير بس أحس بكآبة وملل اليوم أشرقت غيمة الماضي

وتذكرت الإنسان الآخر بكل التفاصيل الجميلة، لم يعد لدي سوى حنين بلا أمل، أشعر هذا المساء بالتعاسة.

* الجوهرة عليك بالنسيان وأحب أقولك أوامر اضحكي للدنيا تضحك لك وطنشي تعيشي البكاء لا يرسم لنا السعادة.

* منيرة صعب أن نتخلص من أحزاننا حين يكون الحب مصدرها أنها جراح قلب.

* الجوهرة.. وش رأيك نسهر الليلة عندك أكلم البنات نوال وفاطمة.

* الله يحييكم أنا بالانتظار لعل السمر يذهب الضجر (باي).

أنهت الجوهرة المكالمة مع منيرة صديقتها الخاصة ومستودع أسرارها وأحست بالارتياح.

نادت على الخادمة الفلبينية (لندا) وقالت: عزيزتي لندا يالله شدي حيلك عندنا ضيوف الليلة على العشاء... وطلبت منها إعداد بعض أطباق الحلوى والفطائر وأكدت عليها استخدام الأواني الصينية الجديدة للشاي والقهوة وملاعق السكر الفضية وعلب الكرستال.

وتصاعدت رائحة البخور الكمبودي في أرجاء البيت الواسع. وبعد أن أطمأنت الجوهرة على جاهزية المكان صعدت مع السلم الدائري إلى غرفتها لتعانق أنوثتها أناقتها المعتادة.

دخلت الجوهرة غرفتها، أشعلت مصابيح منتجعها المسقوف وكاعادتها تضع بالفاه البلاستيكي إحدى أغاني الرائعة نجاة الصغيرة لتسمعها خلال اللبس والتزين للحفلة فكانت أغنية (أسالك الرحيلا) الكلمة الساحرة لنزار قباني.

ارتدت فستانها البحريني العودي ووضعت الشال الحريري في استدارة حول رقبتها وارتدت عقد الؤلؤ والخاتم الفيروزي ثم جلست على الكرسي الصغير أمام مرآة التسريحة لتصفف شعرها الطويل، ليل أسود يزين صبح وجهها، تعطرت من العطر الفرنسي المحبب لها منذ أهداه لها إنسان كان كل شيء في حياتها وبدأت تبحث عن قلم الكحل لتكتب الحرف الأخير في رائعة قصيدة زينها.. فلم تجد قلم الكحل . وصارت تفتش عنه وعندما فتحت الدرج الصغير كان قلم الكحل في وسط بطاقة معايدة قديمة منسية من حبيبها الذي كان!!!

لم تقاوم الجوهرة العقل جبروت الجوهرة القلب وبدأت وهي خائفة تقرأ بطاقة المعايدة وقد كتب حبيبها:

(الجوهرة ..الليلة عيد.. وأنا أبارك لك في عيد أنا فيه معك.. قلوبنا معاً ..أحلامنا معاً حروفنا معاً.. ليلنا أكثر أشراقاً من نهار الآخرين ولكن!!

إن قست أيامنا.. ولم يعد الرفبق مع الرفيق.. فتذكري دائماً أنك أنت عيد العمر في كل ليلة عيد بكل ما فيها الحلوى والعطور الزهور والهدايا وضجيج الناس.. وصخب المتاجر، تذكري أنني من وسط بحر ضياعي من صراخ أمواجه أرسل لك لحناً لتطربي فيه تهنئة من أعمق أعماقي.

حبيبتي.. الأيام تقتل أحلامنا.. لكنها تبقي معنا ذاكرة حب كبير في عرين قلب أسد الوفاء يذود عنها.. ونقول كل عام وقلوبنا رغم الحرمان والمسافات والحواجز بخير!!!

حبيبتي.. عيد سعيد في ليلة عيد أخاف عليها.. وعيد سعيد في ليالي عيد أخاف منها.. التاريخ.. العمر كله).

أجهشت الجوهرة بالبكاء وكأنها المرة الأولى التي تقرأ هذه الكلمات، قبلت البطاقة وتندت بعض حروفها بمطر عينيها وقالت: (عذراً يأ أعز الناس أنت.. الألم أكبر من أحلامنا لذا ...لذا كان عيدنا الرثاء).

الجوهرة تبكي ونجاة تغني وكان لحظتها هذا المقطع:

(انزع حبيبي.. حبيبي معطف السفر)

(وأبقى معي ..معي حتى نهاية العمر)

(فما أنا مجنونة كي أوقف القضاء والقدر)

(وما أنا مجنونة كي اطفي القمر)

في هذه اللحظة بدأ رنين جوال الجوهرة.. أنها منيرة.

أهلاً منيرة.

الجوهرة: وينك أنا وصلت تحت بالصالة جئت مبكرة قبل البنات عشان أساعدك

منيرة: أنا بالغرفة ألبس شوي أنزل لك.

بعد هذه المكالمة كان (ترمومتر الإحساس) عند منيرة أعطاها قرأة صحيحة بأن الجوهرة حزينة وتبكي وحيدة في غرفتها!!

صعدت منيرة مسرعة الى الجوهرة في غرفتها وعندما دخلت عليها وجدتها تبكي وقد أشعلت النار في بطاقة المعايدة.. صرخت منيرة أطفئ النار. وعندما رأت الحروف التي لم تحترق بعد فهمت لِمَ الجوهرة تبكي!!!

حضنت منيرة الجوهرة بدفء وحنان الأوفياء وقالت لها: حبيبتي الجوهرة.. عندما نحرق أشياءنا وذكرياتنا لا تنطفئ نار أحزاننا!!!

قالت الجوهرة بصوت متعب: حقاً لا تنطفئ نار أحزاننا يا لعمق مأساتي.. أنا فاشلة وتعيسة!!!

قبلتها منيرة وقبلت جبينها وهي باكية مثلها.. وحضنتها من جديد: يجب أن تتصالحي مع نفسك والواقع... نجاحك الباهر هو أنك إنسان!!!

وبذكاء قلب منيرة.. تبتسم في وجه الجوهرة وقالت ما شاء الله.. ما شاء الله وش هالأناقة،

عيني عليك باردة، والله ملكة جمال.. البنات على وصول خلينا نضحك الليلة.. فالفرح يضمد الجراح.

جاءت الخادمة ليندا.. لتخبرهم عن وصول أبلة فاطمة وابلة نوال تحت في الصالة.

قالت منيرة: يالله ننزل وخليك طبيعية علشان ما يلاحظن البنات حزنك.

نزلت الجوهرة وهي تردد (يا هلا.. حيا الله من زارنا).

* وتبدأ حفلة السمر

استعراض نكت الجوال.. وملفات البلوتوث الطريفة.. فقرة من الحفل.

أخبار المتاجر الجديدة.. والموضة.. والسياحة فقرة من الحفل.

قصص العمل. المواقف مع مديرة المدرسة الصارمة. والطالبات والامتحانات فقرة من الحفل. وعلى أنغام أحلام.. كان الرقص والغناء والابتسام وفي أجواء البهجة وكرم الضيافة وروعت المكان كانت السعادة غامرة.

وكانت منيرة أكثرهم سعادة وهي ترى الجوهرة تغرق في نهر الزمن السعيد وقد أنساها هذا الجو والمرح كآبة الأصيل في الحديقة.. وترمد بطاقة المعايدة في غرفتها الخاصة ومضى الليل... وليت لحظاته ساعات وساعات!!!

بعد منتصف الليل فاطمة ونوال تغادران المكان وبقيت منيرة تود أن تطمئن على الجوهرة قبل أن تذهب.. وحتى يصل زوج منيرة ليصحبها الى البيت اصطحبت الجوهرة منيرة الى الحديقة وتقاسما كرسي الرخام.. كان حديث الصمت أكثر من الكلام.. قالت الجوهرة: منيرة انظري حبيبتي الى الزهور والنعناع في أحواضها نائمة والعصافير في أقفاصها وأعشاشها نائمة ما أسعدها طيور وأزهار تنام وتحلم!!!

تبسمت منيرة وقالت: الحمد لله وردتي الجوهرة بقلبها العصفور ستذهب الى فراشها وعلى وسادة الحلم تنام وتحلم!!

ردت الجوهرة بسرعة: (ان شاء الله فال وكان) جرس الباب. وصل زوج منيرة ليصطحبها ووقفت منيرة تودع الجوهرة وقالت ألف شكر على الدعوة والله (انبسطنا). وبيننا غداً تلفون بس الجوهرة.. أنظري إلى الشرق هناك منه غداً تولد شمس جديدة تتساقط ضفائرها على حديقتك وعلى نوافذ غرفتك فاحلمي بها قبل أن تشرق وراقصيها عندما تشرق ليلة مباركة يا سيدة الحديقة قبلتها ومضت!!!

صعدت الجوهرة إلى غرفتها.. إلى سريرها الكبير،

ارتدت ملابس النوم البيضاء... وكانت تشعر بالارتياح،

وربما السعادة.. واسترخت على الجواد الخشبي ونامت كالأزهار كالنعناع كالعصافير كالحمام في حديقتها.

الساعة العاشرة صباحاً

استيقظت الجوهرة.. سيدة الحديقة.. ونادت على الخادمة ليندا.. من فضلك احضري لي كأس القهوة في الحديقة.. وبدأت الجوهرة تسير في حديقتها كالفراشة.. وقالت: يا عصافير وأزهار وأشجار حديقتي أنا مثلكم نمت كثيراً.. وحلمت كثيراً.. أشعر برغبة شديدة أن أروي لكم مناماتي الجميلة.. لقد نمت وحلمت وغنيت ورقصت وأنا

داخل قفص أحزاني.. الحمد لله لقد نمت كثيرًا!!!

جاءت الخادمة ليندا.. صباح الخير مدام الجوهرة هذه القهوة.. وهذه جريدة اليوم وصلت..

شكراً.. ليندا.. بدأت الجوهرة تحتسي القهوة وتتصفح الجريدة.. حتى رأت صورة الإنسان الذي كان كل شيء في حياتها.. مع خاطرة له تحت عنوان (أنا ..لا أنام) وبدأت الجوهرة وقد ارتعشت أهداب عينيها تقرأ خاطرة حبيبها الذي كان وقد كتب يقول:

... بعدك أنا لا أنام

أقفاص النوم والأحلام تحطمت

بعدك لا عصافير أملكها.. ولا أحلام تحتويني!!

بعدك.. أنا لا أنام

في الليل سهر.. وفي الليل الأبيض وسط كل الناس وحدة وضجر

سيدة الحديقة..... يا حبي الكبير أنت

المنحل في حديقتك يهبك كل شيء... ومنحل الأيام في غابة تشردي أخذ مني كل شيء

ليت قوارير الحبر..... قوارير الدواء

ربما شفيت منك.. وربما سليت ونسيت!!

وربما كتب على سور حديقتك ذات يوم... أن حبيبك قد مات ولم يمت!!!

بكت الجوهرة كثيراً...... وأخذت القلم وكتبت على الجريدة بجوار صورة حبيبها.. وكأنها تريد أن تهمس له.

كتبت تقول:

سيدي

الجوهرة معك

سيدة الحديقة معك... أنا يا قرة عيني معك...!!

كل ربيع حديقتي.. وأقمارها المضيئة.. وعناقيد العنب وعصافيرها... وهديل الحمام فيها

كلها لا تنسيني شتاء ضياعك.. وعتمة ليلك.. وقيثارة صمتك!!

أروع ما في شوارد نفسي أنها حين تضيع مني تنقلني إليك...

أنا أتألم وأنت تتألم هذا كثير...!!!.

- عنيزة ayamcan@hotmail.Com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة