Culture Magazine Thursday  02/07/2009 G Issue 290
مراجعات
الخميس 09 ,رجب 1430   العدد  290
استراحة داخل صومعة الفكر
أشواق وحكايات
- د. منصور الحازمي
128 صفحة من القطع المتوسط
سعد البواردي

 

للحكايات أشواق.. وللأشواق حكايات منها الشاق والشايق.. على قدر الواحدة منهما تأتي الحكاية:

حكاية تافهة وهكذا رسمها شاعرنا وأوحى بها فهل أنها تافهة؟ أم أنه بعقله طرح بساط العقل على أرضية فلسفية تجمع بين نبتة التواضع وقيمة المصارحة

حديقة..

تشد جانبين من شفاهها

على بسمة وجيعة

وكل شيء سافر يدريها

حتى خيال ظلها

حتى انتشار لحظها

حتى انحسار ثوبها..

عن قطعة من مرمر بديعة

صورة جمال يتعرى أمام توحش الأنظار الجائعة لا قدرة له على حجبه.. لأن الحياة السوداوية جردتها من حقها.. أطبقت على عناقها ظالمة مستبدة.. الهازئون الذين يشيرون إليها في سخرية كثر.. والشامتون الذين يتطلعون إليها في ازدراء كثر.. فهي نبتة جميلة وُلدت في حقل أشواك متوحشة.. أمام الاستفزاز والتهكم كان لها صوت اعتراف لخطأ سبقت إليه طائعة أو مكرهة:

تسلل الحبيب ليلة

إلى أطراف مخدعي الوثير

ودس في فمي فما

واضرم اللهيب في جفيني

والنهاية معروفة.. فعند صباح المساء:

وفي الصباح تنتهي حكايتي

بأعين حمراء في حريري

ونقطة سوداء في ضميري

لأن ضميرها استيقظ ولكن بعد أن فات الأوان.. حسناً ثابت إلى رشدها.. الاعتراف سبيل إلى جادة الصواب.. من اعترف بالذنب كمن لا ذنب له.. أجمل ما ينزع إليه شاعر ما ان يخاطب براءة الطفولة في صغاره، يبثهم شكواه.. وسلواه.. وقلقه منهم أو عليهم.. وصغيرته هذه المرة (بشرى) الأخت الصغيرة لأخواتها.. لا له.. يحاكيها كما لو كان يسرد أمامها قصة طفولية قلقة:

أجل صغيرتي

ستعرفين نقشة الحروف

ستشكفين طلسم الكلم

ستعرفين أن ذا منكر

وان ذاك يا صغيرتي علم

ستردكين موضع الألم

وكأنما كان يشاهدها وهي تعبث بالأشياء كما عبث بها هو وكان صغيراً.. وكما يعبث بها الأطفال الأبرياء في شقاوة مباحة.. تحطيم الدمى.. نبش علبة العرائس ونثر ما فيها.. هذه الطفلة عقلها أكبر من عمرها.. انها تطرح التساؤلات الكبيرة المثيرة.. من أنا؟ كيف أصيب أبي بالعمى؟ كيف مات؟ وأين ذهب؟ ولكي يتخلص من أسئلتها الحائرة الجائرة أعطاها بضعة نقود كي تشتري الحلوى!

ثم انطلقت والدموع تهمر

ولا يزال فمي حر السؤال

ومن اخته إلى جدته التي لا تنام ليلها من كثرة السجود.. فجرها دعاء.. ويومها صيام.. يطرق حول رأسها يقترب من فمها:

فما الذي تريد مني جدتي.. ماذا تريد؟

ولِمَ تخر هكذا وساقها كسيحة العظام؟

حوار طويل بين شاعرنا وأخته الصغيرة ينتهي إلى درس يُعرّف نقشه الحروف. وطلاسم الكلمات ومعنى الصيام والقيام والسجود.. والوجود.. والتراب. والتراث والأمس واليوم والوطن أن يبشرها بغد جميل:

بشراك يا صغيرتي فالمشعل العظيم يرتفع

وسوف يطرد الظلام.. ويلجم الجناح بالجناح

فتندمل الجراح.. عوض حياة بدأت ساذجة تلهو بالأشياء الصغيرة.. وإذا بها مع أحلام غدها الكبيرة أنثى ترضع لبن الوطن وتعطيه لصغارها.. شاعرنا يودع زميلته بحرارة:

عندما تمتد كفي

لك يا أغلى جميلة

وشفاهي تتعثر

بحروف لاهثات

في كليمات قليلة

هاكم تلك الكلمات المتعثرة القليلة.. انه بوداعها يستشعر ألمه لأنه يودع صورة بسمة أمل جميلة لأن روحه الولهى تتعذب لقد أسلم أخيرا قلبه بين كفيه دون ان يتكلم قلبه.. وذهب.. انه خائف أن لا يلتقيا.. لماذا؟

فيمناك فتاك

ويسراك صغارك

وبعينيك نجيمات ترفرف

ويسائلها هل تجود لو ولو بكلمة واحدة.. أو بسمة صامتة تُجبيه وتُحيّيه بها أنها هديتها.. وأنها هديته الغالية.. ولكن دون جدوى.. شاعرنا المتألق الحازمي ناجى جرحه.. ومناجاة الجرح مناجاة من فتح الجرح..

همستُ لجرحي لا تتفجر

فخلف ذراك جراح آخر

ستلتهم النار منك السفوح

وتمضي تعيث بها في القمم

فهيا التحم.. هيا التئم..

كأن لم تكن..

والا فقد كنت من غير حس وفهم

الجراح يا عزيزي لا تفهم خطاب المواساة.. ولا مفردات المؤاساة.. انها صوت معاناة لا يغرد إلا مع إشراقة حلم وحب يعود إلى مجاريه.

يرسم لنا شاعرنا بريشته الشاعرية أحاسيس طفلة جرت نحوه ساعية ترتمي في أحضانه وعلى فمها عبارة حلوة (عمي.. عمي)

بيديها تحمل قرطاسا

وبقايا قلم محطوم

وهوت باللثم على خدي

وتعانق خلفي كفاها..

قائلة في براءة الطفولة وسذاجتها:

يمتد قرطاسي ظلا

اتفيأ فيه ولا أسلو

وأشيد به قصر امان

وذرى أحلام حلوه

ومشارف أودية خضراء

لن الهو أبدا لن ألهو

الورد ستغرسه بيديها الصغيرتين حقلا.. والنور ستفجره نهرا والكوخ ستشيع في جوانبه الفرحة. والعش ستحوله قصرا.. طموحات طفولية تراكمت في ذهنها الحالم.. وفجأة صمتت ربما ادركت ان الأحلام شيء والواقع شيء آخر، تراجعت تلك الأماني الكبيرة.. وبقي لديها أمل صغير يحبو.. كالطفل الصغير العاجز عن الوقوف.

الوهم ضبابية من الشكوك والحيرة مثقلة الحمل.. هل أمكن لشاعرنا تبديد أوهامه وغسلها في مجرى العلم واليقين؟!

لقد عطّر مقابض أبوابه.. وفرش الورد بأعتابه.. ونفث البخور في دربه وعلى صدر مخدته طرز عبارات الحب.. ماذا حدث؟! لقد تمسك بخياراته الصعبة بات ينتظرها على أحر من الجمر بات يحلم بأحلام سرابية سرعان ما تختفي.. ومع هذا ظل واقفاً لا يتراجع:

لن أهرب أبدا من جنتنا

لن أحرق بلسم ضلوعي

لن أمسح بالإثم دموعي

لن اخفي وجهي

لن ألعن نفسي.. لا..

لقد استيقظ من الوهم الذي بات يغالبه ويتغشاه إلى حلم يقظ يرسم له صورة حياة.. ومسيرة إنسان

سأحدق يوما في قاع حياتي

أبحث عن إنسان

فأرى شفة تبتسم لي

وارى صدراً يرفق بي

وعيوناً تومض بالحب

وفي نهاية خطابه الشعري المعبر:

يا ومض أمنية عذراء

لم تبعث في خلد الدهر

قد دُفنت دنسها الشك

يا نجماً تركله الأنواء

سأظل أناديك وأغفو

ويداي تضمان خيالا

ويدي تحضن أوهاما

ان ما برح في مرحلة صراع يأخذه تراث اليمين وتراث الشمال دون ان يفضي بي إلى قرار.. الأوهام دائما تلعب برأس صاحبها لأنها بقدر ما تُقربه تبعده.. (أشواق وحكايات) هي أُمّ قصائده التي اصطفاها عنواناً لديوانه:

بَسَم الزمان.. يا دوحة اخضلي

تراقصك الظلال

يا طير عد للشدو. صفّق للحياة

ان تصمت تغنينا التلال..

يا عبقر الشعراء

وادينا المظلم بالخيال

هيا أبعث الانغام الحانا

ترددها الجبال..

صرخة شاعر يعتمل مرجل الولاء والوفاء لوطنه وأمته.. يسكنه وجع الهزيمة والانقسام ويُرجّع وجعه لحونا يستصرخ بها النائمين والواهمين والحائرين والخائرين فمن نيل المعز إلى غوطة الشام إلى أرز لبنان يستصرخها ان تتجمع.. ان تتفق على أن تتفق ضربا مثلا بالشاطر حسن.. والراعي الكفيف مع الحمل. وأساطير يجترها الليل على وقعها ينام النيام..

اني سئمت خرافة الأمس

المضمخ بالحذر

كان كمن يسرد أمام الأطفال قصصا لإيقاظهم.. لإشباع روح الحماس والوعي في دواخلهم

اصغوا بنيّ فلن اعيد

هذي جراءتنا يهش لها الصباح

الفجر يلثم ثغرها

النور يغسل قلبها

والضوء تلبسه وشاح

محطات شاعرنا الشعرية متعددة.. وقطار سيرنا سريع محدد بزمن لا يتجاوزه.. محطات عبرناها بعد أن قرأنا عناوينها ونحن نتحرك.. (إليها) (تحت الأرض) (إفريقي في مملكة البيض) (رسالة منها) ونتوقف أمام محطة لا أشجار ولا ثمار حولها.. محطة الخريف

وأجدب الطريق

غصونه تحن للمغيب.. وتشتهي المساء

كي يسكوَ الأشلاء بالظلام

وبدأ الفضول

فيستر الشحوب والنحول

لم يبق غير أفرع عجاف

تخافه الطيور

تشير للسماء كأذرع الأشباح

يحوطها الضباب والدخان

على هذا النسق من التوصيف الجيد رسم لنا لوحة خريفية جرداء حتى من إطارها.. فالإطار تهشم والأريج تبخر والفراشات والورود ماتت والطريق أقفر.. إذ لا نماء دون ماء.. ومن خريف الأرض إلى خريف الحب (الألم) حين يعتصر ويختصر على وقع الجحود والمعاناة.

عرفتُ بعينيك معنى الوجود

وأنت عرفت بعيني العدم

وفي شفتيك ابتسام الحياة

وفي شطئي يطل الندم

وفي وجنتيك امتلاء الورود

وفي وجنتي احتضان الألم

فضني بحبك لا تبذليه

رخيصا والا احتوتك الرحم

أبيات رائعة تبني أكثر من بيت حشمة.. وعفة.. وطهر..

يبدو من محطات رحلتنا الأخيرة.. ومن عناوينها أنها سوداوية اللون في مجملها.. (خريف) و(ألم) ثم (متحف موتى) لا يخيفنا معاً..

أشباح تضع خلف الباب

ودمى وجماجم وحراب

خلف القضبان الذهبية

أكوام هياكل وذباب

متحفنا قلعة معتوه

من عصر الحاكم قد آب

ديّان يقهقه مخمورا

يترنح حول المحراب

لا تعبر فالدرب نصول

ولكل ممر أبواب..

لا تعبر فالكل عيون

أو ظفر ينهش أو ناب

قمة التعبير الوصفي الفلسفي أخذنا إليها شاعرنا الحازمي حتى كدنا ملامسة السحاب إعجاباً وإعجازاً وددت استعراضها شطراً شطراً لبلاغتها وصياغتها ومضامينها الحية.. ولكن حيل بيني وبين ما اشتهي..

وليرحم ربك إنسانا

لآلت سيرته الأحقاب

(إلى شاعرة تهمس) و(لم تبدع) (وكريسماس) و(اعصار) لأنه اعصار طغى على همس الشاعرة وعلى تلك التي لم تبدع وعلى الكريسماس وفرض نفسه بقوة الاجتياح كما فعل اعصار.

ماذا تبغين؟.. وقد ضجت انحاء الدار

بصغار تزحف عابئة

تقفز.. تجتاز الأسوار

أكان هروب من شيء ما؟ كثيرة تلك الصور المتداخلة.. والوقائع المتقاطعة للقصة الموغلة في رمزيتها ودلالتها.. صبي يرقد في دعة... ووالد يمزقه الويل ورقيب يرقب الأشياء ويرصدها.. وخيول طيعة تمتار لحوماً وخضارا. وصبية يمرحون.. وعودة أب يحمل لأطفاله الصغار كتكات.. وفشار هذا ما استجمعته ذاكرته ومحاولة نسيان. وكليبو وقد أغوت عونس ومطارف وأطايب وبطل طردادي يبحث عن حريته وسنين يائسة.. واطفال يتخاصمون في الطريق من حول دمية مقطعة الأوصال.. حزمة من المشاهد تشكل في مجموعها حركة واقع متناقض مع نفسه.. ومع غيره.. خياله خباله وخباله تأمل يوحي بالكثير من السخرية العاقلة..

(البطل محته) نبحث مع شاعرنا الإبداعي عن ساحة حربه.. ونزاله.. أين.. أو في مواجهة من؟

أتيت أحارب الملل وشقوة الحياء

وغصة في الحلق لم تزل..

وزمجر الغضب.. فجئت بالدروع

ومهرة شقراء كالذهب

تمجُّ في أنفاسها حرّ اللهب

سأهزم الجموع..

وقفنا مع شعر شاعرنا على مشارف الجبل نرقب أحداث المعركة.. بين بطلنا وخصمه الملل.. بدأت الحرب بالكلام المتحدي.. الصياح.. (وان الحرب أوله الكلام)..

وصحتُ يا جبان.. يا هذا الملل

يا منبع الدموع يا موغر الشحوب

وأنت! أنت! أنت!

فلتبرزوا جميعكم فإنني أنا البطل

هل كان مجرد صياح بصياح كي يسلم؟ أم صوت حرب.. ومقاومة وصمود؟! لقد تبخر كل شيء.. انتظار بلا شيء.. شرق بعسله الأشباح التي انتظرها لم تظهر وانما بقيت في مكانها قطف وردتين.. واعتصر معهما عرقا يتصبب من وجهه خجلا من عنتريته وادعائه البطولة.. أشياء كثيرة في عالمنا تعكس لنا نماذج من بطولات خواء فارغة تجعجع دون طحن..

الموعد هذه المرة مع آخر قصائد شاعرنا د. منصور الحازمي في ديوانه (أشواق وحكايات) الموعد..

وقفتُ هنالك بين الجموع

أحدق في موعد لن يكون

وقفتُ سأمكث رغم المحال

ورغم السراب ورغم الجنون

ستعرف أن لنا موعدا

وتسري بما لم تقله الظنون

أنه يطمئن عروس شعره بأن حبه القوي لا يأخذ منها دائما يعطيها ويهبها أكثر أمنا وحبا وتفانيا.. أخيرا وجدها كما يقول خورميدس:

وقفت ازاها وعزف الهوى

يحشرج في صدرها كالأنين

وقالت سئمت أهازيجكم

ولولاك ما اجتزت تلك الحصون

لقد كرث غدر الكثيرين وخداعهم.. وأطماعهم.. هو وحده من أنست إليه وارتاحت له ولكنها مع هذا خائفة من ذئاب البشر..

حاول أن يغرس في وجدانها الثقة بالمستقبل المشترك بين قلبين

تعالي لنملك هذا المدى

ونغدو شعاعا يضيء العيون

وقالت رويدك ثم انطوت

وراء الوراء بدمع عتون

عروسا ينوء بها سحرها

وضحكتها لوعة في الجفون

توارت الحسناء وانقضى عمر الأمل بفراق استغرق قلبيهما العاشقين.. رغم الغياب..

حسناء شاعرنا أكبر من امرأة.. انها عشق كبير مساحته واسعة متجذرة في عمق أعماقه.. يصنع من الجمال رمزاً لشيء يحبه ويخاف عليه.. انه الرمز الجميل الحداثة التي لا تقتل الفكرة وإنما تطورها.. لا تغيبها ولا تعزبها وانما تجليها.. وتفتح أبواب استغراقها وفهمها مشرعة واسعة.. لشاعرنا الإبداعي الصديق د. منصور الحازمي الشكر على ما منحنا شعره من زاد تزودنا به جميعاً في رحلة الاستراحة داخل الصومعة.. وإلى لقاء.

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة