Culture Magazine Thursday  04/06/2009 G Issue 286
الملف
الخميس 11 ,جمادى الآخر 1430   العدد  286
الأصيل
د. إبراهيم بن عبدالرحمن التركي

 

يستحق أكثر من ملف؛ فهو عالم عامل، لم يشغل نفسه بساحة ملئت هرجاً ومرجاً، وتصنيفاً وتكتلات، فكان فيها وهو خارجها، ونأى عنها وهو في عمقها، وهذه موهبة يمنحها الله لقلة لا تناور ولا تصادر، مثلما لا تمالئ ولا تناوئ، ويشغلها البحث المعرفي الجاد عن خلافات الأماسي والكراسي، فبات صديقاً رفيقاً، دون أن ينزل أويتنازل.

كتبت عنه زاوية (إمضاء):

اعتدنا على ثنائية التراث والحداثة، والتجديد والتقليد، والانفتاح والتشدد، بحيث يشبهان الأبيض والأسود، والنار والماء -برأينا- والجدّ والفهم برؤية المتنبي، ولو عاش إلى زمننا لرأى الحظَّ يرتقي بصاحبه ليكون سيِّد الفاهمين.

عاش بعضُنا وهمَهم، فكأنَّ التراثيَّ مقلِّدٌ متشدد، وكأنَّ الحداثيَّ منفتح مجدِّد، وعشي المشهد الثقافي بالتصنيف الموغل في التزييف، وجاءت نماذج رائدة تخصصت في القديم واطلعت على الحديث، وامتزج في عطائها جذور الأصل وجمال الشكل فقدَّمت البرهان على الائتلاف الفكري وإن أقرّت - بصورة محايدة - نظريَّة (القطيعة المعرفيَّة).

في هذا النموذج المختلف يقف الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالرحمن الهدلق حاملاً مفاتح التراث ومداخل الحداثة، ممثلاً صورة وضيئة لسمْت العاِلمِ ووعيه وتفاعله مع النتاج المعرفي المتصل الذي (لم يبتدئ بعبدالحميد ولم يختم بابن العميد).

استطاع الهدلق أن يتوازن بل ويؤسس للتوازن، فهو واسع الأفق بشمولية وعمقٌ ما جعل التراثيين يعدونه أستاذاً لهم والحداثيين يرونه قريباً من دوائرهم، وربما كان من الأسماء القليلة التي لم ترتبط بجدلية الثنائيَّات المعويّة والضديّة، وظل في صمتِه الناطق وصومعته المفتوحة محاضراً في المدرَّجات والمنتديات، قادراً - بحياديَّة نادرة - على القراءة والاستقراء، فأنصف باعتدال، وانتقد بموضوعيَّة، وقدم بنفسه ومن نفسه المثال.

قبل ثلاثين عاماً (1978م) نال شهادة الدكتوراه من جامعة (أدنبرة) في اللغة العربية، وكان قد تخرج في كلية اللغة العربية (1966م)، وربما جاء هذا سبباً في ولائه للتراث وتعايشه مع الحداثة ؛ لنقرأ في عناوين بحوثه ما يؤهله ليكون أحد سدنة التراث الأدبي العربي، ومنها:

النقد الأدبي في مقامات الحريري، قراءة مخطوط الروض الزاهر في محاسن المثل السائر للسميساطي، تحقيق الإغريض في الحقيقة والمجاز والكناية والتعريض لتقي الدين السبكي، ورسالة أبي الحسن بن طباطبا العلوي في استخراج المعمى، ورسالة في الفرق بين المترسل والشاعر لأبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ، وبحوث أخرى عن أبي الحسن المرغيناني وكتابه المحاسن في النظم والنثر، ونقد أم جندب لامرئ القيس وعلقمة الفحل، وموقف حازم القرطاجني من قضية الغموض في الشعر، وظلامة أبي تمام للخالدي، وخلاف بين أديبين أندلسيين في المفاضلة بين أبي إسحاق الصابئ وبديع الزمان الهمذاني، وقصيدة أبي إسحاق الإلبيري إلى باديس بن حبوس الضهاجي، وتأويل الشريف المرتضى للنص الشعري، وأسطورة يونانية في مقامة لبديع الزمان الهمذاني، ودعوى سرقة الشعر بين السري الرفاء والخالدِّيين، مآخذ ابن معقل الأزدي على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي.

ميزة الهدلق أنه ناشط في الميدان الثقافي، وسنأخذ عليه أنه ناءٍ عن النشر في الصحافة الثقافية اليومية مع أن لديه الكثير مما يضيفه، بل مع الحاجة لاتزانه وتوازنه في وسط صاخب مليء بالعواصف والأنواء.

لن نضيف أكثر إلى ما قاله محبو أستاذنا الكبير، وما سطرته الزاوية سوى أن هذا العالم علامة صحة في الوسط الثقافي يثبت -لمن تداخلت لديه الرؤى- أننا نستطيع أن نكون أنقياء، أوفياء، دون أن يستهلكنا التنظير المجرد؛ فإذا آن الحساب تكشفت الأقنعة عن وجوه يسكنها الإعتام.

الإشارة ضمير.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة