Culture Magazine Thursday  04/06/2009 G Issue 286
الملف
الخميس 11 ,جمادى الآخر 1430   العدد  286
ذو النظّارة الصارمة!
عبدالله بن أحمد الفَيفي

 

الأستاذ الدكتور محمّد بن عبدالرحمن الهدلق هو أحد من أسهموا في تشكيلي المعرفيّ والأكاديميّ.

جاءنا، طلابًا في جامعة الرياض، أيام كانت في حيّ المَلَز، في ثمانينيّات القرن الماضي الميلادي، ففزعنا من هذا العالم التراثي القادم علينا من الحجاز، بنظّارته الصارمة، وعِلمه الواسع، ومتطلّباته الغزيرة والجادّة جدًّا، التي تذكّرنا بالسلف الصالح من العلماء. فلمّا أَنِسْنا به بعدئذٍ عرفنا ما وراء التراثيّة والصرامة والجدّيّة من إنسان بالغ الدماثة والتواضع والمودّة. غير أنه ذلك الرجل الذي لا تأخذه في الحقّ لائمة ولا في العِلم مجاملة. وتلك أخلاق العلماء، حقًّا.

لقد كان أستاذي الهدلق لنا مربيًا فاضلاً وأمينًا، إلى جانب شخصيّته العلميّة المتفرّدة بين كوكبة من الأساتيذ إذ ذاك. كان- من قِلّة- لا يُلقون دروسهم إلقاءً، ولا يجلسون مستريحين على كراسيّهم في أثناء محاضراتهم، وإنما كانت محاضراته حلقات نقاش وحوار. لا يستنكف أن يناقشه طالبٌ، أو أن يعترض على ما قاله معترض. أذكر مرةً أنني اعترضتُ على ما ذَكَر في مسألةٍ تتعلّق بالمتنبّي، لا تحضرني الساعةَ، ففوجئتُ به في مستهلّ المحاضرة التالية يُحضر إليّ ديوان أبي الطيّب ويطلب إليّ القراءة؛ لأقف وزملائي على حقيقة ما وَقَع حوله الجدال. وكنتُ قد نسيتُ تلك المسألة العابرة، غير أنه لم ينسها، وقد أراد بذلك أن نتعلّم البحث والتثبّت.

ثم كادت تعصف بي اتجاهات السبل بعد تعييني معيدًا في قسم اللغة العربية وآدابها، إذ رُشّحتُ إلى بعثةٍ إلى فرنسا في مجال الترجمة الفوريّة. وكنتُ، برؤية الفتى الغِرّ المتحمّس، قليل المعرفة والخبرة، المتطلّع إلى الدراسة في الخارج، وبأيّ ثمن، قد فرحتُ بذلك الترشيح أيّما فرح، وذهبتُ أستكمل نحو هذا الهدف الخطوات. لأفاجأ بالدكتور الهدلق- وقد أصبح إذ ذاك رئيس القسم- يتّصل بي، وأنا في عرعر، ليسألني:

- أهذا مبلغ طموحك؟!

- قلتُ: لا أدري، لكنها فرصة لتعلّم الفرنسيّة، واكتساب مهارة الترجمة الفوريّة. ومن بعدها يمكنني أن أُكمل دراساتي العليا في الأدب والنقد.

- قال: أنصحك بالتركيز في مشروعك للدراسات العليا، ودَعْ عنك.. لا تضيّع وقتك في أمرٍ آخر!

وقد كان.. ولولاه لذهبتُ أدراج الترجمة الفوريّة.

وكان الدكتور الهدلق، بعد ذلك، أحد مناقشي رسالتي للدكتوراه، حول (الصورة البصريّة في شِعر العميان: دراسة نقديّة في الخيال والإبداع). ولكَم أفادني، وأغاظني، واستفزّني، وبلا هوادةٍ ولا رحمة! لأفاجأ به بعد حملته الشعواء أول المهنّئين والمعانقين.

الجانب الذي قد لا يعرفه كثيرون عن أستاذي؛ ربما لأنه يتوارَى وراء جلباب العالِم الوقور، أنه شخصيّة اجتماعيّة، غاية في اللُّطف، وخفّة الظلّ، والتبحّر في ضروب معرفيّة وقراءات ثقافيّة، يظنّ الظانّ أنها بعيدة عن اهتماماته. هذا على الرغم من زهده في الأضواء بصورها كافّة.

أمدّ الله في عُمره، ونَفَع بعِلمه وعمله، ووهبه من خيري الدنيا والآخرة ما يُحبّ!


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة