Culture Magazine Monday  05/01/2009 G Issue 265
فضاءات
الأثنين 8 ,محرم 1430   العدد  265
تراجيديا الصراع..(1-2)
نظرات في ظروف توازن النفس البشرية
سكينة المشيخص

 

تاريخ الصراع كمفهوم بشري يبدأ منذ خلق آدم وحواء لارتباطه المباشر والعميق بمفاهيم متوازية ومتلازمة مثل الخير والشر والحق والباطل، وبالتالي فهو أزلي يرتبط كذلك بصورة أكثر وضوحا بنمط التفكير بوصفه اختيارا بين بدائل وهي ذات بدائل المتلازمات السابقة، فآدم (عليه السلام) كان لديه نهي مسبق من رب العزة والجلالة بعدم الأكل من شجرة محددة ولكن عندما غواه الشيطان أضعف تفكيره الغالب بالسمع والطاعة لربه ووضع نفسه من خلال هذا التفكير في موضع الاختيار بين بديلين وهما المنهي عنه والموسوس به.. واختار، فهو في الواقع مارس صراعا داخليا انتهى الى نتيجة تراجيدية وهي نزوله من الأعلى الى الأسفل، وبالتالي فالصراع أزلي ويدعم ذلك قوله تعالى (إن النفس لأمارة بالسوء) والأمر بالسوء أحد أشكال الصراع لأنها في الأصل مجبولة على الخير وما هو حسن، وحتى السياق الآخر لها في القرآن يشير الى ذات المعنى عندما وصفت ب(اللوامة) فاللوم لا يأتي إلا بعد نتيجة سلبية لشغل فيه تدبر وقصد عقلي تماما كما حدث لآدم (عليه السلام)، وهكذا وقع الإنسان في فخ الصراع منذ الأزل وتطورت أشكاله حتى خلقت فوضى في جميع مجالات الحياة وتضاءلت البراءة كقيمة فطرية وإنسانية بحد أقصى هو سنوات العمر الأولى للإنسان، حتى أن دراسات حديثة أكدت أن رجل ما قبل التاريخ كان يقتل منافسيه ليسرق النساء من القبائل المجاورة، وذلك أحدث تشويشا في فكرة استخلاف الإنسان في الأرض مما تتطلب إرسال الرسل والأنبياء لإعادة تنظيم حياة الناس وتعزيز قيم الإيمان في النفوس وترجيح الفضائل والأخلاق، حتى أن الفلاسفة نهضوا بدور أخلاقي في بحث الحكمة وتوظيف القدرات العقلية بما يرقى بالفضائل ويرفض الرذائل.

العقل والصراع

وفي الواقع تقدم المأساة الإنسانية الضخمة في قصة قايبل وهابيل تشريحا مؤسفا لتراجيديا الصراع الإنساني، فالدافع الذي قاد قايبل لقتل أخيه هابيل ينطلق من الأمر بالسوء نتيجة للحسد وهو رذيلة وليس فضيلة مما يعنى أن الإنسان الأول مسؤول عن تمكين الصراع في النفس البشرية، وهنا نستحضر النص القرآني (وخلق الإنسان ضعيفا) مما يعني أن فكرة الصراع أكثر قابلية لترسخ في النفس، فالضعف على إطلاقه يعني حدود للقدرات العقلية التي يتدبر من خلالها الإنسان حياته، والله سبحانه وتعالى يحاسب الإنسان على ما يهديه اليه عقله بعد وصوله مرحلة التكليف، فإخوة يوسف، على سبيل المثال، كان بإمكانهم أن يختاروا الأفضل لأخيهم من رميه في غيابات الجب رغم التزامهم بفضيلة الالتزام بالعهد لأبيهم بالمحافظة على أخيهم ولكنهم لم يفعلوا وفضلوا ما انتهى اليه تفكيرهم بالتخلص منه، وكان لديهم الاستعداد في المرة الثانية لتكرار ما قاموا به، ويناقض ذلك على نحو إيجابي رفض يوسف لغواية امرأة العزيز التي قدّت قميصه من دبر، فهو كان في صراع وأوشك أن ينتهي الى نتيجة سلبية بأن همّ بها لولا أن رأى برهان ربه ففكر وحسم صراعه برفض الوضع الذي كان فيه.

أبدية وأزلية

كثير من دراسات قبل التاريخ تقدم مؤشرات قوية لوجود صراعات عميقة بين المجموعات البشرية فيما بينها وداخلها، فإحداها، مثلا قامت به جامعة درهام الألمانية، تشير الى أن بقايا عظام ترجع إلى 7 آلاف عام كشفت أن الجماعات المتحاربة كانت تقتل الرجال وتبقي على حياة الاناث، وأشارت الى أن أسنان 34 هيكلا عظميا عثر عليها في الثمانينيات في تولهايم في جنوب غربي ألمانيا، وأن جميع هؤلاء وهم من الرجال والأطفال فقط قتلوا بضربات فؤوس.

ومن ذلك يمكن الوثوق أنه طالما كان هناك خير وشر فإن الصراع سيظل أبديا إلى يوم القيامة التي ترجع فيه النفس المطمئنة الى ربها راضية مرضية، فالتنوع الإنساني والعوامل السيكولوجية العميقة في النفس ومتغيراتها الى جانب التزام الشيطان بالغواية والوسوسة يؤكد أن فكرة الصراع ستبقى مع بقاء الإنسان وتفكيره في الحياة وتوجيهه لها بحسب مقتضياته في البقاء، رغم أن الديانات السماوية لعبت دورا كبيرا في تسوية الصراع وحصرته في صراع الإنسان مع القوى الشريرة، وجعلت الإيمان مقياسا لخيرية الفرد ودوره المقدس في الجماعات، وإذا كانت الفتنة أصل الصراع سواء داخل النفس أو بين الأنفس فيما بينها، إلا أنها ذات وظيفة علية كبيرة في تحقيق توازن النفس وحسم الصراعات الداخلية (أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون) ما يعني من خلال هذا السياق أنها محمودة في مقابل تلك المذمومة والتي هي أشد من القتل في توسيع دائرة الصراع وتغذية النفوس بالشر.

توجيه الصراع

ارتباط الصراع بفكرة البقاء والبحث عن القوة من أجل ذلك يعزز من كونه جوهرا فطريا ذو علاقة معقدة مع السلوك البشري وبالتالي فهو أصيل في النفوس ولكن تختلف طرائق توظيفه في البقاء على قيد الحياة أولا ثم تحقيق نوع من التوازن النفسي والاجتماعي والذهني، وهو بالضبط البوصلة التي تحدد اتجاه أنماط التفكير باعتباره دليلا كامنا في النفس يعمل على توجيهها وتحقيق توازنها داخليا ومع المحيط الذي توجد به، ما يعني أهمية القيم في لعب دور ضابط ومرشد لتوجيه الصراع من خلال كنترول ذاتي يسيطر على العملية التي تعتمل في الداخل البشري، ولذلك فإن القيم التي تساعد في توجيه وتوظيف الصراع ترتبط بالأدبيات الأخلاقية الاجتماعية والدينية، ومجتمعات ما قبل الدين كانت تتعايش بما يجعلها آمنة نسبيا من مزالق الصراع وتهديد حيواتها وبقائها، ولكنها على الدوام مهددة بنزوع النفس الى الشر لأن القيم المتعارف عليها في تحقيق التوازن هشّة وغير قابلة للسيطرة على النزعات العدائية غير المبررة، ولكن بعد الدين فإن المسألة تبدو أكثر عمقا في تعزيز القيم الضابطة والمسيطرة على الشر والنزعات العدائية من خلال الإيمان بقوة أقوى في الحياة تفرض قيما تعايشية أكثر تسامحا ونبذا لكوامن الشر وتأجيج الصراعات التي تنتج من الحيوية المدهشة لشر النفوس وأحاديثها الباطنية.

الديانات والصراع

ظهور الأديان كان عاملا حاسما في السيطرة على الصراعات البشرية وإيقاف مدها قبل أن تصل في كثير من الأحيان الى حيز الأخطاء المأساوية (الهارماتيا) لأن قضية البقاء تنازعتها استلابية المادي والروحي في ظل غلبة واضحة للمادي على حساب الروحي الذي كان يعني غيبا منصرفا عنه ولم يدخل إطار الإدراك والوعي بأهميته في التسليم بالقوة المطلقة غير المدركة، وذلك حال الإنسان الأول البدائي الذي يعيش واقعا كليا لا يفكر فيه فيما حوله من مشاهد وإنما يعتمد على الحقيقة المجردة التي أمامه دون مجهود في معرفة ماوراء الواقع أو ما قد يغرس بذرة الصراع في هذا الواقع، ولكن رغم ذلك تطورت الحياة وأصبحت القوالب الثقافية ونشوء الحضارات إحدى أهم وأبرز محطات التطور البشري وكان الصراع دائما هو المحرك والمحفز المهم في ذلك حتى مع وجود الأنبياء والديانات سواء كانت سماوية أو وضعية، حتى أن الأنبياء أنفسهم دخلوا في صراعات مع أقوامهم، فقوم لوط، مثلا، كانوا نموذجا فاسدا للحياة البشرية ولم يكن غيرهم ليحيا مثل حياتهم ولو توفرت ذات الظروف الموضوعية لعيش حياتهم على نحو ما كانوا يعيشون فكان صراع النبي معهم صراعا بين الحق والباطل، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة وكانت نبوته نموذجا في تأكيد لإفساد الإنسان لحياته بعيدا عن أي قيم أخلاقية وإنسانية لأنه في نهاية المطاف لم يؤمن به غالب القوم وإنما نفر محدود استبد بهم الشر والباطل والرذيلة ولم ينته الأمر إلا بتدخل القوة والقدرة الإلهية ليستبدلهم الله بقوم غيرهم أحسن منهم، فهم أشقياء بخسارتهم الصراع.

كاتبة وصحفية سعودية المدينة المنورة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة