Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
كيف نقترب من (ظاهرة) القصيبي؟
د. محمد جابر الأنصاري

 

غازي القصيبي (ظاهرة) متداخلة ومتشابكة علينا أن نعرف كيف نفككها ونقاربها ونتعامل معها، ولأن هذه (الظاهرة) نسيج حي فليس من السهل أن نردها بيسر إلى عناصرها الأولية.

وكمؤرخ للثقافة فإن غازي القصيبي يبدو لي كرجل نهضة بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، تماماً كرجالات النهضة في ثقافتنا الحديثة. فقد تناول فنوناً كتابية عدة، وتولى مهاماً وأنشطة عديدة على الصعيد الوطني وزيراً وسفيراً... إلخ.. ويستغرب المرء من مدى قدرته على هذا الجمع الكثيف مما حداني ذات مرة إلى سؤاله: هل اليوم عندك أكثر من 24 ساعة؟!!.

له نتاج غزير في الكتابة نثراً وشعراً.. وله نشاط وفير في العمل من أجل بناء المجتمع المدني والدولة الحديثة.. وقد طرح عدداً من الأفكار الجريئة التي تنتظر التطبيق في واقع المجتمع والحياة. بدأ حياته بالشعر ومن حسن الحظ إنه لم يتوقف عنده، وإن تطور إلى شاعر مقتدر ومؤثر.. فإذا كان الشعر (ديوان العرب)، فإن النثر هو لغة العصر.. ومازلت أتخوف من خطورة التعامل مع واقع العالم شعراً.. لأنه بمثابة انتحار، كما حدث ويحدث للعرب في معالجة قضاياهم.

سيبقى الشعر، بطبيعة الحال، حاجة إنسانية جمالية. لكن أن يبقى عند العرب ديوانهم ووسيلة تعاملهم مع واقع العالم فتلك هي.. الكارثة.. وفي تقديري، أن القصيبي استشعر الحاجة لخطاب نثري يتواصل من خلاله مع مواطنيه، رغم إبداعه الشعري وتمكنه من فن الشعر.. وهذا من أدلة استشعار ضرورة النثر في التواصل مع الناس والعصر.

أسس القصيبي لسرد السيرة الذاتية عن طريق الرواية عندما أصدر روايته الأولى (شقة الحرية) مثبتاً قدرته على هذا النوع من الفن الأدبي، وكان ذلك انعطافاً في أدب الخليج والجزيرة العربية، أتاح لكتّاب آخرين التحدث عن تجاربهم الشخصية وكشفها عبر الرواية.. وهذا العمل يتجاوز في أهميته التطور الأدبي المحض. فكما قال A.Helps: (إن أردت فهم عصرك، اقرأ الأعمال الروائية التي كتبت فيه. فالناس يتكلمون بحرية من وراء الأقنعة). وهذا يعني -حقيقة - أن الرواية تمثل وثيقة تاريخية تعين على فهم عصرها وشخوصه.

أما رواية القصيبي الثانية (العصفورية) فجاءت مرآة لحقبة عربية مازلنا نعيشها، وأتاحت للكاتب قول ما يشاء فيها بحرية. فالعصفورية هنا لم تكن ذلك المستشفى المعروف بلبنان وإنما هي الساحة العربية كلها بين خليج ومحيط.

بكتابة الرواية، لم يغادر القصيبي منطقة الشعر. فقد ظل يكتب قصائد شعرية مؤثرة، وازداد تمكنه من لغة الشعر بعد هذا الفتح الذي حققه في لغة النثر. وهو جمع فريد بين الموهبتين -شعراً ونثراً- يشارك القصيبي فيه عدد قليل من أدباء العربية والعالم، لكنهم قلة. وعلينا الإشارة أن كاتبنا له تجارب سابقة في كتابة النثر عندما كتب المقالة القصيرة، من السهل الممتنع، وظهرت في مجموعات مختارة. غير أن تميز القصيبي في كتابة النثر، على براعته في الرواية والمقالة، اتضح في كتابه (حياة في الإدارة) الذي زادت طبعاته إلى اليوم على عشرين طبعة، وملأ مكاناً في المكتبة العربية الخليجية هو في الواقع مكان شبه فارغ نظراً لندرة (المذكرات الشخصية العملية) من هذا النوع في هذه المنطقة. فالكثيرون يحجمون عن نشر تجاربهم في العمل تفادياً لأية حساسيات، نعتقد أنه مبالغ فيها.

إن هذا الكتاب للقصيبي، في الواقع، هو (حياة في الإدارة) كذلك حيث روى تجاربه في العمل مع ثلاثة ملوك هم: فيصل بن عبدالعزيز وخالد وفهد، وقال تقريباً كل شيء بلغة ذكية ورصينة دون إشكالات. فقد استطاع الكاتب ببراعة مذهلة أن يتناول أشخاصاً وأحداثاً من واقع بلاده المعاصر متحدثاً بشفافية.. ومكاشفة تجمع بين الصراحة والأدب الجم والولاء الحميم لقيادة بلاده، ومثل هذا التسجيل النادر للواقع المعاصر لم يقدم عليه رجال سبقوه في الخدمة العامة، ولم يتمكنوا، بعد حسب علمنا، من تسجيل تجاربهم في مراحل أسبق، وبعد عن الحساسيات الراهنة للأحياء. وهذا لا ينطبق على رجال الخدمة العامة في المملكة العربية السعودية فحسب، وإنما بمختلف دول الخليج العربي، وربما العالم العربي.

ومازال القصيبي - كظاهرة - مواصلاً عطاءه في مختلف المجالات التي أشرنا إليها. ويحتاج هذا العطاء إلى أبحاث أكاديمية، تحليلية ونقدية معمقة، لتقييم هذه الظاهرة.

واختتاماً لهذه (الشهادة) المختصرة، فنود أن نتوقف -أخيراً- لدى بعض (التوترات والتجاذبات) التي تعانيها ظاهرة القصيبي. وأولها تجاذب نتاجه بين السخرية والحزن. وهو محور أشار إليه بنفسه، وعالجناه، في مجلة (العربي) قبل سنوات... وكما يروي في سيرته الشعرية، أن عارفيه يسألونه: (هل أنت إنسان مرح متفائل وبالتالي تستطيع أن تعتبر شعرك الحزين نوعاً من الخداع؟ أم أنك إنسان حزين متشائم وبالتالي نستطيع أن نعتبر مسلكك نوعاً من الخداع؟).

وفي تقديرنا، وكما ورد في مقالتنا المشار إليها: هذا السؤال لا يعود وارداً، بل أن طرحه بهذا التبسيط القائم على ثنائية الفرح - الحزن.. يصبح مسألة لاغية لإغفالها العلاقة الجدلية بين الجانبين.

في شاهد جديد لم نتناوله حينئذ، وعبر مقارنة بين رواية (الجنية) وكتيب كئيب أسماه (مواسم) صدر عام 2006، يستطيع القارئ رؤية المفارقة المدهشة بين كاتب مرح، يروي روايته الأسطورية، كما هو معروف عنه بتبسطه وعفويته المرحة، وبين كاتب، شديد الحزن، قليل التفاؤل، بل كثير التشاؤم، في (مواسم) عن وفاة الأحبة وبلوغ خريف العمر، وكأنك تسبح في بحيرة من الدم الأسود وأعرف أناساً تربطني بهم صلة حميمة لم يستطيعوا مواصلة قراءة هذا الكتيب على صغره لذلك السبب!.

فأين هي الحقيقة في دخائل القصيبي: أهو المرح أم الكآبة؟ وتفسيري أن البعدين حقيقيان. وفي البدء كانت الكآبة لكنه انتصر عليها واقترب من المرح لكنها بقيت دفينة في النفس. وظل البعدان يتعايشان لديه ويظهران في أدبه بين وقت وآخر.

وفي سيرة الدكتور غازي الشعرية ما يثبت أولاً ان شخصية الشاعر انطوت على حزن كبير، وما يدل على أنه بعد أن امتص هذا الحزن في العمق، قد تخطاه وانتصر عليه، وأمكنه أن يرسل نظرة ساخرة للحياة والأشياء من خلاله. وهذا ما يفسر لماذا ظهر نثره الساخر (المرح) بعد شعره الحزين بوقت غير قصير. - يراجع عدد مجلة (العربي) -300- نوفمبر 1983، وكذلك كتاب العربي 57 لكاتب هذه الشهادة الصادر بتاريخ 15 يوليو 2004، ص 164 - 169.

وأخيراً فثمة (بعد آخر) في شخصية القصيبي، نعتبره الأهم والأخطر، ولابد من التوقف عنده والنظر فيه، في هذه العجالة، ألا وهو بعد (المصلح من الداخل). فلعل القصيبي أبرز (المصلحين من الداخل (في منطقة الخليج والجزيرة العربية. فالرجل لم يكن موظفاً بيروقراطياً في يوم من الأيام على تعدد المناصب الكبيرة التي تولاها. وفي زمن امتاز بطفرة مادية مالية، تراكض كثيرون من أبناء جيله، ممن أتيح لهم تولي مواقع إشرافية في التنمية على المغانم المادية التي لم يصل كلها إليهم عن طريق (الحلال)، ظل غازي القصيبي نظيف اليد والذمة ولم تتلوث يده بحرام المصلحة العامة!!.

ومازال الرجل كذلك...

ومهمة (المصلح من الداخل) من أخطر المواقع وأكثرها تعرضاً للنقد وإثارة الحفائظ. فالمحافظون ينظرون للمصلح باشتباه ويعتبرونه خطراً على النظم التقليدية القديمة. والراديكاليون المتعجلون، ينظرون إليه أيضاً بالريبة ذاتها، لاعتقادهم أنه يطيل من عمر الواقع الذي يريدون تغييره جذرياً.

ولكن من يتأمل في منطق التاريخ والتطور يرى أنه لا الجمود يحمي التقاليد، ولا التعجل الراديكالي يحقق شيئاً. والتجارب العربية الماثلة عبرة لمن يعتبر. ليس القصيبي بالمتمرد العقائدي، كعبدالله القصيبي. ولا بالمتمرد السياسي كعبدالرحمن منيف.

لكنه يمثل (النموذج الثالث).. نموذج (المصلح من الداخل) وذلك رهان كبير.. وخطير وطريقه ليس مفروشاً بالورود.. فهل ينجح؟!!.. سؤال بحجم المستقبل.

البحرين

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة