Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
اجتاح قلبي على صهوة بومة!!
غادة السمان

 

رجل (كثير) وغزير

حين طلب مني الأستاذ عبد الكريم العفنان باسم (المجلة الثقافية) التي تصدرها صحيفة (الجزيرة) اليومية الغراء المشاركة في ملف خاص عن د. غازي القصيبي كدت أسأله عن أيّ منهم تريد أن أكتب؟ فهم كثر!

فغازي القصيبي رجل متعدد، رجل (كثير) إنه عدة إبداعات وعطاءات تقصمت رجلاً نادراً. تحار هل تكتب عن القصيبي الشاعر أم الروائي أم المبدع في حقل أدب الرحلات أم الإنسان الوفي للصديقات والأصدقاء.

أم رجل الدولة وزير العمل السعودي الذي عمل نادلاً لليلة واحدة لكي يضرب مثلاً عملياً على احتقاره لخرافة اسمها (المهن الدونية) ولمحاربة النظرة الاجتماعية نحو بعض المهن، وهاهو يرتدي زي النادل وقبعة (الشيف) وخلفه (في الصورة) الضحكة المشرقة المتفائلة لرئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية صالح التركي بزي مشابه، ومعهما د. العفيض. كان ذلك جميلاً ونبيلاً وامتداداً لروح تراثنا وهاهو محترف يعلم الوزير (النادل) كيف يضع قبعة المهنة ويحمل (الطلبات) للزبائن ليقتدي به جيل يعي أن لأي عمل شريف قيمة كبيرة. واعترف أنني احتفظت بالصحيفة التي نشرت تلك الصور التي تهز القلب بصدقها وحضاريتها (تصوير عبد الله بازهير وسلمان المرزوقي) وتضرب مثلاً في التطابق بين القول والفعل بدلاً من ازدواجيتنا العربية الشهيرة، وعبرها تقدم السعودية نموذجاً مستقبلياً حضارياً.

وكنت أنوي الكتابة حول ذلك وجاءت رغبة (الجزيرة) بتكريم إبداع القصيبي في ملف ووجدت في الملف إناء لأبجديتي التي تسيل محبة نحو الشخصيات العديدة للقصيبي التي عرفتها والتي لم أتعارف معها بعد!

كلمات بلا قفازات

ثمة أيضا وأولاً غازي القصيبي الإنسان ولعل ذلك من أجمل ما في ذلك الطفل/الجد، العفوي الصادق الوفي لأصحابه والذي يجده المرء إلى جانبه حين ينكسر قلبه مرة أو مرتين كما حدث لي بموت أبي ثم زوجي وكان د. القصيبي دوماً حاضراً برسالة تعزية وحضوره كله أنس وألفة وأخوة ومحبة على طول معرفة أبجدية دامت عقوداً منذ لقائنا الأول.

سمعت للمرة الأولى باسم التلميذ الجامعي غازي القصيبى حين كان طالباً شاباً صغيراً، وذلك في رسالة من أبي الحبيب جاءتني من الرياض حيث كان يعمل أستاذاً في جامعة (الملك سعود) في أواسط الستينيات بعدما تقاعد من مهامه كوزير للتربية وللتعليم في سوريا ورئيساً لجامعتها. وقلقت عليه من العمل كأستاذ في مكان جديد وهو في الستينات من العمر وليس بحاجة مادية لذلك.. وكنتُ يومها طالبة في الجامعة الأمريكية في بيروت وكتبتُ له مخاوفي. وجاءني رده بلا مواربة في رسالة من الرياض أبدى فيها ارتياحه البالغ لعمله في السعودية وتجدد شبابه بتعارفه مع بعض تلامذته الصغار وعلى رأسهم شاب يدعى غازي القصيبي يتوقع له مستقبلاً هائلاً ثم إن غازي ورفاقه جعلوا والدي يشعر في الرياض انه حقاً في وطنه الثاني طوال العامين الأخيرين من حياته وقد مسني ذلك في العمق.

وشعرت بالامتنان لتلامذته السعوديين المقرين لعلمه الذين حموه من الشعور بالغربة وأولهم غازي القصيبي الذي كان والدي سعيداً بتواصل الأجيال العربي الشهير بينهما ولم تخل رسالة من رسائل والدي من ذكره بمحبة في تلك الفترة، وحتى رحيله.

يتطور ولا يتنكر

والتقيت للمرة الأولى بالتلميذ الشاب غازي القصييي حين عرّفني أبي عليه وكان فخوراً به كما لو أنه ابنه الثاني بعد أخي الحبيب سلمان. وحدث ذلك في فندق (بحمدون) منذ ألف عام أو قبل لحظات!! يومها وصل أبي للاصطياف في بحمدون وذهبت للقائه، فعرفني أخيراً على (الغازي) القصيبي، تلميذه الذي يأنس بوده وتصادف أنه وأهله كانوا يصطافون في الفندق ذاته في بحمدون.

والتقينا وبارك لي بخطبتي يومئذٍ إلى صحافي لبناني.. ولن أنسى تلك النظرة المليئة بالحيوية والطاقة التي شعت من عيني القصيبي الشاب حن يتحدث وهي النظرة ذاتها في صوره اليوم بعدما صار جداً ووزيراً، وأديباً شهيراً. إنها الابتسامة الشابة ذاتها وهو يقدم الوجبات كنادل في مطعم في مدينة جدة مؤكداً عملياً أن لا تناقض بين دور السفير الوزير المبدع ودور النادل والعاشق للعمل الشريف يدوياً كان أم لا، ليضرب مثلاً للجيل الصاعد، (مروجاً) لذلك.

أجل!.. تعجبت وأنا أرى تعابير وجهه في صوره، فهي ذاتها التي التقيتها مرة قبل ألف عام في بحمدون. وتساءلت كيف استطاع ذلك الشاب أن يبحر طويلاً هكذا في الانواء وأهوال محيطات الزمن والأقطار وقارات الكتابة والحزن والخيبة والانتصارات والجراح دون أن يتبدل إلا إلى الأفضل.

ربما لأن غازي لا يعرف الرضى (الطاووسي) عن الذات بل يظل نضر العطاء ولا يتكلس داخل قشرة العظمة الذاتية كما حدث للكثيرين سواه من الأقل شهرة وعطاءً ونجاحاً، كما أنه يجسد التواصل بين الأجيال حين نتطور دون أن نتنكر لفضل من سبقنا. ولذا نجح في (التجاوز(دون قطيعة مع الماضي.

القصيبي أعطى الكثير وازدهر عقداً بعد آخر وأهدى أبجديته الجميلة إلى عالمنا العربي بين شعر ونثر ورواية ساخرة أو عاطفية هنا وأدب رحلات ونقد أدبي هناك إلى جانب عطائه.

في لندن كسفير في بلاط الملكة اليزابيث والأمير تشارلز و(الليدي) ديانا التي عرفها عن كثب بحكم منصبه وإتقانه للغة شكسبير..

ولعل كتابه عن (الليدي) من أذكى ما قرأت عربياً في (فن الالتباس) وفيه اعتراف بسطوة الجمال مع الجوع إلى جمال العقل في قالب يعبر عن حضارية رقيه الدبلوماسي والمهارة الأدبية والحنكة في فن القول لدى القصييي.

الشجار الزوجي بسببه: من سيطالعه أولاً!!

أما كتبه في حقل أدب الرحلات فتتجلى فيها خفة ظله الاستثنائية.. وبراعته الفنية. ولعل (خفة الظل) هي ما يجمع بين جميع (الغازي القصيبي) إخوان، ووجوهه الإبداعية المتعددة، كوجوه الماسة النادرة المصقولة. إنه خفيف الظل حقاً فيما يخطه على النقيض من الذين يفتعلون ذلك فيزدادون سماجة، والأمثلة متوافرة.

وكنا، زوجي الحبيب رحمه الله - وأنا (نتشاجر) بعذوبة ضاحكة، من سيطالع أولاً كتاب غازي القصيبي في أدب الرحلات عن (العودة سائحاً إلى أمريكا) زوجاً وأباً بعدما عايش كاليفورنيا طالباً.. واستطاع د. القصييي فك الاشتباك بإهدائه للمرحوم زوجي نسخة خاصة به لكي لا يتسبب في شجار عائلي، وجاءت نسخة ثانية من الكتاب مع إهداء لزوجي وكان سلوكه هذا مرهفاً كعادته في كل شيء.

أطال الله في أعماره (المتعددة)

لقد مرت الأنهار والطوفانات تحت الجسور منذ لقائي الأول بالقصيبي ولقاءاتي الكثيرة مع حرفه المتوقد وظلت المودات الأخوية الأبجدية الجميلة سيدة الصلات الإنسانية.

وثمة شيء آخر سرى يربط بيني ود. القصييي هو حبنا المشترك للبوم اللطيف، ومغازلتنا لذلك الطائر الجميل من مخلوقات الله العظيم بعيداً عن التطير المحرّم، حيث لا نتفاءل بالبوم ولا نتشاءم منه بل نحبه لأنه ببساطة طائر ساحر الجمال بعينيه الشاسعتين وشخصيته الآسرة وطيرانه الهادئ كشبح أليف حائر ومعذب وشاعر. ولطالما تهادينا البطاقات البريدية التي تحمل صوراً للبوم الجميل، وأجمل تمثال لبومة عندي هدية من أخي د. القصييي الذي اجتاح قلبي على صهوة تلك البومة.

وشعرت دائماً أن (غازي) لم يخن يوماً (القصيبي) وظل وفياً له.

ويكاد غازي الإنسان ينسيك غازي الشاعر وغازي الروائي ولكن سبق لي أن كتبت مرات عن رواياته الجارحة المجروحة الساخرة الدامعة ومع غازي لست بحاجة للعودة إلى الدفاتر العتيقة والمقالات القديمة لإعادة (صبها) حين أكتب عنه.. مع مبدع من وزن غازي تكتب عنه كلمة بلا قفازات ومن القلب بلا تحفظ لأنه هو متجلد ويكتب من قلبه أيضاً.

وقلائل هم الذين تعرفهم على طول عمر دون أن يتركوا في نفسك أثراً لغصة، (من أمثال غازي) بل عذوبات متراكمة، أطال الله في (أعماره).

باريس

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة