Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
إبداع التحدي
د. عبدالعزيز المقالح

 

قليل هم الشعراء العرب المعاصرون الذين يقترب حالهم من القول المشهور في أبي الطيب المتنبي (مالئ الدنيا وشاغل الناس)، ولن أكون مبالغاً أو مجاملاً إذا ما قلت: إن الشاعر الكبير غازي القصيبي يعدُّ واحداً من هؤلاء القلائل الذين (ملأوا الدنيا وشغلوا الناس)، لا بوصفه شاعراً متميزاً وواحداً من رواد التحديث الشعري في الجزيرة العربية فحسب؛ وإنما بوصفه أيضاً روائياً وكاتباً وسياسياً مرموقاً. فقد شرّق غازي القصيبي وغرّب، وكان منذ بداية حياته الأدبية يدرك خطورة الكلمة، ويعترف بمالها من قيمة عالية في الحياة وبما تحمله من طاقات التثوير والتنوير، والإصلاح، ومقاومة الجمود والتقليد، وبناء الإنسان وإغناء وجدانه سواء كانت الكلمة، شعراً أم نثراً، أدباً أم فكراً.

عرفت غازي القصيبي شاعراً عن طريق صديقين حميمين هما: الشاعر قاسم حداد، والشاعر علوي الهاشمي. وقد أهدياني بعضاً من أعماله الشعرية المنشورة، ومنها (أشعار من جزائر اللؤلؤ)، و(قطرات من ظمأ). كان ذلك في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، وفي القاهرة العاصمة العربية التي عرفت في الخمسينيات وإلى منتصف عقد السبعينيات كيف تحتضن المواهب العربية وتؤلّف وتعرّف فيما بينها. كان قاسم وعلوي -يومئذ- من المبهورين بغازي القصيبي، وبما أنجزه حتى ذلك الحين من تجربة شعرية تختلف عن السائد والمألوف ليس في الشكل، وإنما في الرؤية والأسلوب، وطريقة بناء الجملة الشعرية، وما يتسم به شعره من تأملية دافقة وعميقة.

وإذا كان اللقاء وجهاً لوجه بغازي الشاعر الكبير قد تأخر كثيراً إلى ما قبل عامين تقريباً؛ فإن التواصل معه يعود إلى أواخر السبعينيات، عندما زودني بمجموعة من أعماله الشعرية والنثرية، وكان حريصاً على الدوام أن يزودني بكل جديد يصدره، ومن ذلك مختاراته البديعة من الشعر العربي القديم والحديث، وهي تجربة يقدم من خلالها الشعراء الكبار نماذجهم الشعرية المختارة، تلك التي تعكس أذواقهم وفق معايير ذاتية وعامة. واللافت للانتباه أن انغماس غازي في الحياة الإدارية وزيراً وسفيراً لم تسلبه شيئاً من مواهبه، ولا من تواصله مع الكلمة في أشكالها الإبداعية المتنوعة. وكان في كل حالاته يدرك أن الإنسان قادر إذا امتلك الإرادة، وقدراً من الوعي بالظروف المحيطة أن يتجاوز حالات الإحباط والتمزق، وهما أقسى ما عانى ويعاني منه الإنسان العربي المبدع في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الآن.

ولا أخفي أنني فوجئت به روائياً بارعاً. وكانت روايته الأولى (شقة الحرية) بديعة في لغتها، وفي بنائها وفي تقنيتها، واعتمادها أو بعبارة أخرى دورانها على أبيات من شعر المتنبي الذي نحبه، ونفتتن بشعره افتتاننا بحكمته العالية. ومن الإنصاف القول بأن (شقة الحرية) تركت أثراً بالغاً في نفوس القراء، وأخص منهم هؤلاء الذين درسوا في القاهرة، وعاشوا أفراحها وأحزانها وانتصاراتها وانكساراتها، ومثلما وجدت نفسي في هذه الرواية؛ فقد وجد فيها آخرون كثيرون أنفسهم أيضاً. وإذا كان غازي قد عايش أحداث العدوان الثلاثي؛ فإننا -زملاء مرحلتي وأنا- قد عايشنا حرب 1967م بمواجعها، وما جلبته على الأمة من أضرار ومآسٍ ما زال كابوسها الفظيع ماثلاً: وترددات زلزالها يؤرق الأجفان.

منذ بدايته الأولى وغازي يتحرك شعرياً في إطار رؤية شديدة التوازن بين مطالب الفن والحياة، فهو لا يرى التجديد مجرد رغبة في الخروج الصادم على المألوف الذي اكتسب إلفة وحضوراً في وجدان الغالبية. وكأن التجديد من وجهة نظره انطلاق لا يحده سوى قدرة الشعر على التواصل مع الإنسان وهمومه. وهو قد لا يتفق مع المرحوم عباس محمود العقاد فيما ذهب إليه في مرحلته الثورية من انتصاره لنظرية الفن للفن، وقوله إن الأدب فن رفيع

لا يتذوقه سوى أرفع الناس ذوقاً، وأرقهم حساً وأغزرهم علماً. وليس أن نشترط فيه الملاءمة لأقل الناس في جميع الطبقات) قد يكون في هذا الرأي المرتبط بنظرية -الفن للفن- بعضاً من الصحة، ولكن ليس إلى الدرجة التي تجعل المبدع ينغلق على نفسه، ويغلق نصوصه في وجه القارئ الذي لا يمتلك غزارة العلم واتساع المعرفة، وذلك ما كشفت عنه أبيات في رثائه للجواهري:

أشكو إليك أبا القصيد قصائداً

طرحتْ ملامحَها النبيلة جانباً

لم تأتنا عربية لتسوغها

إذن الخيام، ولا تسر أجانباً

مسخٌ هجينٌ ليس يعرف أصله

لا في الحصان ولا الحمار مناقباً

وطلاسم مفتونة برموزها

تهمي عليك سناجباً وطحالباً

ما أبذأ الأشعار إنْ هي أنكرت

فتنكرت ظلماً صراحا ثاقبا

(من ديوان يا فدى ناظريك: ص40)

إن هذا الهجاء القاسي لبعض ما ينسب من محاولات إلى التجديد أو التجريد، لا يمكن أن يضع شاعرنا الكبير في خانة واحدة مع أولئك الذين يرجمون كل أشكال التحديث الشعري بأحجار من الكلام الثقيل، ورفضه للممسوخ والهجين من الكلام لا يتأتى من رفض الجديد والتجديد بكل إبداعاته وإضافاته، وإنما يأتي من رفضه لما يسمى بالشعر اللاشعر، والكتابة خارج الكتابة أو تحت درجة الصفر، أي العدم، أنه ضد العدمية في الإبداع والمواقف التي استشرت في الآونة الأخيرة، بين جيل يدعي أنه بلا آباء ولا أساتذة، جيل يعترف، بل يتباهى بأنه لا يقرأ... وهو موقف يحسب لغازي القصيبي لا عليه. إذ لا أحد يستطيع أن ينكر دوره في مواجهة المحافظة الشعرية، والانتصار للموجة الحديثة في طورها الأول، فقد اجتذبته قصيدة التفعيلة منذ وقت مبكر. هكذا كتب في أواخر الخمسينيات (لا تسألي):

ألم تزل تحبني...

فالحب يا صديقتي...

نخلقه من العدم...

حتى إذا ضجّت به الحياة...

ثار علينا نحن خالقيه...

مبدداً أحلامنا...

وملقياً بروحنا إلى الجحيم.

(من ديوان أشعار في جزائر اللؤلؤ، 1960م، ص57)

وهو وإن ظل حفياً ووفياً للقصيدة البيتية العمودية؛ مؤكداً قدرتها الإبداعية وانسجامها بجسدها البدوي وإيقاعها الكلاسيكي مع أحدث الرؤى والمواقف الحضارية. ولكن الأساس في تجربته الشعرية بعامة، أنه يراوح في الكتابة بين العمود الخليلي وقصيدة التفعيلة ، وكان في كل الحالات يستجيب للحالة النفسية التي يمليها الدافع لكتابة الشعر. وفي قصيدة له بعنوان (نحلم) تطالعنا هذه اليوتوبيا المتخيلة باستعاراتها الجوهرية ولغتها المتلألئة:

تعالي دقائق نحلم فيها

بنافورةٍ من رذاذ القمرْ.

بإرجوحة علقت في النجوم

بإسطورة من حديث المطرْ.

بكوخٍ على الغيم جدرانه

ظلال وأبوابه من زهرْ

بخيمة عطرٍ يعبّ الغروب

شذاها... ويسكر فيها السحر

(من ديوان قطرات من ظمأ: ص73)

وفي نص آخر متطور الشكل والرؤى، نراه قلقاً خائفاً يعاني من إحساس مشبع بعذاب الذات ومرارة الخيبة؛ لعدم تحقق تلك (اليوتوبيا) أو الفردوس المفقود:

لا تحلمي!

لا نستطيع أن نخطّ فوق ماء

النهر اسمينا

أو نمتطي فراشةً

أو نزرع النجوم في

ضباب قلبينا

لا نستطيع أن نقول للربيع:

من هنا!

أو أن نكبل المنى

في سجن عينينا.

(من ديوان معركة بلا راية، ص122)

وبعيداً عن الجدل العقيم الذي طال واتسع حول الأشكال الشعرية القديم منها والجديد، لا ننسى أن غازي القصيبي من الشعراء المعاصرين الذين سكنهم العمود واستوطن وجدانهم، فهم يكتبونه لا بتقليد واحتذاء لنماذج مستهلكة أو اجترار لتجارب سابقة ، وإنما يتنفسون من خلال كتابته شعرية هي الأرقى. وعندما يعمدون إلى كتابة قصيدة التفعيلة؛ فإنهم يحرصون على أن يقتربوا من قارئهم، ويحاولون الابتعاد عن الصور الغامضة، تلك التي يصعب على القارئ القبض عليها، والتي شاعت في الحداثة، وصارت بعض مقومات القصائد الجديدة، مع إحساسهم العالي بالإنسان، وما يحيط بحياته من قضايا ومشكلات. وما أشبه غازي في عمودياته وفي قصائده التفعيلية بصديقه نزار قباني، حيث تبرز في أعماله الشعرية -أي غازي- وبشكل لافت للنظر قصائد عمودية حارة وعميقة أكثر انجذاباً نحو المغامرة والمغايرة، وأكثر استجابة لهاجس الإبداع، وكوامن الروح كما تشيء بذلك أغلب عمودياته ومنها قصيدته في رثاء نزار التي استلهم فيها شخصيته الشعرية ومفردات بارزة من حياة نزار الفنية والمؤثرة:

اليمن

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة