Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
الريادة والتنوع
ياسين رفاعية

 

كلما حاولت أن أكتب عن الشاعر والروائي العربي السعودي غازي عبدالرحمن القصيبي، أحتار من أين أبدأ، فهو شخصية دراماتيكية يتحرك في اتجاهات عدة. في الشعر والرواية والمقالة والدراسة والتراث حيث يمكن اعتباره عشرة رجال في رجل واحد، ورغم أنه تجاوز الخامسة والستين لكنه -من خلال نشاطه اليومي- يتحرك كشاب في الثلاثين.

وأذكر أنني كتبت عن أول مجموعة شعرية صدرت له في السبعينيات قبل أن أعرف من هو ومن أي بلد، كان المغفور له سفير لبنان السابق في فرنسا محمد علي حمادة، الذي، بعد تقاعده، ترأس مجلس إدارة جريدة النهار ودار نشرها، عندما قدم لي تلك المجموعة، وطلب مني الكتابة عنها بموضوعية، فوجئت بالشعر الذي يدل على تجربة عميقة لشاعر شاب أظنه لم يتجاوز العشرين في تلك الفترة، وكتبت مقالاً موضوعياً جداً نشر في الصفحة الثقافية من (النهار).

نسيتُ الشعر والشاعر، ومن محاسن الصدف، أن علمت، وأنا محرر في جريدة (الشرق الأوسط) في لندن. أن غازي القصيبي هو سفير المملكة العربية السعودية في البحرين، وكان قد صدر لي كتاب عن دار رياض الريس في لندن بعنوان (رفاق سبقوا) فأرسلته له وسرعان ما كان الجواب أن أرسل لي (الأعمال الأولى) من شعره في مجلد سررت به أيما سرور.

وكان من حسن حظي أن أتعرف على الرجل عندما نقل كسفير فوق العادة للملكة العربية السعودية في لندن، فتعرفت إليه شخصياً وسحرت حقاً بهذه الشخصية النشطة، التي يمكن القول إنها أفضل من مثّل المملكة العربية السعودية في الخارج.. إذ سرعان ما تحوّلت العاصمة البريطانية إلى عاصمة عربية بكل ما تعني هذه الكلمة، فبجهده على مدار الـ24 ساعة جعل في جزء من لندن إن لم يكن كلها مركزاً ثقافياً عربياً في أكثر من مجال، كما جعل المركز الإعلامي السعودي من مجرد موزع للنشرات عن السعودية إلى مركز ثقافي تمور فيه النشاطات الثقافية دون توقف من أمسيات شعرية ومحاضرات إلى معارض رسم لفنانين سعوديين وعرب، ليس فقط في المركز إياه، بل في أمكنة أخرى في العاصمة البريطانية.. كما أنه جعل من مقر السفارة لقاءات أدبية واجتماعية مساء كل أربعاء، حيث كنا نلتقي في بهو السفارة الرحب نتبادل الأحاديث الثقافية المتنوعة، كما أصبحت تقام في هذا البهو صلاة الجمعة بكل طقوسها وخصوصاً خطبة الجمعة، وكان السفير القصيبي يصلي بين المصلين بشكل عادي ومتواضع.

ومن أجمل ما كان يفعله القصيبي الاحتفال بالعيد الوطني للمملكة العربية السعودية، فينصب خيمة كبيرة في حديقة السفارة، تقام بها الاحتفالات المتنوعة ومنها رقصة السيف (أو الفرصة) متخلياً أثناء رقصها عن الزي الغربي ومرتدياً الزي العربي والعباءة والحطة والعقال متقدماً بقية الموجودين السعوديين في هذه الرقصة الجميلة التي تعبر عن الشجاعة والإقدام والفروسية والقيم العربية الموروثة.

ولم يتوقف القصيبي عند ذلك فقط، بل حاضر هو نفسه في أكثر من قاعة ثقافية عن منجزات المملكة العربية السعودية في المحلات كافة، فكان نجماً حقيقياً، جعل السفراء العرب أنفسهم عاجزين عن مجاراته، إذ ظلوا قابعين خلف مكاتبهم لا يقومون بأي نشاط يخدم بلدهم، اللهم إلا الاحتفال الدبلوماسي الرسمي لأعياد بلادهم الوطنية، من استقبال رسمي وعشاء رسمي أيضاً بلا أي نكهة وطنية، فيما كان الاحتفال بالعيد الوطني السعودي فولكلورياً معبراً عن التراث الشعبي بأنواعه وخروجاً عن الرسميات التقليدية الباهتة. كما أن القصيبي كان يزور معارض الفنانين العرب وغالباً ما كان يقتني من هذه المعارض لوحة أو لوحتين تشجيعاً وتثميناً لصاحب المعرض من هذا البلد العربي أو ذاك.

والحديث عن القصيبي الشاعر أو الروائي، أو الكاتب، أو الأمور الثقافية الأخرى، فحدّث ولا حرج، فهو مجلٍ في كل ما يكتب لأنه يؤمن بالإبداع الحقيقي والموضوعي، في شعره حداثة بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى سواء كان تقليدياً أو حديثاً متعدد التفعيلات، حتى الرواية عنده فليست مجرد سرد على الطريقة التقليدية بل رواية حداثوية تستقطب كل تجارب الرواية في العالم فهو كاتب جاد كنت دائماً أستغرب كيف ليجد نفسه فسحة من الوقت كي يكتب، فسألته ذات مرة هذا السؤال فقال إنه يكتب يومياً بين الثانية عشرة ليلاً والثالثة صباحاً، وربما أكثر، أما بقية وقته فلخدمة بلده في شتى المجالات الدبلوماسية والاجتماعية والأدبية.

ظل القصيبي سفيراً في لندن لمدة عشر سنوات أحرج البلد المضيف كثيراً بسبب مواقفه القومية والتعرض للصهيونية ومقارعتها بالحجة الدامغة بأن لا حق لها في فلسطين، وأنها في فلسطين سلطة ممثلة مما جيّش ضده منظمات صهيونية كانت ترسل إلى الخارجية البريطانية الاحتجاج تلو الاحتجاج.

كان، في مقارعتهم، شجاعاً لم يخشى أحداً، ولم يتخوف من لومة لائم، وعندما كثر الصراع وتفشى على نحو قد ينذر بمشكلة دبلوماسية سحبت المملكة السفير بتسلم أولاً وزارة المياه، ثم وزارة العمل حيث هو الآن وزيرها، تتناقل الصحف نشاطاته المبهرة في تفهم موضوع العمال والعمالة الوافدة والإطلاع على مشاكل الطبقة الدنيا من عمال ومستخدمين في شتى المجالات كافة.

غازي عبدالرحمن القصيبي إنسان قبل كل شيء، متواضع، أب، ورب أسرة حضاري، أبناؤه أصدقاؤه، وصديق للشعراء والكتاب والفنانين ويده كريمة لكل مساعدة لأي من هؤلاء وغيرهم. وربما، من أيام سعدي يوم تعرفت إليه فكان لي أخاً وصديقاً في وقت عز فيه وجود الأصدقاء.

سورية

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة