Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
فَنّ الشعر والترجمة
باتريسيا آلان بيرن

 

أغنية للشاعر

أيها الشاعر: يا من تلحُّ على وجود العقل

ليس الذي يفكّر ببرود، بل الذي يتأمّل،

أنت مثل شخصية تعبّر عن مشاعرها

(المكثفة)، معتصرةً

لون السحب، والطحالب الندية.

أنت الساحر القدير

ترسم قوس قزح، (انتظام)القمر، وما هو مألوف. تحوّل المجهول إلى نشوة

الاحتفاء بالحياة.

ولأنّك مُفسِّر الماضي، ومُحَدِّد الحاضر،

(والمتنبئ بالمستقبل)، فأنت تكرّم اللانهاية.

* في (مقاله الطويل) دفاعاً عن الشعر إلى أنَّ الشعراء هم مشرّعو العالم غير المُعْتَرف بهم. ويرى أنَّ الشعر هو (تلك الضروب من إعادة ترتيب اللغة، خاصةً اللغة العروضية التي تخلقها تلك الموهبة الجليلة التي يحتجب عرشها في طبيعة الإنسان الخفيّة). فالشعر لا بدَّ أن يكون أثراً من آثار السحر: ذلك أنَّ كتابة قصيدةٍ تقتضي صناعةَ عاملٍ بنَّاء ومهارة نسَّاج. ولا بد أن يكون التعبير عمّا هو غامض لا تدركه الحواس واحداً من مكونات الشعر، حيث (يقتضي حالةً من الوعي الأقصى بأنَّ القصيدة عمل من أعمال الفن ويحقق هذه الحالة). ويعتقد بعضهم أنَّ على الشاعر أن يتّخذ موقفاً مستقلاً وحيادياً، حالةً من الموضوعية التي لا يمكن أن تتحقق إلا بانتهاء العمل. غير أنه إذا ما كان لقصيدةٍ أن تُتَرْجَم إلى لغة أخرى، فلا بدَّ من وجود منظومة كاملة من (الرؤى) الجديدة والبراعة اللغوية لالتقاط المسار الحقيقي للأصل.

تحظى تعريفات الشعر هذه بأهمية خاصة في تفحّص شعر د. غازي القصيبي، وزير العمل السعودي الذي ينمُّ شعره على دقّةٍ وانضباطٍ كلاسيكيين، وعلى تمكّنٍ من تنظيم الصور في (أشطر)، وعلى تمكّن من لغة الحب الفصيحة، ومن حزن الفقدان، فضلاً عن قدرته على تصوير عالم مضطرب متحوّل حيث غالباً ما نكون منفصلين واحدنا عن الآخر، وفي بعض الأحيان ضائعين بين الماضي، والحاضر، والمستقبل وقدرته على تصوير عالم كينونتنا الداخلية الذي لا حدود له.

تنطوي المحاولة الحديثة لتحديد رؤية الشاعر وعالم القارئ على نوع من جغرافيا التأليف؛ فالقرّاء يجلبون إلى العمل عالمهم الواقعي ومن جهة أخرى عندما تُترجم قصيدة إلى لغة أخرى يكون ثمة مستوى آخر من إدراك ضرورة الوضوح وقوة الصدق اللغوي تجاه كلمات د. القصيبي الأصلية التي تفتح عالماً من العَجَب. فقصائده غالباً ما تكون مفعمة بالفطنة، والدهشة المستاءة، وتعمل على إقامة توازن بين حدّة شعوره الشخصي واحترام الرؤية، والإدراك، والحاجة المتغيّرة باستمرار إلى أن يكون قابلاً للتكيّف. ثمّة نبرة خافتة تتطلب القراءة وإعادة القراءة في قصائده. فقصيدة مثل (القمر وملكة الغجر)، التي ضمّها ديوان (خلف الكثبان)، الصادر عن I. B. Taurus في لندن 2006، لا تمكن قراءتها بطريقة سطحية سهلة لأن ذلك كفيل بأن يمحو ظلال القصيدة وتدرّجاتها الدقيقة واستخلاصاتها وتمكّنها الأكيد من الشكل والشعور. هذه القصيدة التي لا تستسلم لما هو عادي يوميّ هي استعارة ممتدة للاستسلام للحبّ. وهي تتضرّع إلى قرّائها أن يدخلوا محنةَ رحلةٍ مثقلةٍ بالمخاطر من أجل جائزةٍ مفادها (حقّ كلّ واحدٍ في أن يقول ما يريد - وأن يكون ما يريد). وهي تستعطف القمر أن يكون شاهداً على أولئك الذين يشككون في إيمانهم بالمعجزات.

وتحويل العالم الداخلي إلى جغرافيا طبيعية، ورسم معالم الروح المبهمة إنما يحسّنان فهمنا البشري، كما يغيّرنا الكمال بإيثاره وابتعاده عن الأنانية، وقدرته على الشفاء. فهنا الملتقى المشترك لكلٍّ من المتكلّم، الشمس، والقمر المجسّد، سلمى. وهذا القمر الغجري الذي يمكن التنبؤ بمداره هو حرّ على الرغم من ذلك في أن يتحرّك في حلقة متمادية أثناء وجودنا في حلقة الزمن النهارية - الليلية. ذلك طباق يكاد يشبه حركاتٍ سيمفونية حيث يمكن تغيير الثيمة للتوّ من الحزن إلى البهجة، على نحوٍ يتكرر بصورٍ وأصوات مختلفة، ويحضر في أعمال القصيبي جميعاً، مع أنَّ هذه القصيدة تبقى واحدةً من قصائده البارعة.

وكان الشاعر قد حذّر في واحد من دواوينه الباكرة، هو ديوان (من الشرق والصحراء):

(لا تدع القصائد تخدعك؛ فهي بقايا

من حقيبة حِيَلي القديمة.

والأغنية الحقّة الوحيدة التي فرّت من شفتي -

لم يلتقطها قلمي).

فهو في هذا الديوان لا يريد للحقيقة أن تُقال، لكنَّ الواجهة التي تخفي القلب الكسير الجريح تغدو قناعاً للعاشق الذي يتضرّع إلى الحبيب أن يقبل حبّه. وهذا هو الطباق ذاته الذي نجده في قصائده الأخيرة بعد أن نضج وبات مرتبطاً بالشرط الإنساني الذي نتقاسمه جميعاً.

يترجم القصيبي عالم الانفعالات البشرية إلى بانوراما حيّة مثيرة. وأعماله تخرق جدار الشكل والشروط المسبقة؛ فهو واثق من قلبه، ومن مهارته، ويقدّم لنا عالماً واقعياً ننخرط فيه. ومنظوره هو ذلك المنظور الإيجابي على الدوام الذي يتحدّانا أن نتبع سبلنا الخاصة ونحدّد (من نحن وما نحن). أمّا اللغة فلا تشكّل هنا أي عائق، بل تدعو ولا بدّ أن نجيب. وهذا واحد من التطورات في الشعر الحديث يجبرنا على أن نسعى وراء مصيرنا الخاص وعلى أن نكابد لكي نفهم العوالم المضطربة التي نعيش فيها.

*: (في الشعر العربي الكلاسيكي، يلعب البيت الواحد دوراً بالغ الأهمية ضمن القصيدة. وليس من المبالغة القول إن البيت الواحد هو قصيدة تكاد أن تكون مستقلة ضمن القصيدة). وهنا يعلمنا د. القصيبي بوصفه مترجماً أن نقدّر الشعر العربي حقّ قدره؛ فقد ترجم شعراً يغطّي ألف عام من التراث الشعري، بدءاً من الجاهلية. والبحث الذي يقوم به يتيح لنا أن نساهم في ترجمته للرقّة، والحكمة، والحقّ. تقول أول قصيدة في هذه المجموعة المترجمة:

وتلفتت عيني فمذ خفيت

عني الطلول تلفت القلب

(الشريف الرضي)

ألا نشعر جميعاً بمثل هذه الخيبة في كثير من الأحيان؟

وتقول قصيدة عميقة أخرى:

صرت كأني ذبالة نُصِبَت

تضيء للناس وهي تحترق

(العباس بن الأحنف)

ومن الاختيارات الفَطِنَة الأخرى للحقيقة التي لا تُضاهى:

أأُفجع بالشباب ولا أُعزَّى

لقد غفل المعزّي عن مصابي

(ابن الرومي)

ويقال لنا إن هذه القصائد تمثّل بعض الموضوعات التقليدية في الشعر العربي. وهنا يكمن الواجب المتمثّل في نَقل الطبقة الثالثة من طبقات إبداع هذه القصائد الباقية، حيث تتمثّل الطبقة الأولى في الشاعر نفسه، وتتمثّل الثانية في القارئ الذي يضحّي ب(الشكّ) لكي يدخل، مع الشاعر، تجربة الكلمات المرتّبة بطريقةٍ يشعر معها بعضهم بأنَّ من غير الممكن ترجمتها إلى لغة أخرى. لكن تاريخ الترجمة الناجحة يدحض الرأي الذي مفاده أن المعنى يضيع في الترجمة. ويقول لنا سِدْ كورمان، الشاعر والمترجم الأمريكي، إنَّ (القصيدة لا ينبغي أبداً أن تكون شرحاً لذاتها). أجل، ثمة إمكانية لذلك، ولكن ليس في الممارسة البارعة والأكيدة والأداء البارع والأكيد لدى شاعر مكرَّس مع تحويل أول يجريه ناطق باللغة المحلية قادر ثم تحويل ثان يقوم به مترجم للكلمة الفردية يحوّلها إلى مصاغ مزركش وفصاحة، هي الذكاء الحدسي في عمل الشاعر. ولقد توفّر لنا مثل هذا الوسيط الدقيق في ترجمات الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي التي قُدِّمَتْ ضمن منشورات بروتا للتواشج بين الشرق والغرب؛ فقد تعلّمنا من خلال طاقة سلمى وإلهامها، وهي المحررة الموهوبة والشاعرة والكاتبة، أن نحترم الكلمات في الترجمة، خاصةً تلك التي تتيح لنا نافذة نطلّ منها على ثقافة تختلف عن ثقافتنا ولغة تختلف عن لغتنا.

في (أنطولوجيا الشعر العربي الحديث)، التي قامت سلمى الخضراء الجيوسي بتحريرها، ونشرتها مطبوعات جامعة كولومبيا سنة 1987، ثمة قصائد للدكتور القصيبي هي (أخطبوط)، و(حين أكون معك)، و(صمت) قام بترجمتها من العربية إلى الإنجليزية شريف الموسى وتشارلز دوريا. وقصيدة (أخطبوط) تعبير قوي عن الاختناق، والإحباط الناجم عن قوى خارجية مشؤومة لا اسم لها. والصورة هنا هي صورة قوية، صورة أخطبوط يخنق ضحيته حين يموت الحبّ.

وقصيدة (حين أكون معك) هي إشادةٌ بالحب، الحب بأعمق معاني المشاركة والتفاهم محمولاً على (قلوع) ألغاز الحياة. وثمة شيء أشبه برحلة يوليسيز، رحلة الأمل والعودة إلى البيت حيث الفرح الحقيقي الوحيد بين ذراعي رفيقة الروح التي تستقبل المسافر المُجْهَد.

أمّا قصيدة (صمت) فتحتاج قراءات كثيرة بما تشتمل عليه من قصيدةٍ داخل القصيدة، كما لو أنَّ هنالك صوتين يتكلمان في وقتٍ واحد لأن بديل الصمت هو الموت وحيث يثبت الصمت أنّه ينطق في القصيدة ذاتها التي تحمل اسمه. وهنا نجد أن المتكلّم جريء في استعاراته، يتحدّى الإجماع الطاغي، ويدفع بالسجال قُدُمَاً ويحلم ب (عالم يخلو من الأغلال)، ذلك أن الصمت لا يقوى على الشاعر الشجاع.

واختيار هذه القصائد في أنطولوجيا الجيوسي يعبّد الدرب واسعاً باتجاه مواهب القصيبي في ميادين الكلمة المكتوبة؛ فهي تكشف عن انخراطه الكثيف في الحياة العربية وعن تجربته السياسية وتأتي بالأفضل في كليهما. كما أنها تعكس حباً عظيماً للجمال البسيط، والبراءة، والعلاقات الإنسانية البعيدة عن التعقيد بخلاف الحياة الراقية الزاهية والمنتفخة من حوله.

ويبقى الدافع الأساسي وراء هذه المقالة تبيان النجاح الذي يمكن أن تحققه ترجمة الشعر حين تجري بأيدٍ موهوبة ومسؤولة. فالأمر يحتاج إلى فريق من الاختصاصيين لتقديم فن الشعر في شكل يستسيغه الجميع. وكما سبق القول، فإن المترجم الأول هو الشاعر ذاته إذ يحوّل هذه الرؤى إلى أشكال من التواصل محدّدة مع منقّح الترجمة، ولو كانت مترجمة إلى لغة أخرى غير لغة هذا المترجم. وثمة عنصر مهم آخر في تلقي الشعر هو إلقاء القصائد وعدم الاكتفاء بالكلمة المطبوعة. فمن الأساسي والحاسم أن يُقْرَأ الشعر بصوت مرتفع كي لا يُكْتَفَى بقراءة ذلك الجمال المخزون في القطعة الشعرية بل يُسمَع أيضاً.

لقد عملت سلمى الجيوسي، المحررة البارزة ومديرة بروتا، على جعل شعر القصيبي شعراً ذا جاذبية للقارئ الأجنبي. فهي تمثل شخصية ناقد، وملاحظ دقيق ومُصغٍ رائع. وضَمُّ (أو تضمين) شاعر في شاعر إلى أي أنطولوجيا تعمل عليها هي ذروة ما يمكن أن يطمح إليه الكتاب والشعراء. وتحظى الجيوسي بالشهرة والاحترام في الولايات المتحدة ولقد أُتيح لشعراء مثل الدكتور القصيبي أن يغدوا معروفين للعالم الخارجي عبر عملها، وذائقتها الرفيعة وطاقتها التي لا حدّ لها.

الولايات المتحدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة