Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
ملامح رومانسية
د عبد الواحد لؤلؤة

 

بعيداً عما يطلقه بعض الكتّاب من عموميات بأن شعر فلان تقليدي أو تراثي أو حداثي أو غير ذلك من أوصاف، وبعيداً عن مجاملة الشاعر لأنه أمير أو وزير، وبعيداً أيضاً عن مهاجمة الشاعر لأنه ينتمي إلى قناعة دينية أو سياسية أو فكرية تختلف عما لدى الكاتب - الناقد، أتناول عدداً من قصائد نشرها الدكتور غازي القصيبي في ظروف وأوقات شتى، لأشير إلى ما أجده فيها من ملامح رومانسية، قد لا تطبع القصيدة كلّها. ففي القصيدة الواحدة قد تجتمع أكثر من صفة، وهذا أمر مألوف.

ظهرت الرومانسية مذهباً في الأدب والفن في أوروبا في نهايات القرن الثامن عشر، وفي ألمانيا بخاصة، ثم ازدهرت في الأَدب الإنجليزي، وفي الشعر أساساً، كما نجد في شعر (وردزورث) ومن تبعه مثل (كولردج) و(بايرن) و(شلي) و(كيتس) وقبلهم في أعمال الشاعر الروائي (وليم بليك).

كانت الرومانسية طابع الشعر الإنجليزي في القرن التاسع عشر منذ بدايته، ثم تطورت نمواً واضمحلالاً حتى بلغت أعراضها المرضيّة في نهايات القرن التاسع عشر، في الشعر الفرنسي، بما يعرف باسم (مَرَض العصر) الذي يظهر في الميوعة العاطفية والإغراق في الانكفاء على الذات ومعالجة المشاعر الشخصية بحميمية شديدة. وقد تسرّبت هذه العدوى إلى الشعر العربي في عشرينات القرن الماضي عن طريق ما ترجمه أدباء الشام ومصر من الشعر الفرنسي والأدب الرمزي، وشاع بين القرّاء واستهوى بعض أدباء العربية، تطلّعاً إلى ما لدى الغرب (المتقدّم) ورغبة في المحاكاة، بل محاولة في التفوّق. تطوّرت هذه الرومانسية المستوردة في أعمال المنفلوطي والرافعي وعلي محمود طه في مصر، وفي أعمال كثير من شعراء بلاد الشام. كانت هذه الذخيرة الأدبية هي الزاد الثقافي لجيل من القرّاء والأدباء العرب الذين نشأوا بعد الحرب العالمية الثانية. فصرنا نقرأ أوراق الورد وليلى المريضة في العراق ومدامع العشّاق وقصيدة محمود حسن إسماعيل (ألقَيتَني بين صنوف العذاب (وقلتَ لي غَنِّ) وكلّما يُشجي حنينَ الرَّباب ضيَّعتَهُ منّي / أوّاه يا فنّي / لو لم أعِش كالناس فوق التراب. أو قصيدة (الجندول) التي زاد من انتشارها غناء محمد عبدالوهاب، وصرنا نردّد في المدرسة (أين من عينيّ هاتيك المجالي) كما نتداول مقتطفات من نثر المنفلوطي أو الرافعي مثل (يا زُجاجةَ العطر، اذهبي إليها، وتعطّري بلمس يديها، وكوني رسالة قلبي إليها...) كانت هذه الرومانسية المستوردة تستهوي الأدباء الناشئين، ولم تَغِب بعض آثارها حتى عن بعض كبار الشعراء الذين كانوا زينة الشعر والأدب العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.

الدكتور غازي القصيبي شاعر غزير الإنتاج. ومما يدعو إلى الإعجاب هذا الجانب من اهتماماته الشعرية بموازاة الكتابات الروائية والفكرية، وهو الذي تفرّغ لدراسة القانون والعلاقات الدولية، وانغمر في الوظائف العامة والمناصب الوزارية. وقد اخترت هذه القصائد من شعره لما وجدت فيها من ملامح رومانسية. في هذه المختارات أجد الشاعر في أحسن أحواله في كتابة قصيدة الشطرين التراثية، لكنه دون ذلك في كتابة قصيدة التفعيلة التي يتحرر فيها من عدد التفعيلات في بحر الهزج مثلا، كما في قصيدة (أغنية في ليل استوائي)، أو كما يتساهل في الخبن والطيّ في تفعيلات بحر الرجز، كما في قصيدة (حكاية مهر الرياح). في قصيدة التفعيلة نجد نوعاً من التكلّف في اختيار القافية، أو نوعاً من الافتعال في تكملة الصورة، لكن قصائد الشطرين تخلو من هذه الهنات تقريباً.

وفي قصائد التفعيلة نجد نوعاً من (الوقفة المصطنعة) في وصف (لواعج الحب) و(ألم الفراق) لا يستطيع القارئ الناقد المنصف إلاّ أن يقف معجباً أمام هذه العواطف الغضّة. والعجيب أن مثل هذه (المآخذ) لا يمكن أن تنسحب على قصيدة شطرين بعنوان (قُلْ لها) على ما فيها من خصائص رومانسية شديدة الوضوح، مثل الإشفاق على النفس من اقتراب الأجل، والحسرة على ضياع العمر دون بلوغ المنى، وما يلاقيه من لوعة وأسى، وجميعها من صفات الرومانسية الغاربة، لكنها هنا تكاد أن تكون مُقنعة.

في قصيدة (أُغنية في ليل استوائي) نجد هذا الولَع الرومانسي بالبعيد والغريب، والقمر والبحر، وموسيقى شجر الغاب توحي به (لؤلؤة سمراء) هي طيفٌ بعيد من (الصبيّة الحبشية) في قصيدة (كولردج) بعنوان (قُبلاي خان) وهي قصيدة مسكونة بأصقاع بعيدة غير محدّدة المعالم، تدعى (كسانادو) قد تكون في الصين أو بلاد التتار البَعيدة الملأى بالعجائب. هنا غابة في ليل استوائي غير واضح المعالم، فيه رائحة جوز الهند وموسيقى الطبول التي (تنتشي ألَماً) وفيها (عرسٌ ملؤه الكدَرُ) هذا الجمع بين المتناقضات والغرائب هو بعض صفات الرومانسية. ومثله حضور الإنسان في وسط الطبيعة، هو هنا حضور الشاعر وسط هذا المشهد الغابي البحري، الذي ينتظر منه أن يبعث النشوة، كما كان يرجو (كولردج) لو استطاع سماع موسيقى كانت الحبشيّة ترسلها من معزفها، إذن لاستطاع الشاعر أن يأتي بالعجب العُجاب ويبني قصراً من جلاميد الثلج كما بنى (قبلاي خان). لكن (كولردج) كان سيبنيه في جوّ الأعالي، وليس على الأرض الصلبة، إمعاناً في قدرة الخيال على الإبداع، في انتشائه بالجمال الغريب والموسيقى. ولكن الشاعر في (أغنية في ليل استوائي) يقول (وجئت أنا / وفي أهدابي الضجر / وفي أظفاري الضجر). كيف تغلغل الضجر حتى بلغ الأظفار؟ هذه غرابة رومانسية عجيبة. إلى جانب الضجر، ثمة بركان في روح الشاعر، لا يقوى على الانفجار! وهذا (أعجب ما يأتي به القَدَرُ) فالشاعر الرومانسي هنا هو (الأشياء تحتضرُ) لكن الحبيبة هي (المولد النَّضِرُ). وهذه مفارقة رومانسية أخرى. ورثاء الذات قبل الأوان صفة رومانسية كذلك. هنا مات قلب الشاعر وحلّ محلّه حَجَرُ. فقد جاء إلى هذا الموعد الغرامي في الأجواء العجيبة تصحبُهُ (الأوهام والأسقام والآلام والخوَرُ) وهذا إغراق في التكرار، في إطار من سوداوية لا مسوّغ لها... إلاّ لأنها ربّما قد تكون من تأثير القمر على مشاعر الإنسان وهو رأي لا وجود له إلاّ في الطبّ الإغريقي القديم. ويكاد يقوّي من احتمال هذا التفسير بداية القصيدة هذه البداية الغريبة في عبارة (فقولي إنه القَمَرُ) وهي عبارة تختم كل مقطع من القصيدة كما تختم القصيدة كلها. والشاعر قد فقد ثقته بكل شيء، بما فيه شعره الذي (خَيرُه الصمتُ) لأن الشاعر على موعد خطر مع الشراع الذي تناديه الجزُر للرحيل، ابتعاداً عن معاناة تنتشر (على الخلجان والإنسان والأوزان) وأحسبها أوزان الشعر التي لا أجد مبرّراً لوجودها سوى الاتساق المقفى، ومثله (الأنغام والأنسام والأحلام) التي (لا تُبقي ولا تَذَرُ). لماذا؟ لماذا؟

في قصيدة (مومياء) تنصُّلٌ من الرومانسية، على مضض يشوبه الحنين إليها مع شيء من الندم، ولو أنه تنصُّل جاء تحت ضغط التحوّل في ظروف الحياة نحو المادية. تذكر (الحبيبة) المجهولة أمام الشاعر سلسلة من الكلمات التي هي بضاعة الرومانسية: السحر، البحر، الليل، البدر، العشق، الفجر، الوتر. لكن يبدو أن الشاعر لم تَعُد هذه المفردات تعني له شيئاً، فأرسلَ روحَه تسأل عن معاني هذه الكلمات، وعن معنى الحب والعيش والموت. هذه الكلمات (تنبش ألف جرح قديم) يوم كانت الكلمات ذات معنى للشاعر. أما الآن فقد تبرّأ الشاعر من (نزوة الشعراء) أي من اللمحة العابرة من حياته الماضية، واليوم عاد إلى (زمرة الأذكياء) من رجال المال والأعمال. وكلمة (زمرة) لا توحي باحترام كبير لهذه (المجموعة) من (الأذكياء) وهذه بدورها كلمة تنطوي على مفارقة ساخرة. فكأن (الشاعر) في إهاب المتكلم ما يزال يحنّ إلى (نزوة الشعر) لأنه يجد هؤلاء (الأذكياء) لا تعنيهم الحياة شيئاً، فهم (يخوضون هذي الحياة / بدون سؤال...بدون جواب / ويأتزرون النقود...) فهي لهم طعام وشراب وحياة.

وفي هذا إشارة إلى الندم على (الثواني التي أخذتنا إلى عبقر) أي إلى وادي الشعر، ثم أضعناها منذ الانخراط في حياة المال والربح والخسارة، أي (العزّ واليأس). في انقلاب الشاعر عن حياة الشعر إلى حياة المال غدا مومياء محنّطة، صورة إنسان ولا إنسان، لأنه غدا (دون قلب). لكن لما أقبلت الحبيبة على غير توقّع، أثارت (زوبعة في الرميم) فعاوده الحنين إلى الشعر، غير أنه أعلن تقاعده عن حياة الأمس يوم (كان) غير أنه لم يعُد (كائناً) سوى (مومياء) مسّها البحر فلم تنتفض، ومسّها الليل فلم تنتفض، ولم يستطع البدر، وجميعها من عناصر الطبيعة الأثيرة عند الرومانسيين، أن يعيده إلى حياة الشعر. حتى الجمال لم يعد يشعر به فقد غمرته دنيا المال. لم تعد الحسناء صورة شعر جميل وحبّ طهور، ولم يكن قدومها بحثا عن قلب في الضلوع بل عن (رزمة من نقود).

لا أجد في هذا صورة الشاعر يوم انقلب إلى التجارة، وافتتح مكتبا للمحاماة لم يشكّل له مكسباً تجارياً، كما نقرأ في سيرته. بل إني أرى القصيدة مناقشة للفرق بين حياة الشعر وحياة المال. وهو إذ يضع القصيدة في إطار شخصي فيغدو هو الشاعر الذي تجمّد في صورة مومياء لا حياة فيها، فإنه يُبعد عن نفسه تهمة مهاجمة أرباب المال والأعمال الذين لا يسيغون حياة الفكر والعواطف التي يوفّرها الشعر. وفي هذا إشارات مؤدّبة... رهيفة.

في قصيدة (حين تغيبين) صورة شعور بالغربة في لندن عام 1978. ولكن من هي هذه (الحبيبة المجهولة) التي تغيب (فوق الجبال) ربما في سفرة بالطائرة؛ وكيف تغيب (تحت البحار)؟ أم أن كلمة (فوق) تستدعي كلمة (تحت)؟ أكان المقصود (خلف) البحار إذا كانت الحبيبة هي التي تغيب؟ أم أن المقصود أن الشوق يبعثر الشاعر فوق الجبال و(تحت) البحار؟ هذا الغموض غير المقصود يخدم القصيدة. وصورة (الرقص فوق الحراب) هي (وقفة مُصطنعة) يجدها بعض الشعراء ضرورية لديكور قصيدة العشق، فهو إذ يرجع عند المساء بعد رحلة نهار من العشق، يقول (فأحلم أني رميتُ شقائي/بليل عيونك/ ونمت... ونام الشقاء). عيون الحبيبة سوداء/ كالليل، رمى الشقاء بهما، فغاب الشقاء تحت جنح المساء المظلم، ونام الشاعر، بعد أن تخلّص من الشقاء، قرير العين. تقف هذه القصيدة في الظل بجانب قصائد غزل غيرها، إذ أجد أن المبالغة في الأوصاف، والإغراق في الاستعارات ليست في صالح القصيدة. ومثل ذلك تكرار الكلمة ثلاثاً ليحملنا الشاعر على تصديق ما يحسّ به: إذا غِبتِ لاشيء.. لاشيء.. لاشيء / هذي الحياة / بكل شذاها وألحانها / بكل صباها وألوانها / ... / كأن الحياة إذ غِبت عكس الحياة! ما أسعدها حبيبةً!

في قصيدة (بسمةٌ من سُهيل) نبرة حب حميمة، توحي بالصدق بما تشير إليه من علاقات كأنها عائلية؛ وتخلو من (الوقفة المصطنعة). ولنا أن نتصور أن الشاعر يخاطب الحبيبة / الزوجة سلمى، والدة ابنه المحبوب / سهيل. هنا نجد الزوج يعود إلى داره ليلاً بعد تعب النهار، من مكتب المحاماة؟ حيث كان يحارب (بالشعر في عالم لا يفهم الشعر). هذه صورة قد تشير إلى خيبة أمل الشاعر في العمل بمكتب محاماة (لم ينجح تجارياً) لكنه تعلّم فيه الكثير عن أطوار البشر. والشاعر ما يزال رومانسياً، يحارب بالشعر، مع علمه أنه (لن يدرك الحلما). لكن حسن استقبال الزوجة / الحبيبة للزوج المتعَب من نهار كفاح ضوّأت ببسمة كالقمر، مطمّنة أن الشعر (لن ينحني لزيف البشر) فعليه الاستمرار بالكفاح ضد (مكر الكبار). هنا يستعيد الزوج / الأب / الشاعر حماسته، فيعود في الفجر نشيطاً، (يشقّ بالشعر صدور الخيل) من شدة الإقدام، وقد أضافت إلى شجاعته (بسمة من سهيل) الطفل. حياة الشاعر حبّ عائلي حميم، وهو ما يكسب القصيدة نبرة الصدق.

في قصيدة (وغداً) ملامح من مذهب الخيّام، وهو أحد مظاهر الرومانسية في شغفه بما في الطبيعة من عطر ووتر وقمر وأحلام. (ولنعش أعنف أسرار الحياة / لحظة ما شابهتها اللحظات). فالكلمات (كاذبات.. خائنات.. خادعات) والحلم هو الأجدى أن يُعاش. الحاضر هو كل شيء، و(غدٌ بظهر الغيب واليوم لي) فإذا رجعنا في الغد من عالم الشعر في وادي عبقر، لن يبقى لدينا (غير ومضٍ باهتٍ في مقلتينا) ونضيع بين الجموع، بين ندم على ما فات ولم ننعم به كما يجب، ولن تفيدنا دموع الحسرات. ولسوف ننهار (كباقي الأشقياء).

في قصيدة (قُلْ لها) التي تجري على نظام الشطرين التراثي صورة مكتملة للرومانسية، تكاد تخلو من أعراض (مرض العصر) من الميوعة والتفجّع المراسيمي، بلى، ثمة دموع وعمر يتلاشى، ولوعة وأسى وخوف من دنوّ الأجل. لكنك لسبب أجهلُه، لا تحسّ أن في هذا الكلام تكلّفاً وافتعالاً. هذا شاعر يتأمل في دنياه فلا يعجبه ما يرى، وليس لنا أن نلومه على ما يحسّ به. (صباه يضيع منه.. كما ضاع نداء.. تطوي المتاهات رجْعَهْ) صورة بصرية سمعية موفقّة. وأسى الدهر رحيق، لكنهُ مرٌّ خلاف الرحيق (فتحسّاه جرعة إثر جُرعه) كما (يتحسّى) المريض دواء مكرهاً عليه، لكنه يضطر أن (يحسوه) على مراحل. لذلك، قُل لها يا صاحبي، إنه عاشق، يهيم، لكنه يخشى رحلة لا رجعة بعدها.

في نظام الشطرين هذا تجد الشاعر بمنجاة عن مزالق التكلّف في إكمال الصورة أو الفكرة، كما هو الحال في قصائد التفعيلة. وهذا أمر مستَغرب؛ فالمفروض أن التحرر من عدد التفعيلات في بحر تراثي بعينه يتيح للشاعر حرية اختيار الكلمة والصورة المناسبة للفكرة دون مراعاة اكتمال عدد التفعيلات في الشطر أو الشطرين من بحر بعينه. وهذه الحالة دليل على أن الشاعرية لا تخضع لشكل القصيدة، بل إنها تفرض نفسها على الشكل. وبعض الشعراء يبدع في شكل شعري دون آخر، والعبرة في براعة الصورة ووضوح الفكرة، وبعد هذا وذاك يبقى شكل القصيدة (مسألة شكلية).

في قصيدة (حكاية مهر الرياح) رومانسية بطابع محلّي جداً. هذا اسم مُهر وسيم نشيط، يحبّه جميع شيوخ القبيلة، وجميع رجالها ونسائها وأطفالها، لصفاته وحيويّته. تجري القصيدة على تفعيلة الرجز، يتصرف الشاعر في مواقعها، مستفيداً من حرية قصيدة التفعيلة. والرجز أقرب البحور إلى النثر، ومن هنا كان مناسباً لنظم (حكاية) هذا المهر. والقصيدة احتفال بالطبيعة في رياحها وربيعها وقمرها وغيمها وليلها وإعصارها، وحتى بأحجار صحرائها وترابها وغبارها الذي يثيره هذا المهر الجامح (في أوجه الفرسان) الذين يحاولون (تدجينه). لكن الشاعر لا يغفل عما لدى بعض البشر من عدم إدراك لما في الطبيعة من جمال، فتدفعهم الأنانية والمصالح الشخصية للتفكير بالتخلّص من هذا المهر الرائع (كي نرتاح) وحجّتهم في ذلك واهية: (لابد من حماية النساء من جنونه).

في مقطوعة جميلة من أربعة أبيات، تجري على نظام الشطرين، صورة لنفس شاعرة رائقة، متعاطفة مع بني البشر:

طويتُ بصدري عبء الوجود

فيوشك خطوي أن يعثرا

كأني خُلقتُ لسحّ الدموع

وجئتُ لأحمل همّ ال ورى

أحسُّ بأن ابتسامي حرام

إذا ما التقيت بدمع ٍ جرى

وإن سهـِرتْ مقلةٌ في الظلام

رأيت المروءة أن أسهرا

التعاطف مع الآخرين والضعفاء منهم بخاصة، من أبرز خصائص الرومانسية. الشاعر هنا يحمل (عبء الوجود) و(همّ الورى) ويجد ابتسامه حراماً إذا كان ثمة من يبكي، ويرى من المروءة أن يسهر إذا كان ثمة من لا يستطيع النوم بسبب من حاجة أو علّة. هذا التعبير المباشر عن الأحاسيس هو صفة أخرى من صفات الرومانسية كما عرفها الشعراء الكبار.

والقصيدة الأخيرة التي أعرض لها في هذا الحديث هي بعنوان (أغنية للخليج)، تراثية تجري على نظام الشطرين في سلاسة ويُسر. الخصائص الرومانسية هنا محلية جداً، لذا فهي شديدة الإقناع في صدق مشاعر قائلها. هنا القمر والشطآن والجُزُر والرمل والخليج والمحار وأغاني الملاحين أيام الغوص وهواري الصيد، وجميعها صفات ذات طابع محلّي.

حضور الإنسان في الطبيعة من أبرز صفات الرومانسية كما صوّرها شعراء الغرب الكبار. الشاعر الولهان هنا عاد إلى خليجه بعد طول غياب وبعد أن (ذَرَع الدنيا) فلم يجد فيها سوى الضجر. لكنه إذ عاد إلى البحر (أزرق العينين).. (انطلقت / أشواقه بجنون البيد في المطر). يخاطب الشاعر الخليج كأنه يخاطب إنساناً، وهذا ما يدعى بعبارة النقد الرومانسي (أنسَنَة الطبيعة). يحادثه كأنه يحادث صديقا له: (فهاتِ حدِّث وسَلْ ما شئتَ من خَبَري). لقد غاب الشاعر عن خليجه سنة، عاد بعدها مشتاقاً إلى نسيمه وموجه وإلى (الشواطئ تغوي الشمس وجنتها / فترتمي في أصيلٍ أحمر الخَفَر). لغة القصيدة وجِرسها وإيقاعها وتوكيد عروبة خليجها تجتمع لتؤكد لنا أن هذا الشاعر من ذرية أهل عكاظ، بقي مشدوداً إلى تراثه الشعري، ولم يغفل عما لدى الآخرين من فنون شعرية.

دبي

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة