Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
أعمدة الجنون السبعة في عربستان
د. محمد حسن عبد الله

 

تستطيع البدايات الموجهة للرؤية في هذا النص السردي أن تدل على خصوصية أسلوبه، ومستويات المعنى فيه. إن الرقم (7) - الذي يقرأ منكرا ( مجردا من أداة التعريف ) انفرد بالعنوان، على أن اكتشاف مدلولاته لم يترك للمتلقي فقد أضاءت فقرة - في المقدمة - من دفتر يوميات جلنار جانبا من مدلول الرقم، وتولت فقرة في الختام إضاءة الجانب أو الجوانب الأخرى. وهذا العود إلى البدء إحدى حيل النص الأدبي لتأكيد ترابطه، وأنه مضى في اتجاه مقصود ليبلغ غاية محددة، وفي هذا - بدوره - ترشيح ودعم لكلية المحتوى، ووحدة الرؤية.

جاء الرقم منكرا، ولكن جلنار تقول في مستهل عبارتها: (أنا ورجالي السبعة) فيتم التعيين بثلاث طرق للتعريف، وفي هذا التوازن بين المنكر والمعرّف تتموقع هذه الشخصيات التي شكلت جسد النص، وهو ما تقصده لوحة الغلاف المختارة التي تصدرها الرقم نفسه، ومن تحته وسائل إنقاذ وأدوات تثبيت. الريح نشطة والبحر يوازيها نشاطا، (لا يخيف) والمنارة تبدو عن كثب (اللسان الخشبي) مصنوع، فهو على الأرض، وليس منها، وممتد في البحر وليس منه، وعلى اليسار جلد تنين عملاق، أقرب ما يكون إلى لافتات الدعاية. في الصدر إهداء ثم إيضاحان، يجمع بينهما الإغراء بادعاء البراءة والتشجيع على إضمار حسن النية، والعكس أيضا : تنبيه المتلقي إلي التيارات التحتية ( المعاني المستنبطة في الفضاء المفعم بالتوترات ) وأنها - وإن بدت بريئة من نقد الواقع الماثل في مكان وزمان محددين، فإنها في الحقيقة تعني هذا ولا تتبرأ منه.

هناك وجوه أخر من وجوه هذه البنية ( المحدد واللامحدد ) في تشكيل النصّ، أظهرها وأقربها إلى تساؤلات القارئ، تهيؤه لتلقي عمل شعري، فالتقديم المبكر لغازي القصيبي في الساحة الأدبية كان عبر دواوينه، وقد استقر وضعه شاعرا حاضرا حتى بعد تعدد رواياته (سبق أن كتبت عن رواية شقة الحرية عقب صدورها بمجلة العربي الكويتية)، وحتى العنوان (7) أقرب إلى الشعر في الموروث الشرقي إذ يخترق المشاهد إلى الغائب، والغيبي، والمستحيل، ويستقر في الوجدان رقما أسطوريا أو رمزيا. والشعر ماثل في هذه السردية بمدخلها الأسطوري، عن ميدوزا، وختامها الفلسفي عن أثينا، وختامها التراجيدي، ونهايتها المأسوية، المناقضة لشخصياتها وتفاصيلها التهكمية الساخرة الخالية تماما من الجلال والجدية ونبالة السلوك والترفع الذي استقر في ضمير المتلقي مرجعية متخيلة عند سماع صفة : الشاعر، والفيلسوف عميد الكلية، والطبيب النفسي، والسياسي (علي الأقل). إن هذا الفرق الشاسع بين الفكرة المستقرة عن الشخصية (مرجعيتها العامة المعتمدة) وبين ما يطلعنا عليه السارد من تفاصيل حياتها المناقضة تماما لكل المختزن لها في نفوسنا، وكذلك هذه المفارقة الشاسعة بين بداية الحكاية، وقد أشرعت احتمالات شتى، أومأ قناع (ميدوزا) إلى أحدها، والنهاية الفاجعة.. هذا الفرق، وتلك المفارقة، هما من الشعر، ولا يدرك أبعادهما غير تصورات شاعر. وإلى ما سبق فإن لدينا استخدامات للشعر، أوضحها ما أسنده السارد إلى شاعرين، أحدهما حقيقي (المتنبي) الذي اختار من أبياته (لافتات) تصدرت جميع مكونات الأقسام في هذا النص، والآخر متخيل ( الشاعر كنعان فلفل) وهو الأقوى حضورا، إذ صنعه السارد بدرجة من الإتقان عالية، لعلها لم تتهيأ لغيره بذات الدرجة، صنعه على عينه، ووضع علي لسانه قصائد، هي غاية في الكوميديا الراقية، تعضدها مواقف، ومزاعم، ومشهد ختامي يحملنا إلى مستوى موليير في إحكام ازدواجية الدلالة، بين ما هو عدل، وما هو سوء حظ!!.

في جزيرة ميدوزا اعتزلت جلنار الجميلة الفارهة والسبعة الذين اختارتهم من بين المتحدثين في برنامجها التلفزيوني: (عيون العالم عليك)، وكلهم طامع في وصالها، وهي تأبى أن تكون امرأة مشاعا، من ثم كان شرطها لاختيار واحد منهم، (لابد أن يحدثني كل منهم عن أكثر الأسابيع إثارة في حياته، وسأستمع، وفي الليلة الأخيرة سأتخذ القرار. وكان لابد أن يبدأ الشاعر).

* وهنا بعض الأسئلة التي لابد من مواجهتها لعلاقتها بالتشكيل الفني الماثل في تعاقب الشخصيات، وما يتفرع على هذا من طبائع الشخصيات ذاتها، وأنها (صفوة الأمة العربستانية).

لماذا: كان لابد أن يبدأ الشاعر) - كنعان فلفل ؟ ألأن السارد شاعر أيضا، عضو نقابته وإن كان لا يشبهه ؟! ولكن هذه حجة مغرقة في الذاتية وتفتقد السند الفنى تخلخل جانبا - كان متاحا بقدر من التأني، ولا نقول: من سعة الثقافة، لأن غازي القصيبي أديب واسع الثقافة، وفي هذا النص من التضمينات، والإشارات، والمعارف، والخبرات، والأفكار ما يغني عن تلمس هذا الجانب. لقد توالت الشخصيات حسب هذا الترتيب، نذكرها بأسماء الشهرة: الشاعر: كنعان فلفل - الفيلسوف: فيلسوف باشا - الصحفي: مسعود أسعد - الطبيب النفساني: أنور مختار - الفلكي الروحاني: د. بصير العارف - رجل الأعمال: هاي بيبي - السياسي: أبو الفقير - ريمون ضاهر أبو شوكة. قد تحدث المصادفات في حياة الناس، ولكن بناء عمل فني لا يترك للمصادفة، والا اهتزت جماليته، وانتقص قدر كان متاحا له بتمام رؤيته. وفي مجال الترتيب لعمل قائم على أعمدة مستقلة لابد من وجود رابط بين هذه الأعمدة يحولها من مجرد الأشكال المعزولة أو التي يمكن عزلها إلى النسق التشكيلي كليِّ الدلالة، يعتمد الترتيب على واحد من ثلاثة، وهذا يتحقق بوسائل متعددة، أقربها أن تكون هذه الشخصيات المختارة بينها صلات ومعاملات أو تجمع بينها - في مواقف أو مواقع معينة - أفكار أو حوارات أو تداعيات، بحيث يتقوى الشعور بطبائع الحياة وإمكاناتها - من جانب - وتغادر الشخصيات المختارة عزلة تضعف صدقيتها لدى المتلقي من جانب آخر، ويكتسب التشكيل الكلي للسرد جمالية كلية، ورؤية شاملة نافذة ما كانت متاحة لكل فصل - شخص على انفراد. ( أدار هذا بكفاءة عالية نجيب محفوظ في : المرايا، وفي حديث الصباح والمساء) وفي (7) تحقق هذا التواصل بوضوح مع الشخصيات التي تعمل بين الناس مثل الطبيب النفسي، ورجل الأعمال، والسياسي، وعانى قدرا من الشحوب في الشخصيات الأخرى، يعتمد ترتيب الشخصيات على واحد من ثلاثة، لكل منها منطقه : الأهمية، أو الترتيب الهجائي، أو السبق الزمني. لا نزعم أن الشاعر غير مهم، غير أن أهميته في ذاته، ليس منفتحا علي بقية الشخصيات، ولم يرد له ذكر بعد القسم المخصص له إلاّ حين أشار رجل الأعمال (الفصل 6) إلى شاعر مزيف سيصنع قصائد لابنه، كما ردد السياسي ( الفصل 7) قطعة من شعره متأثرا بشهويتها الغامضة. وهذا الانقطاع، أو الانغلاق، قد تعانيه بعض الشخصيات الأخرى، ولكن بدرجة أقل. على أن الشاعر « كنعان فلفل (ليس له أسبقية هجائية باعتبار الصنعة، أو الاسم على السواء. أما الأسبقية الزمنية (الانثروبولوجية) فإن العراف، أو الفلكي الروحاني - كما أطلق عليه، أسبق وجودا بين الجماعة البشرية من الشاعر، والفيلسوف، وقد ينافسه الصحفي ( العارف بالأسرار في مقابل المتنبئ بالأقدار ) فيكون أحق أيضا بالتقديم.

الإشارة السابقة عن تراتب الشخصيات مهمة لمبدأ البناء الفني، وما يوحي به من تأصيل الرؤية، ويبقى من هذه الشخصيات اختيارها، وصفات كل منها. إننا لا نملك حق مساءلة كاتب لماذا اخترت هذه الشخصيات دون غيرها، ولكن بنية السرد تملك حق المساءلة لما لهذا الاختيار من تأثير في الجوانب الفنية، لقد اختار السبعة المشار إليهم بعدهم « صفوة الأمة العربستانية « وهي صفوة فاسدة، لا تحمل بارقة أمل، الحرب بينها سجال بين فساد وفساد آخر، والتنقل بين شخصياتها « فصولها « تغيير في المجال، والمنظر « الديكور « وليس في الوسائل أو الهدف، فكلهم أصحاب ثروات طائلة - باستثناء الشاعر المفلس - جمعوها بالاحتيال، والإجرام الذي لم يتورع عن الاغتيال، جشعون بلا حدود، يتظاهرون بالعصرية والحداثة، أو بالتراث والأصالة، ولكنهم - في جميع أحوالهم - يتسترون على باطن خواء خلا من الانتماء، وتوحش بالرغبات.

* لا أملك حق إلقاء موعظة، ولا هذا بمقام الوعظ. ومن حق هذا النص أن أنوّه بقدرته علي الاسترسال، حتى مع مخالفته لقواعد السرد المحكي بضمير المتكلم الذي ألزمت جلنار أصحابها السبعة به، وبذكاء لغته ودقتها في احتواء الصفات ورسم المشاهد. وتبقى الكوميديا المستنبطة إحدى عناصر التشويق الطريفة، ما بين أسماء الأشخاص ( العربستانية والأجانب على السواء ) والمهن المختارة لهم، المقبولة والمستهجنة والخادشة للحياء، مما يجب التنويه به، فضلا عن (الحبكة) التي تحققت في كل فصل أو قسم على حدة، ولو اتسع المقام إلى مخطط هيكلي لكل فصل لتبين لنا أوجه التشابه والتباين المتواشجة في تكوينه، ومدى تكرارها، أو مخالفتها في الفصل الذي يليه، وفي هذا تتجلي موهبة السرد (التي يحتاج تبيانها إلي مقال آخر) ولعلي لا أذهب بعيدا إذا قلت: إن هذه الأعمدة (الفصول) الشخصيات السبعة، هي سبع مسرحيات من ذات الفصل الواحد، ولهذا استخدمنا المصطلح المسرحي دون قلق، وإن المشهد الختامي (أو الإجباري) كان دائما ملائما للنسيج الذي شكل بنية المسرحية، سواء كان مشهدا هزليا مثل إفراغ وعاء البامية على رأس الشاعر، أو كان بوليسيا كما في لعبة توزيع الإيدز على مستحقيه (قياسا علي توزيع الدعم السلعي على مستحقيه)، أما الخواتيم الفضائحية فإنها النهاية المألوفة لدرجة أنها لا تثير علامة تعجب واحدة في عربستان.

لقد سبق الشاعر اليمني محمد محمود الزبيري حين كتب سرديته الرائعة (مأساة واق الواق) من مستوى هذا الأداء الراقي من كوميديا الهجاء السياسي، مصورا بعمق الأسى وهو يلعب بالصور والمشاهد الحوارية التاريخ الدموي لسعي الإصلاحيين في اليمن، وظلت عيوننا ترقب آفاق الشعراء ليجود أحدهم بمتخيل سردي جديد يلون فيه الشعر هذا التلوث الماحق الذي نعيشه وقد أعيتنا الحيلة في مغالبته أو تجنب شره، فكان الشاعر غازي القصيبي، وملهاته (السوداء) البديعة تجديدا لهذا الفن، وتوسعه في المجال، بما يناسب عصر العولمة الذي لم ينل فيه أهل عربستان غير مضاعفة الوجع، وتراجع الأمل في الخروج من النفق.

مصر

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة