Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
قراءة وامضة لعوالم متعددة
د.عمر عبد العزيز

 

قبل الولوج إلى روايته الأخيرة (الجنية) افترض أن تجوالاًً في عوالم غازي القصيبي ستمنحنا مقاربة إجرائية معرفية اعتبرها ضرورية، فالقصيبي نموذج للمثقف الموسوعي متعدد الاهتمامات والمعارف، فهو يجمع بين المعرفة الابستمولوجية البرهانية كدارس أكاديمي، وكمجرب اشتغل في عديد من المسؤوليات والمهن، كما يتصل بذائقة معرفية رفيعة اسستتباعاً لشعريته وسرديته ومعايشته الأفقية لموسيقى الوجود.

هذه الإشارة العابرة تكتسب أهمية استثنائية ونحن نقرأ رواية (الجنية)، فالرواية من الأنواع الأدبية التي تستعصي على التجنيس المباشر، فبقدر تماثلها المؤكد مع السردية الحكائية الرشيقة تقدم باقة واسعة من المعلومات، ولاتخلو من الجدل الديالكتيكي الخلاق، ولا تتورع عن استخدام الاستشهادات والنصوص المرجعية، ولاتتخلّى عن التغريب المُتعمّد الذي يذكرنا بتغريب المسرحي الألماني (برتولد بريشت)، فيما تشمل كل ذلك بمُتاخمة قلقة للوجود والوعي، نابشة في ميتافيزيقا الوجود، ناظرة إلى معقول اللامعقول في حياتنا اليومية.

منظومة العناصر التي أسلفت الحديث عنها تظهر تباعاً ومنذ الصفحات الأولى، فيحرص السارد على اشعار المتلقي بأنه يتلقى خطاباً محايداً، وهذا يعني إن عليه ألا يندمج في العمل اندماج المخطوف المُرتهن لفنّيات النص ومخاتلاته الإبداعية، وفي كل مرة يتعمّد السارد إعادة القارئ إلى ذات المربع الأول، وكأنه يقول له: لا تذهب بعيداً فأنت تقرأ نصاً فحسب!!

وفي أُفق متصل يتوقف السارد ملياً أمام النصوص المرجعية التي تقدم منظومة من المفاهيم والمقاربات المنطقية والشرعية، بل وحتى العلمية، وكأنه يقول لنا: لاتتعجبوا من معقول اللامعقول، فالحقيقة أغرب من الخيال، ونحن لسنا الوحيدين في هذا العالم الكبير، وإذا كانت هنالك برازخ انفصال بيننا والعوالم الأخرى؛ فإن هنالك أيضا برازخ اتصال، واستتباعاً لذلك يمكن تلخيص فلسفة المؤلف في النظر إلى الوجود من خلال اعتبار المرئي مُتاخماً للامرئي، والمعروف قرين المجهول، والظاهر رديف الخفائي والمستتر.

نتوقف بداية أمام الاستهلال النصي المباشر والأشبه بالسيرة الذاتية؛ حيث يتحدث السارد بضمير المُتكلم ويجرنا تباعاً إلى سرد حكائي بسيط سرعان ما يتكشّف عن أسئلة وأبعاد تلج إلى عوالم أبعد ما تكون عن البساطة، وهنا يمكننا الإمساك بالقصدية الراكزة لكاتب يريد مخاطبة قارئ يسترخي في أحضان كلماته فيما يتقلّب حول وفي جمرات الحياة وعذاباتها وحيرتها، وفي السياق نتوقّف أمام إشارات دالة منذ اسم البطل (ضاري ضرغام الضباع) الأشبه بلوغاريتمات الصحراء واستتباعاتها الخيالية الجامحة، ومنها ان تراتب الضاد في الاسم الثلاثي للبطل ليس مجرد صدفة عابرة، بل دلالة مرقومة في الغيب، مما يؤكد على نزعة مُسبقة في استئناس علوم الأرقام والحروف، فالضاد هنا ليس حرفا موحداً فحسب، بل قيمة رقمية رياضية واحدة، وهذا سنتبيّنه لاحقاً حالما نغوص في عالم النص. وبالتوازي يعيدنا السارد إلى المكان والزمان المُحددين، فنتعرّف على المرحلة التاريخية للنص من خلال الإشارة لشركة ( ارامكو) الأمريكية العتيدة والتي تقوم بترحيل أبحاث الأرشيف العلمية بمجرد أن تتحول الشركة إلى شركة سعودية وطنية، وحتى سلسة العبارات السياسية التي يستخدمها السارد لغرض مؤكد كوصفه ل(العالم العربي السعيد) وحديثه عن (جبهة الرفض والتصدي) وقوله ب( اللاآت الثلاثة)، بل أنني أزعم أن تعمُّده تسمية (الجنية) باسم (فاطمة الزهراء) بالتجاور مع (عائشة) أمر لا يخلو من تجييرات دلالية تتخفّى وراء السطور، وتفتح الباب لتأملات لا متناهية، خاصة إذا عرفنا أن سيرتي الزهراء وعائشة تُشكلان مربعاًً رمادياًً للجدل البيزنطي المحتدم تاريخياً بين المسلمين التائهين في غياهب الميتافيزيقا الإستيهامية.

وعلى خط متصل يتوج السارد هذه الحالة (العربسلامية) بإقرار تجربة الزيجات الأربعة لضاري ضرغام الضبّاع، هذا العربي النجدي الذي جمع في اسمه الثلاثي مراتب الافتراس والبطولة معاً، ف(الضاري) كالحيوان المفترس و( الضرغام ) اسد يتوج نفسه ملكاً في القبيلة، و(الضبّاع) نسبة إلى الكائن الضبعي سواء بالمعنى الافتراسي غير النبيل أو بالمعنى الانتمائي الذي كشفه السارد، فالضبّاع هو جد ضاري الذي قيل إنه فُقد صغيراً في الصحراء، وبعد حين عُثر عليه مع ضبعة أرضعته حليبها ومنحته خصالها... اسطورة تذكرنا بتلك التي اقترنت بمؤسسي روما الأخوين (رومولوس) وريموس (اللذين أرضعتهما ذئبة برية. وتنطوي الأسطورة على تبرير قبْلي) بتسكين الباء (لشراسة النوع الروماني ومركزيته واستبداده، فهل أراد المؤلف أن يقرن (ضاري ضرغام الضبّاع) بهذه السلالة الرومانية في توكيد آخر على المشترك الأعلى بين البشرية المتوحشة؟

ضاري ضرغام الضباع يمكنه أن يكون أياً منا، فهو ترميز فاقع لحالة عربية مقيمة في مرابع (بني عبس وذبيان)، حالة تجمع بين النزعة الدهرية الابيقورية المقرونة بقدر كبير من الخيال والانتماء للجبر والقدر.

الإسقاطات السياسية للرواية تتوارى خلف حبكة حكائية مُشوّقة حتى أن الترميزات اللغوية المُعبرة تختفي في أضابير السرد ومتوالياته الصاعدة، وعند اللحظة ذاتها من الزمن السردي نتوقف على ما يتجاوز الوجود إلى الماوراء، ويصبح عالم الجن حمّالا لذات الانزياح الكبير، فضاري المنتقل لتوه إلى العوالم الأرضية لأمريكا الستينيات يستعيد تقاليد أجداده في نقطة بعيدة من بلاد العرب. في المغرب حيث يتعرف على زهرة وجوده الدنيوي التي تمنحه اللذة الخرافية غرفاً من وجود يتجاوز أحوال دنياه، فيستغرق في لُجة المتعة الدهرية مع زوجته (الجنية) ( ذات الاسم المستعار) فاطمة الزهراء والتي تتكشّف لاحقاً عن (فاطمة قديش) وما أدراك مافاطمة قديش!.. تلك الجنية الشريرة في الآداب الشعبية..المُتعددة باسمائها وصفاتها.. القادرة على تقمُّص الاحوال.. الفاعلة في تضاعيف المشاعر واستتباعاتها بقدر حضورها الكئيب في المخيلة العامة بوصفها إشارة نحس وهلاك.

كما قلنا سلفاً تستعصي الرواية على التجنيس الأدبي المتعارف عليه، وتنطوي على أنساق من البيان والمعارف، فالنص الأدبي السردي المجرد لا يكاد يتوافر إلا في محطتي الحبكة والتداعيات المونولوجية المتأدبة كحال الرسائل المتبادلة بين عائشة (الجنية) وزوجها ضاري (الإنسي). وعنما يُمعن السرد في توصيف وتصنيف عوالم الجن العرب يومئ ضمناً إلى عوالم الإنسيين العرب، ذلك أن جن المناطق الشرقية بالمملكة يتصلون بالبيئة الزراعية، وجن الحجاز يتصلون بعبقرية التعددية الإثنية، وجن الجنوب يتصلون بالبيئة الجبلية

وبانزياح السارد إلى مستويات جديدة سنرى كيف أن عائشة قديش تترك ضاري وتعود بعد وساطة جنية لقديش بن قديش والذي يعرف عائشة بوصفها خالته، ويدخل في حوار متواصل مع ضاري شارحاً له مفهوم (الجني المتسأنس)، وهو ذلك النوع من الجن الذي لا لايحتاج إلى (فيزا) أو (كفالة) ليلج عالم البشر، والإشارة هنا تطال (الوافد) المُلتزم المحترم الذي يحتاج بالرغم من ذلك لتأشيرة وكفالة، ولاينال الاستئناس في عالم اخوانه البشر. إنها صفة الحالة العربية المفارقة لازمنة النواميس الدولية الإنسانية، بل لعبقرية التاريخ والجغرافيا الخاصة التي كانت لصيقة الإدماج والتساكن، وسُلطة اللغة والهوية الثقافية الواحدة.

النقد الخادش للمؤلف لا يقف عن تخوم الحالة العربية بل يتواصل مع الظلم العالمي الذي يبرر ذبح الهنود الحمر باسم التطور والديمقراطية، ولا يتورع عن تجفيف منابع غذائهم عبر إبادة الجواميس البرية المقدسة لدى الهنود الحمر، ومصدر غذائهم ولباسهم وسكناهم، وبهذا الفعل تقدم الليبرالية الأمريكية نموذجاً فادحاً للظلم الاجتماعي، وهو ظلم تواصل لاحقاً باقتصاد السوق وتجارة المخدرات، والتشويه الأيديولوجي للمسيحية الأولى.

عطفاً على الإبحار المركوز في أساس وتضاعيف العوالم الجنية نتوقف أمام عناوين أساسية لعلوم الأوفاق والحروف والروحانيات والطلاسم، وصولاًً إلى (دراهم القدرة) الحلاجية التي يراها المؤلف متوفرة في عناصر وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية!!، وتلك واحدة من لطائف الكلام التهكمي التراجيدي الذي نلمسه في غير مكان من النص. وفي بُعد آخر يحضر عالم النفس الأشهر ( فرويد( من خلال مركزية الجنس عند البشر، وهو مايذهب إليه المؤلف تساوقا مع تقديرات وتوصيفات الجني (قديش بن قنديش) الذي يجترح مأثرة وصفية للبشر يسميها الوصايا العشر، وسترد أربع من تلك الوصايا على النحو التالي:

- الإنسي يحب الوهم

- لا تتوقع من الإنسي اعترا فاً بالجميل

- سلوك الإنسي محكوم بالجنس، ثم السلطة فالمال

- لاتتوقع اعتدالاً من إنسي

واستكمالا للوصف المشهدي الدلالي للرواية لابد من إشارة إلى العتبات الشعرية التي اعتمدها المؤلف للشاعر ابراهيم ناجي والتي اراها بمثابة مفاتيح صول موسيقية ودلالية لما يرد في أبواب الرواية.

مقطع القول أن رواية (الجنية) لغازي القصيبي تمنحنا فرصة استثنائية للتجوال مع كتابة سردية حكائية رشيقة، لاتتخلى عن فكرة المضمون المباشر، والتنقلات الاشارية المعلوماتية الهامة، والتجوال في مرابع العديد من علوم الظاهر والباطن، مع مُحايثة مؤكدة لواقع الحال في العالم العربي المخطوف بفوضى الحال وخفاء المآل.

الشارقة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة