Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
بعض من الحديث
عبدالرحمن السدحان

 

الحديث عن أديب عملاق في قامة معالي الدكتور غازي القصيبي ليس بالأمر الهين علي أبداً، لأنني لا أملك موهبة التعبير عنه تعبيراً ينصف ذلك الأديب استحقاقاً وعدلاً، وحين شرفتني مجلة (الثقافية) بالدعوة للمشاركة في احتفاليتها الخاصة بالدكتور غازي، أوجست في نفسي خيفة ورهبة رغم شعوري البالغ بغبطة خاصة جعلتني أثمن الدعوة وأستجيب لها تشريفاً لي وتكريماً.

أحد أسباب خيفتي من المشاركة في هذه الاحتفالية الخاصة أن جل ضيوفها نخبة من علية القول والقلم شعراً ونثراً، فماذا عساني أن أضيف إلى إبداعهم في تكريم هذا الرجل الفريد، بمستوى مشرف من الندية معهم أو مع سواهم!

فلغازي رصيد ضخم من الإبداع الأدبي والفكري والسياسي يربو على ستين مؤلفا, وقد بدأ مشواره الطويل في سن مبكرة، وحالفه الإبداع عبر السنين، وهو لا ريب مجموعة (مواهب) مثيرة ينافس بعضها بعضاً، فهو قارئ ذكي، يستوعب ما يقرأ بسرعة، ويستدعيه متى شاء بقدرة تذهل سامعيه.

وهو أديب يجمع بين رقة الإنسان وشفافية الفنان وملكة اللغة الجميلة بمستوى يجعله يتفاعل بيسر وسكينة مع محطات الألم والفرح في حياته بنبوغ يستنفر الإعجاب. مرة يذرف قوافي الشعر إذا حزن لفقد أحد فيأسر قارئه، ويشركه في ملكوت حزنه! وأخرى يعلو فوق هام الفرح إبداعاً حين تستنفر وجدانه عاطفة سرور، فيصوغ لذلك باقات من القول!

وهناك سبب آخر، كاد أن يلجمني عن هذه المشاركة وهو أن كتابة شهادة منصفة عن رجل تربطني به حميمية الود منذ أكثر من أربعين عاماً، مرشحة لشرخ الطعن في الظن من لدن (شهود) آخرين هم أغدق مني باعاً في معرفة وفهم ونقد نصوصه وإبداعاته شعراً ونثراً، حتى ولو تفوقت عليهم بمساحة الود المتراكم له في خاطري زمناً طويلاً، إذ قد يرى بعضهم أن مخزون الود الحميم لغازي قد تفسد الكتابة عنه ألف قضية وقضية!

ورغم ما يمكن أن يقال عن خصوصية الود للدكتور غازي القصيبي، فإن ذلك يجب ألا يحرمني شرف الحديث عنه (بموضوعية) نسبية تنافس نقد الناقد، أو ريب الشاك، أو مكر المتحفظ، لأنني أؤمن إيماناً لا ينازعه شك أن إبداعاته الكثر تقف شاهداً نزيهاً له ولعبقريته الفذة لا يفتقر معها إلى شهادة مخلوق، فقد نبتت موهبته الشعرية على ضفاف طفولته منذ ان نطق بقافيته الأولى وهو ابن التاسعة في الأحساء، ثم رحلت معه الموهبة عبر محطات تكوينه التعليمي والأكاديمي من الأحساء إلى البحرين.. ثم القاهرة حيث درس القانون بكلية الحقوق في جامعتها الكبرى وتخرج منها متفوقاً، ثم حلق إلى لوس انجلوس للدراسات العليا، ثم لندن في وقت لاحق لإنجاز الدكتوراه قبل أن يستقر في الرياض في ضحى التسعينات من القرن الماضي.

أما معرفتي بالدكتور غازي فقد ولدت في أوائل الستينات من القرن الميلادي الماضي، بمدينة لوس أنجلوس، وكنت وقتئذ أحاول عبور مرحلة التجهيز اللغوي لدخول جامعة جنوب كاليفورنيا، في حين كان هو يتابع دراسته العليا لنيل (الماجستير) في العلاقات الدولية، وتم اللقاء أمام مدخل مكتبة (الدوهيني) الشهيرة بالجامعة عبر صديق مشترك، وكان لقاءً مشهوداً لا يبرح الذاكرة ولا يمل ذكره اللسان.

أنهى الطالب غازي مرحلة (الماجستير) متفوقاً برسالة خطفت الأسماع والأبصار إعجاباً، حيث تناول بالنقد أطروحة الأكاديمي الأمريكي الذائع الصيت في ذلك الوقت بجامعة شيكاغو، الدكتور هانز مورجنثاو، عن ديناميكية التفاعل بين (القوة والمصلحة القومية)، وأحسب أن غازي أول طالب جامعي، ناهيك أن يكون عربياً أو غير عربي، يتصدى بالنقد العلمي البليغ لأطروحة البروفسور الأمريكي العتيد مورجنثاو، وهو الذي لم يبلغ بعد سن الخامسة والعشرين من العمر، ثم يعود بعد ذلك إلى المملكة ليلتحق بجامعة الملك سعود محاضراً في زمن إدارتها من قبل معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر أمد الله في عمره، وقد جمعتهما بادئ الأمر عرى من الزمالة في رحاب الجامعة سرعان ما نمت عبر السنين إلى عاطفة من الحميمية لم يخب أوارها حتى اليوم.

مارس غازي مهمة (التدريس) في الجامعة فترة من الزمن قبل أن يقع عليه اختيار التكليف بالعمل مستشاراً قانونياً للوفد السعودي المفاوض مع بعض الأطراف اليمنية برئاسة معالي الشيخ عبدالله السديري رحمه الله، وذلك إبان الصراع الدموي على السلطة بين جناحي الملكية والجمهورية في اليمن الشقيق، وحين عاد غازي إلى مقر عمله الأصلي في جامعة الملك سعود بدأ يعد العدة للسفر مبتعثاً للدراسات العليا بجامعة لندن، حيث أمضى هناك أقل من ثلاث سنوات أعد في ختامها أطروحة دكتوراه تفوق رسالة الماجستير الأمريكية عمقاً وصيتاً وثقلاً أكاديمياً، وقد تناول موضوعها ثورة اليمن عام 1962م متابعة ورصداً للأحداث وتحليلاً لها، وتعاطى مع القضية بحرفية علمية وبحثية متميزة، وأزعم أنها ستكون بلا ريب رافداً هاماً من روافد التاريخ العربي الحديث حين يتاح الاطلاع عليها يوماً ما، وأذكر أنني كنت ذات يوم في زيارة لمعالي الصديق غازي بمنزله في لندن قادماً من لوس أنجلوس، وهو يضع اللمسات الأخيرة على أطروحة الدكتوراه سالفة الذكر، وكان وقتئذ قد اقترن برفيقة دربه (أم سهيل)، وهي بحق حزمة من حنان ما برح يضيء أروقة حياته إبداعاً وفرحاً.

عاد الدكتور غازي في أوائل السبعينات إلى الرياض مكللاً بغار الفوز بشهادة الدكتوراه ليبدأ (ماراثون) العلم الشاق بدءاً بجامعة الملك سعود أستاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية بكلية التجارة، ثم عميداً مثيراً لها في وقت لاحق، حين حاول استحداث أساليب كمية ونوعية وإجرائية حديثة لتطوير أدائها، أملاً أن تكون في قامة مثيلاتها في العالم، وكان من أبرز معاصريه في تلك الفترة من الزملاء الأكاديميين معالي الدكتور عبدالله العمران (رحمه الله) ومعالي الدكتور سليمان السليم، ومعالي الدكتور محمد الملحم، وأستاذ الإدارة والشاعر المتمرد على نفسه أحياناً، الدكتور أسامة عبدالرحمن، وأستاذ الاقتصاد الدكتور محسون جلال، رحمه الله، وغيرهم آخرون، ثم انتقل بعد ذلك رئيساً لمؤسسة سكة الحديد فترة من الزمن، قبل أن يتم اختياره عام 1975م - 1395هـ أول وزير للصناعة والكهرباء في التشكيل الوزاري الذي تلا استشهاد جلالة الملك فيصل طيب الله ثراه في أوائل عام 1395هـ.

وبعد..

فتلك كانت نبذة تاريخية وأدبية موجزة اقتبستها انتقاءً من سيرة ضيف (الثقافية) العملاق، الدكتور غازي القصيبي، محاولاً بذلك رسم صورة تقريبية عنه تأهيلاً وخدمة وعطاءً، وقد جند نفسه في كل الظروف والأوقات خدمة لوطنه أرضاً وموقفاً وقضايا، وكان صوتاً شامخاً في كل ساحة، ولن تنسى الكبرياء الوطنية ما فعله معاليه إبان محنة احتلال دولة الكويت، وما استصحبه ذلك من بلاء عظيم للأمة العربية جمعاء، وكان قلمه يهدر يومياً عبر صحيفة (الشرق الأوسط) من خلال عموده الشهير (في عين العاصفة)، حتى بات ذلك العمود الشهير وجبة سياسية يومية يقرؤها عشرات الآلاف من الخليج إلى المحيط، ومن خلالها كانوا يتعرفون على بعض ملامح المأساة السياسية التي عصفت بدول الخليج خاصة، وبالوطن العربي عامة، ويستوعبون أسس وحيثيات الموقف السعودي الباسل في التعاطي مع تلك الأزمة الطاحنة التي تصدت لها قيادتنا الحكيمة بشجاعة وجرأة أذهلتا المحللين والمراقبين السياسيين والعسكريين في الشرق والغرب، وكانت الوقفة التاريخية الباسلة من قبل قيادة هذه البلاد أيدها الله في التعامل مع ذلك الموقف العصيب أحد أهم الأسباب وأقواها في إحباط (المخطط الصدامي) المشين، حين حاول اغتصاب شرف السيادة السياسية لدولة الكويت الشقيقة، لكن الله أبى إلا أن يتم أمره، ليزهق الباطل ويظهر الحق، ويفشل كيد الكائدين!

السعودية

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة