Culture Magazine Thursday  07/05/2009 G Issue 282
فضاءات
الخميس 12 ,جمادى الاولى 1430   العدد  282
خطّ إنتاج ثقافيّ
د. شهلا العجيلي

 

لعلّ قول (أنجلز): (إنّ سائر النظريّات الأخلاقيّة عبر التاريخ، جاءت نتاجاً لأوضاع المجتمع الاقتصاديّة السائدة في زمنها) ما يزال يتمتّع بفاعليّة واضحة، إذا ما تأمّلنا ما يحدث حولنا في البنيّة الاجتماعيّة - الثقافيّة العربيّة، من غير أن نتجاوز في ذلك جدليّة (ماركس) طبعاً. ويمكن القول إنّ المجلى الأوضح لهذه العلاقة بين الأخلاقيّ والاقتصاديّ هو الثقافيّ، الذي يخرج من رحم الأخلاق، ويتقدّم في هذه المرحلة على الأقنوميين الآخريين: الاقتصاديّ، والسياسيّ.

صار الثقافيّ، بوصفه الوجه الناصع للأخلاقيّ في البنية الاجتماعيّة، هدفاً يسعى إليه كلّ من المنخرطين في الاقتصاديّ والسياسيّ، لتكتسب توجّهاتهم مشروعيّة ضمن النسق الاجتماعيّ الذي ينتمون إليه، ولعلّ المثال الصريح لذلك هو عمليّة غسيل الأموال بأدوات الثقافة، إذ ليست إقامة المعارض، وتمويل بعض المشاريع الثقافيّة، وتكريم الشخصيّات الثقافيّة، وإطلاق المجلاّت والصحف، من قبل بعض أصحاب رؤوس الأموال الجدد سوى تجلّ من تجلّيات عمليّة الغسيل، ومن المؤسف حقّاً أنّك تسمع آراء لبعض المثقفين تقول: ما يهمّ هو دعم الثقافة والمثقّفين، ولو بأموال من جهنّم!

لاشكّ في أنّ معرفة جوهر الثقافيّ، والتتبّع التاريخّي للفكر الذي ينتج الثقافة في كلّ عصر، من خلال العلاقة بين المثقّف والإمام والسلطان، يؤكّد على أنّ مثل هذه الرؤية ستتهافت من تلقاء ذاتها، ولعلّه من نافل القول ان نذكّر بأنّ الثقافة مسؤوليّة الحكومات، ومؤسسات المجتمع المدنيّ، ورؤوس الأموال الوطنيّة، كما هي مسؤوليّة المثقّفين.

يكمن خطر تلك اللعبة بين الاقتصاديّ والأخلاقيّ في أنّ قواعدها تطوّرت كثيراً، فسابقاً كان المثقّف يُستقطب ليتكلّم في صالح شخصيّة ما، أو حزب، أو فرقة تمتلك تلك الوسيلة الثقافيّة ضدّ شخصيّة أخرى أو اتجاه آخر، أمّا اليوم، ومع آليّة غسيل الأموال ثقافيّاً، صار من الممكن أن يُستقطب المثقّف ليكتب ضدّ صاحب المجلة أو الصحيفة أو القناة الفضائيّة، بل ان يقوم هذا الأخير بتمويل مهرجان ضدّه، ليثبت أنّه يدعم الثقافة، وأنّه يصنع من الحرية متناً بدل الهامش!

انتقلت الكوميديا الثقافيّة من الغسيل إلى افتتاح خطوط إنتاج ثقافيّة، إذ تستقطب هالة الثقافة التي أشبه ما تكون بالندّاهة، كثيراً من سيّدات الأعمال. لقد صار طموح كلّ من امتلكت رأسمال أن تحصل على ترخيص مجلّة، فتترأس تحريرها.

أعرف سيّدة أعمال، تتكوّن أعمالها من محلّ للألبسة النسائيّة الداخليّة (لانجري)، دخلت به السجلّ التجاريّ، ثمّ حوّلته إلى ورشة لإنتاج تلك الملابس، أصدرت السيّدة مجلّة استكتبت فيها كبار الكتّاب، وصدر من المجلة عدد واحد فقط، ولم يصدر الثاني، لكنّها مازالت توزّع العدّد ذاته في كلّ مؤتمر أو ملتقى لسيّدات الأعمال، مختالة بامتلاكها مجلة ثقافيّة يكتب فيها أهم المفكّرين، وبذلك صار لديها خطّان: خط لإنتاج الملابس الداخليّة، وخط لإنتاج الثقافة.

تبلغ الكوميديا الثقافيّة ذروتها لتصير وفاقاً للمسرح اليوناني نوعاً من ال(فارس)، مع تحويل خطّ الإنتاج من الثقافيّ إلى الغذائيّ، ذلك أنّ إحدى صاحبات دور النشر التي نشرت لكتّاب كبار، عرب، وأجانب، ظلّت تهاتفني لسنوات تستفسر عن أسعار الورق، لأنّ أحد أصدقائي يمتلك مصنع ورق، ويقوم بمساعدتها من حين لآخر. هاتفتني الناشرة، لكنها لم تسأل عن الورق، بل طلبت أن أستفسر لها عن أسعار نخالة القمح كوني أعيش في منطقة زراعيّة مشهورة بإنتاج القمح والشعير، سألتها: هل وصلتم إلى اختراع الطباعة على سنابل القمح مثلاً! فأجابت إنّها حوّلت دار النشر إلى مخبز لخبز الريجيم تحديداً! لقد فاجأني هذا التحوّل الذي يقوّض مقولة المسيح عليه السلام (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان).

لم ينجُ الزعماء السياسيّون من شرك الثقافة بوصفها (ندّاهة)، ففي لقاء تلفزيونيّ تمّ بثّه منذ سنوات، مع الزعيم الليبي معمّر القذّافي، سأله المذيع: لو لم تكن زعيماً كبيراً ماذا تمنيت أن تكون، فأجاب الزعيم: مثقّفاً كبيراً!

ما يثير الأسى حقّاً، هو تهافت أولئك المتموّلين على إنشاء كيانات ثقافيّة، في الوقت ذاته الذي تقوم فيه مؤسسات حكوميّة نبيلة وشرعيّة بإغلاق بعض السلاسل والمجلاّت العريقة، أو أنّ تتوقّف تلك المنجزات الثقافيّة لنقص في التمويل، أو لخلافات في وجهات النظر، كما حدث مع مجلّة (الكرمل) التي أرست تقاليد أدبيّة مشرقة، وكما يحدث مع مجلّة (عمّان) المهدّدة أبداً بالتوقّف، والتي تشكّل حقلاً نظيفاً لتلاقح أفكار المثقفين العرب من المشرق إلى المغرب، فكيف تتحمّل مؤسّساتنا، وحكوماتنا، المؤامرات الاستعماريّة، والضغوطات الخارجيّة، والفساد الداخليّ، وتنوء بحمل مجلّة!

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244

حلب

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة