Culture Magazine Monday  09/02/2009 G Issue 270
فضاءات
الأثنين 14 ,صفر 1430   العدد  270
هل نتعظ من (حمار) بوريدان؟
سهام القحطاني

 

(التغيير مرتبط بحرية الاختيار)

العلاقة بين الإرادة والتغيير أو العلاقة بين الإرادة والعقل (الاختيار) من العلاقات الشائكة التي شغلت الكثير من الفلاسفة بدءاً من أرسطو مروراً بالغزالي وصولاً للفيلسوف الفرنسي بوريدان.

وبصرف النظر عن اختلاف التفاصيل في التحليل الفلسفي لثيمة تلك العلاقة وآليات تمثيلها ووسائل برهنتها يظل المحتوى والغاية ثابتين من حيث القيمة المُعطى التي يتشكّل على أثرها الفعل الإنساني ومجالات حقله الإجرائي؛ كونها السيرة الخاصة المحتفظة بخصائص ذلك الفعل في حالتي النشوء والارتقاء.

وفكرة النشوء والارتقاء المعدلة كنظام مؤسس للتفكير والسلوك الحضاريين لم تستطع أن تتخلص من تبعات نشوئها الأول؛ فهي في ذاتها فكرة تحوي مشكلة من حيث تقويمها النوعي العام، ليس لأنها تعتمد على فرضية العدمية الحضارية للإنسان الأول؛ وبالتالي صفرية المحتوى التي لا تشترط أيديولوجية لموصفات التعبئة؛ مما يُعرّض فيما بعد لأزمة فكرية تتعلق بالمضمون الاحتوائيّ، وليس لأنها ارتبطت بمقرر وتطبيق فسيولوجيين في بداية الأمر؛ فأثر على مضمون التصور ذاته، بل لأن عدم تحديد خلفيتها يجرك إلى متاهة مفاهيم تتشابه ولا تتطابق؛ مما يحدث إرباكاً لنوعية التفكير والسلوك الصادرين عن الارتقاء مثل التغير والتغيير والتحويل والتحول والتطور والتطوير؛ فتلك المفاهيم قد تبدو أنها مشتقات دلالية للارتقاء بالفعل الرئيس لعلاقة الإرادة والعقل؛ أي الانتقال العرضي غافلة التأفق الترتيبي، لتلك العلاقة التي تمثل الرافعة التي يعتليها الفرد لتحصيل ناتج نوعي.

فالارتقاء الفردي يؤدي إلى الارتقاء الجماعي، وليس العكس كتوجه عرضي، والتخلي عن تلك التراتبية هو ما يجعلنا نساوي بين التركيب والاقتضاء لعلاقة الإرادة والتغيير باعتبار فرضية الاشتقاق، الذي ينوب فيها اللفظ المشتق عن الدلالة الرئيسة وهذا فيه إلغاء للامتياز الدلالي الخاص لكل لفظ مشتق.

وهذا الإلغاء هو ما يمارسه الاقتضاء. والاقتضاء ليس طاقة فعل بل هو ناتج ردة فعل مبنية على الاستسلام لنموذج ممعيَر يوحد اختيارات الفرد، وهو بذلك يسحب من الإرادة قدرة الاختيار، وسحب القدرة على الاختيار هو الذي يوقع في اضطراب القياس (التفكير في القرار وتنفيذه) بين موقع الفرد ومركز مقرر الاختيار وما ينتج عنه من ارتداد كحاصل لحركة خطية وليس تغييراً يتم في ظل الاكتفاء بآلية الدفع المبنية على البديهة الاستقرائية وباعتبار التركيب تحصيل حاصل، في حين أن ضرورة الاقتران غير مضمونة، أو قل إن ضمانها مشروط، ووجود المشروطية في ذاتها يجعل التواجد حالة محتملة، وهكذا تصور - تحصيل الحاصل - قد يُفاجئنا أن البديهة الاستقرائية لا تحمل منطق الارتقاء كسلوك وفكر نوعيين ينتجان الإضافة حتى مفهوم الإنتاج في ذاته يلتبس علينا ماهيته أهو تركيبي أو اقتضائي؟

هذا الالتباس هو الذي يجعل الفرد متوهماً بأن تنفيذه لناتج الاقتضاء هو معادل لقدرة الاختيار، وهو توهم مصدره حاصل الحركة الخطية للارتداد.

فنحن نتعامل مع الماهيات وفق حساباتنا الخاصة لم نعتقده وفق العقل الجمعي وليس وفق قدرة الاختيار الفردي من خلال المكتسب الثقافي، وهو ما يحوّل ما نعتقده إلى ممكن في حدّه الأدنى نتيجة ممارسة إلغاء الامتياز الدلالي للفظ المشتق ومشاركة ألفاظ الاشتقاق المختلفة في الدلالة الرئيسة المتوهمة للناتج النوعي.

ويتمثل الإلغاء والمشاركة من خلال منظومة المشاهد الحية التي تؤلف في اصطفافها الطبقي تجربة الواقع؛ فنحن نتعامل مع الواقع على أساس أنه صندوق ومشكلة صندقة الواقع هي خاصية التحجيز التي نفرضها عليه.

وقد يرى البعض أن تلك الخاصية هي في مصلحة الواقع كشاهد منمَذج؛ لأنها تعينه على التكافئ المطرد لأطوار التغير والتغيير؛ وبالتالي يتفادى المجتمع الآثار الجانبية للتغيير، ويحافظ على أصالته وخصوصيته، ولا أعتقد أن ذلك التصندق قد يوفر حماية الأصالة وتنقية شوائب التغيير بل هو يوفر مقرر الاختيار من متعدد بناء على نماذج مختزنة مزودة بنوعية الاختيار؛ وبذلك فإن تساوي المساحة كخاصية من خصائص التصندق تعين على القولبة بحيث تؤدي إلى تجميد المحتوى وهو ما يضرّ بتطور الارتقاء كعلاقة صيرورة.

ولا شك أن العبارة الأخيرة تحمل جدلاً شائكاً بين مقتضى وتركيب الذات والموضوع أو الثابت والمتحول للجوهر والموضوع.

هذا لا يعني أنني أسعى إلى إيجاد آلية تفاضل بين القصدية التي ترتبط بفعل التركيب والبدهية الاستقرائية التي ترتبط بفعل الاقتضاء، مع اعتقادي أن الاصطفاف الطبقي المكون للواقع في أغلبه هو فعل اقتضاء بناء على مشهد التجربة الواقعية وليس ما ينبغي أن يكون كذلك؛ فالاقتضاء هنا وفق برهان ممثل واقع وليس حقيقة؛ لأنه يتم خارج إرادة الإنسان وقدرته على التحديد والاختيار وفقاً للضغط المٌمارس عليه من قبل نموذج الاختيار الفرضي المزود به مسبقاً كتغذية راجعة.

كما أن الاعتماد على آلية التفاضل بين فعلين مؤسسين للتفكير والسلوك الحيين (الارتقاء) هو توجه تأويلي غير منطقي غالباً؛ ولذلك أعتقد أن الاعتماد على آلية التراتبية أقرب للمنطق التأويلي، وقد يرى البعض أن هناك تناقضاً بين قولي إن (الاقتضاء) ناتج وبين تصنيفي له كفعل مؤسس للسلوك والتفكير الحيين، ولا تناقض بين القولين إذا طبقته على كل من الخبرة والتجربة؛ فهو يمثل للأول مؤسساً وللثاني ناتجاً. والفرق بين الخبرة والتجربة أن أولهما نظام سلوكي، سلسلة منتظمة من التأثير والتأثر؛ وبالتالي فالاقتضاء يحمل مسؤولية التأسيس، والثاني نظام تقويمي مكوّن للسلم القيمي الذي يجزئ المستوى التشريعي للمعيارين الموضوعي والنوعي المحددين لموقف الفرد نحو الأشياء؛ وبذلك يمثل له قيمة ناتج، والتتابعية كسمة ملزمة للخبرة والتدرّجية كسمة ملزمة للتجربة آليتان لإتمام قدرة الفرد على إصدار قرار مخصوص (أفكر وأختار وأنفذ). إضافة إلى أن المنطق التراتبي يجمع بتوازن متكافئ بين التركيب والاقتضاء، ويعين على إقامة تصور شامل لتطور وتطوير المفاهيم وملحقاتها وإتمام ذلك التصور لا يتم إلا عبر فعل التركيب، والملحق قد يتدرج كخريطة إجرائية من الشكل إلى الحقل وهذا التوسع مرتبط بنوعية الخصائص التي يتم من خلالها تصميم صيغ إعلانية وبيانية يتحرك التفكير والسلوك في ضوئها؛ وبذلك يصبح الشكل أو الحقل الإجرائيان وسيطاً رمزياً بين المنطق التأويلي وبين التجربة الإنسانية، سلسلة المنجزات المختلفة، وسلسلة المنجزات المختلفة بما تتضمن خبرة وتجربة التفكير والسلوك الفردي أو الجماعي هي تفسير لفعل الارتقاء وليس مفهوماً له؛ لأن البرهان دليل المفهوم. هذا الانتقال من الرمزي للذهني لا يعني العودة إلى التفكير الطوطمي نحو الأشياء، بل هو تيسير لتأسيس منظومة الأولويات للتفكير الإنساني؛ لأن المفهوم أو حتى التعريف هما مجرد بنيان صوري للتصور الذهني الذي يربط بين ما نعتقده والممثلات المتاحة للإثبات، مع الاحتفاظ طبعاً بالفارق التكويني لكل من التعريف؛ كونه للمفهوم خلاصة واصطلاحية المفهوم، كما أننا نقيم علاقاتنا حسب ممثلاتها وليس حسب مفاهيمها؛ لأن التجربة الإنسانية مصدر الارتقاء تعتمد على مجموع ممثلاث لا على مجموع مفاهيم؛ وبذلك تصبح فرضية الاشتقاق الملزمة للارتقاء أزمة للوعي الفردي كفاعل يتحكم في إدارة المنجز الحضاري.

إن المشكلة التي يٌعرضنا لها الارتقاء بمشتقاته المختلفة والتي اقترحت سابقاً أن نتعامل معها بتراتبية تحفظ لكل مشتق امتيازه الدلالي الخاص للاستفادة من الناتج النوعي لكل منها، إضافة إلى أزمة الوعي الفردي للتعامل مع كيفية الممثلات التي يمكن أن تنتج سلسلة من المنجزات، هي الصراع مع التفكير المصندق للواقع، وذلك الصراع يتمثل في مستويين؛ مستوى مُصاحب بخلفية ومستوى مصاحب بنمذجة، وأقصد بالخلفية الوعي الخاص للفرد مجموع ما يملكه من مكتسبات ثقافية معادلة للقدرة في حالة امتلاكها اختيار القرار والتغيير، والنمذجة هي الوعي الجمعي مجموع المعايير المؤرّخة التي تسيطر على رؤية وموقف وقرار الفرد كجزء من الوعي الجمعي؛ أي أن فكرة الاندماج لدى الفرد تسبق فكرة الاستقلال، وباعتبار أن النمذجة ما هي سوى معايير تتميز بالثبات والتوثقية وهي أسبق كنظام تصوري للفرد من تصوراته المكتسبة وهو ما يجعل الاقتضاء يتغلب على حرية التركيب.

وحيناً نتوهم أن عصرنة الأشكال تلغي النمذجة وهذا غير صحيح؛ لأن قيمة النمذجة ليست في شكلانيتها بل في معاييرها؛ فالمعيار ثابت، وإن اختلف الشكل، والمساواة بينهما باعتبار خاصية التوابع هو خلط يوقعنا في خدعة بيانات وإعلانات التغيير.

والتقابل بين ذلك المستويين ناتجه يرتبط بقدرة الفرد على حرية القرار والاختيار للتغيير أو عدم قدرته إما لعجزه وإما لخوفه، وفي كلتا الحالتين لن ينجو من مصير حمار بوريدان الذي هلك جوعاً وهو يقف بين علفين؛ لأنه عجز عن الاختيار!

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة

 seham_h_a@hotmail.com


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة