Culture Magazine Monday  09/02/2009 G Issue 270
قراءات
الأثنين 14 ,صفر 1430   العدد  270
رحلة في الذات
أ. د. صالح الهادي رمضان

 

الكتابة الإبداعية رحلة في الذات، معرفة ذاتية أولاً، والذات لا تنفي الغيرية بل تثريها وتعمّقها. ولكن من التائقين إلى الإبداع من يخيفه البحر فيكره النزول إليه، يحرجه سماع صوته، يفضل أن يظل على الشاطئ يراقب أمواجه، في حلها وترحالها، في مدها وزجرها، في سكونها وصخبها. ومن المتطلعين إلى الإبداع من تستفزه هذه الأمواج قليلاً أو كثيراً فيقترب منها اقتراب الحذر ويساحلها فتداعب مناسمه حبات الرمل المضمخة بأنفاس المدى البعيد، أنفاس السفر المنهوكة، ولكنه يظل كذلك مشدوداً إلى الشاطئ، عاجزاً تمام العجز عن التسرّب إلى الأعماق، فلا يقدر على اختراق تلافيف الزبد إلى ما تشفّ عنه، أو تراه كلما حاول ذلك ارتد إليه بصره وخانته لغته. أولئك وهؤلاء لا يحبّون أعماق الذات أو قل يرفضونها، أو يخافونها. لا يحبّونها لأنهم لا يعرفونها، ويرفضونها لأنهم في أعماق نفوسهم أو في لاوعيهم الفردي والجمعي على السواء، يأبون أن يروا ما في داخلهم من ضروب التناقضات الطبيعية ومن ألوان الصراعات النفسية، لا يرغبون في الاستماع إلى الأصوات الأصيلة التي تتحاور في الذات، لا يرون من البحر سوى ذلك السطح الرخامي الثلجي المتبلد، لا يلامسون سوى تلك الصفحة البلورية السميكة تلك الصفحة التي تحجب حقيقة الحياة، تحجب الكائنات الحية في شتى ألوانها، وهم يخافون عمق الذات، لأنه يقلقهم بأسئلته المحرجة، أسئلته التي يتجنبون الخوض فيها.

إنّ السفر في أعماق البحار وفي مفاوز التيارات ومهامه المحيطات هو الدرب المفضي إلى استكشاف الطبيعة في دهاليز أعشابها المرجانية وكهوف معارفها التي تنتظر من يجليها، وإنّ السفر في أحراش الذات هو المساعد على التوغل في تضاريسها الوعرة. وهو المرشد إلى روائح نباتها البري الذي لم تدنسه أصوات المدينة الصاخبة.

ومن المبدعين في لغتنا اليوم -والحق يقال- من يتجشّم السفر في أعماق الذات، ويكون الإبداع عنده رحلة حقيقية، رحلة يكتشف فيها دروباً جديدة وشواطئ غير مسكونة. السفر في الذات يجعل هذا المبدع يصطدم بحقيقة حجمه وبحدود قدرته، وعجزه أحياناً عن إدراك الأشياء أو عن إدراك العلامات التي تدل على الأشياء، والعلامات التي تدل عليها الأشياء حوار مستمر بيننا وبين اللغة التي نتكلم.

قد يكون هذا الكلام ضرباً من ضروب الحنين إلى الرومنسية الحالمة، إلى نافورة القلب الدافئة، ولكن هل عشنا فعلاً طور الرومنسية وجاوزناه حتى نحنّ إليه؟ لا أظن ذلك! لقد كان سفر كثير من المبدعين منا في الرومنسية وفي غيرها من تجارب الحياة الحديثة أحاديث نسمعها.. هنا وهناك.. كنا في كثير من التجارب الإبداعية نرى البحار صوراً وبطاقات بريدية، ونقرأ عن الجبال في القصائد الغنائية، في شعر الفخر والرثاء، لم نتسلق في حيّز مهم من هذه الكتابات الحزون والجبال، لم نصنع في كثير من السطور والكلمات السفين الذي يحملنا في البحر! نحن لا نرغب في السفر من خلال الكلمات لأنه يضعنا بين الحدود، بين تخوم الدلالات، يصيبنا الدوار ونحن ننتظر في المرافئ الصاخبة والمطارات المكتظة، يفقدنا الضياع في دروبها التمتع بتلك المركزية التي لا نريد التخلي عنها، هي مركزية أو محورية فيها من النرجسية ما فيها، ولكنها تنطوي على خوفنا من المجهول، خوفنا من أن نضيع في ذواتنا أو عنها! كثير منا يعلّق على صدره بطاقة يكتب عليها اسمه وعنوانه التقليدي والإلكتروني حتى لا يضيع، وإذا ضاع أرجع إلى بيته سليماً أن السفر في الذات يذكي فينا الرغبة في النظر إلى الأشياء من زوايا مختلفة ويحفزنا إلى الاستماع إلى أصوات متنوعة، يعودنا على الإحساس بالآخر وهو الطريق إلى الغيرية الحقيقية، لأننا في أغلب الأحيان في أشعارنا، في رواياتنا وسيرنا الذاتية نكتب دون أن نفكر كثيراً في الآخر فضلاً عن أننا لا نسمعه لأننا منشغلون بالتمتع بأصواتنا الرخامية الخارجية، ننتشي بأسلوبنا وننظر فيما نكتب كما ينظر المعجب بنفسه في صفحة الماء.

السفر إلى الذات يمنحنا الإحساس بالزمن لأن الحياة في باطن الذات تسير على توقيع صارم لا مجال فيه لإضاعة الوقت، الذات كيان يلفظ التلفيق والانتقاء المشوّه لحقائق الأشياء. إن السفر في الذات لا يحفل بالأشياء العامّة والألوان الناصعة بل يعشق التفاصيل والجزئيات، والألوان المتحوّلة التي لم توضع لها بعد أسماء، يحتفل بالرقائق التي طالما احتقرناها ودحرناها حتى قيل لنا إنها تصنع اليوم حياة إنسان هذا العصر، فهرعنا إليها نعيدها إلى قلب الحياة بعد إذ كانت على هامشها، فعادت عودة الطفولة الكونية إلى أحضان البدايات، عودة الطفولة التي تتشابه فيها جميع الألوان والأجناس، وتتساوى فيها مختلف الأصوات: الجهوري منها والرقيق، الرخيم منها والأجش، الطفولة التي تمحي في عينها البريئة كافة بوابات الحدود بين الأشياء. إن أنانية الطفل أنانية جميلة تصنع حواسه وأحاسيسه، تغذي عاطفته وعقله، تثري لغته بضروب الاستعارات والكنايات الجميلة التي تتحدى اللغة المعقولة، وتصنع العقل في آن، هذه الطفولة مباحة للمبدعين عموماً إذا دلت فعلاً على السفر في الذات ولم تكن تكريساً للغة النجومية المقيتة، أو لإرضاء أنانية ونرجسية يسميها صاحبها سيرة ذاتية! السفر في الذات يفتح مسالك التجريب الأصيل، التجريب غير المتوقع، هو سفر في اللغة أي في الإنسان وهو معاناة حقيقية للإبداع.

الرياض

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة