Culture Magazine Monday  12/01/2009 G Issue 266
فضاءات
الأثنين 15 ,محرم 1430   العدد  266
مداخلات لغوية
المعطوف على قول المعيوف
أبو أوس إبراهيم الشمسان

 

قرأت ما كتبه ابني الدكتور علي المعيوف في المجلة الثقافية العدد 265 الصادر في يوم الاثنين 8 محرم 1430هـ. وإني أشكره لمتابعته مداخلاتي وعنايته بها، وما قدمه من مقدمة تبين أن تلك المداخلات لا تختلف عن عمل أي نحوي له انفراد في الرأي أو خلاف في مسألة من مسائل النحو، وأن هذا غير مخل في اللغة نفسها، وهو أمر يلبس على كثيرين مع أنني بينته في غير موقع وبخاصة في منتدى الفصيح. وقد فرحت بمداخلة الدكتور علي وهو رجل تشرب كتاب سيبويه فقد قرأه كثيراً وكتب رسالتيه العلميتين: (المركب الاسمي) و(نظرية الموضع) انطلاقاً من نصوص الكتاب، وكنت أستفتيه من وقت إلى آخر في بعض نصوص الكتاب لما عرفته من خبرته به، نفع الله به العربية وأهلها إن شاء الله، ولكن هذا لا يمنعني من محاورته في ما كتب.

يحتج الدكتور في مداخلته (بأنَّ نحاة البصرة كانوا ينطلقون في تفسيراتهم النحوية للظواهر التركيبية في اللغة العربية من مبادئ نظرية التزموها فلَم يُخلُّوا بها، حتى صار التحليل النحويّ عندهم (صناعةً) مبنية على تلك المبادئ، فإعرابهم مبني على منهج علمي صرف، والحكم على ذلك الإعراب ب(التكلُّف غير المقبول) يُغفِلُ ذلك).

وهو احتجاج صحيح لو كنت وصفتهم بالتناقض، ولكني وصفت صنيعهم بالتكلف غير المقبول، ولا يكفي أن يضع الإنسان له مقدمات ويلتزمها في الإجراء ليستحق الوصف بالمنهجية العلمية، فإن تكن أحكام اللغة منتزعة من نصوصها فينبغي الاحتكام إلى تلك النصوص، والبصريون أوجبوا تأخر الفاعل عن الفعل انطلاقاً من كثير من النصوص وتركوا نصوصاً أخرى تقدم فيها الفاعل فسموه مبتدأ، ولما تقدم في مكان لا يسوغ وصفه بالابتداء عمدوا إلى التقدير، فالخلل ليس في التزامهم بالقاعدة بل الخلل في القاعدة نفسها التي أسست على استقراء لا يتصف بالشمول.

وقال: (أعرب (زيداً) فاعلاً في (إنّ زيداً انطلقَ)، ولا تحَفُّظَ لي على إعرابه هذا بناء على الاحتكام إلى المعنى وحدَه، وبناء على النظر إلى هذه الجملة وما شاكَلَها في صورتها التركيبية والعناصر المستعملة فيها؛ لكنَّ النظر إلى جملٍ أخرى استُعمِلَت فيها إنَّ وخبرُها جملةٌ فعليةٌ ورد فيها الفاعلُ ظاهراً بعد الفعل ومعَ ذلك يرِدُ في تلك الجملة اسمٌ لإنّ نحو قوله تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ (46) سورة الحج، وقوله تعالى: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) سورة المؤمنون، فإنّ هذه الجمل تُشيرُ إلى أنَّ اسمَ إنَّ وظيفة اسمية خاصة في تركيب جملتها تُملأُ بما يؤدي هذه الوظيفة وقد تبيَّنَ من نصوص العربية أنَّ هذه الوظيفة حكمها النصب، وأنَّ الفاعل كذلك وظيفة اسمية خاصة في تركيب جملته تُملأ بما يؤدي تلك الوظيفة وقد تبيّنَ من نصوص العربية أنّ هذه الوظيفة حكمها الرفع، وهاتان الوظيفتان تستويان في كون كل منهما وظيفة تركيبية في بناء جملتها تستدعي الملء، وتختلفان في الحكم الإعرابيّ.

فإن قبل الدكتور المعيوف الجملة الأولى فعليه أن يقبل الثانية لما سيتبين بعد، وأما قوله إن (اسم إنّ) وظيفة فهو موضع الخلاف؛ فما يسميه النحويون اسم (إنَّ) أسميه المبتدأ، وأما الحكم بالنصب فلا خلاف فيه، ولكن الخلاف الذي لم يفطن إليه الدكتور فهو في المبادئ والمسلمات، فكما أسلفت لست أسلم لهم بوجوب تأخر الفاعل عن فعله، ولست أسلم بارتباط الحركة بالوظيفة، بمعنى لست أرى وجوب رفع الفاعل في كل موضع، بل أراه يرفع متى تأخر عن فعله وكان لفظه قابلا للرفع، ومفاد هذا أنه قد يجر إن دخل عليه حرف جرّ (كفى بالله شهيداً) - (ما جاء من أحدٍ)، وقد ينصب إن دخل عليه حرف نصب (إنّ زيداً انطلق). وكذلك المبتدأ مرفوع في الأصل وقد يجر وقد ينصب بعد إنّ. وأفهم معنى الابتداء من حيث هو مسند إليه الخبر، ولا أفهم لاسم (إنّ) معنى، ولا يكفي نصب المبتدأ لتصير وظيفة أخرى، والموقع الذي يشير إليه الدكتور، وهو أعلم بذلك، هو موقع ابتداء؛ ف(إنّ) قد تدخل على جملة مؤلفة من مبتدأ وخبر كما في الجمل التي مثل بها، وهي أيضاً قد تدخل على جمل تقدم الفاعل منها، وما لم يتقدم الفاعل وجب الفصل بينهما بما الكافة مثل (إنما انطلق زيد).

وقال: (ويصعبُ الاعتمادُ على المعنى وحدَه في تحديد الوظيفة المشغولة في تركيب الجملة؛ فالاسمُ الذي يؤدي وظيفة الفاعل في تركيب الجملة الفعلية قد لا يكونُ فاعلاً في الحقيقة في جملٍ منها: انكسرَ الزجاجُ، ومات الرجلُ، ومع ذلك يُنظَرُ إلى الزجاج والرجل على أنهما فاعلان مع أنَّهما في المعنى لم يفعلا شيئاً، بل وقعَ الفعلُ بهما، لكنهما فاعلان من حيثُ الوظيفة التركيبية التي يؤديانها في تركيب جملتيهما. ومهما سُمي الضميرُ الواقعُ اسماً لإنّ في الآيتين الكريمتين السابقتين (ضمير القصة أو الشأن أو غير ذلك) فإنّ التسمية لا تُخرِجه عن كونه وقع اسماً لإنَّ (أي أدى هذه الوظيفة التركيبية في جملتها)).

وأقول يصعب أيضاً إهمال المعنى لأن النحويين يلحون على القول إن الإعراب فرع على المعنى, وأما أمثال الجمل التي احتج بها علي فقد أجاب عنها النحويون أنفسهم حين قالوا إن الفاعل قد يكون من أحدث الفعل أو اتصف بالحدث، فإن كان الإشكال في المعنى لا يخل بالفاعلية ولا يفسد له أمراً فالأولى أنّ اللفظ لا يفسد للفاعلية أمراً منذ كان اللفظ في خدمة المعنى وهو المعبر عنه، وأما قوله (وقع الفعل بهما) ففيه نظر، فإذا قلت (مات الرجل) فأنت تتحدث عن استجابة جسدية لهذه الحالة، مثل النوم والغفلة والشرود والتنفس، وأما (انكسر الزجاج) فهو مختلف عن (كسر) فالكسر هو الذي وقع في الزجاج لا الانكسار وهو فعل ما كان ليحدث لولا قابلية الزجاج لذلك. وبغض الطرف عن طبيعة الفاعل وعلاقته بإحداث الفعل أو الاتصاف به فإنه لا يحتج به إذ يظل (زيد) هو المحدث للفعل في (زيد جاء) أو (جاء زيد). ولا معنى للزعم بوجود زيد آخر فعل المجيء لتقدم زيد على الفعل.

ويقول: (وبناء على ذلك فإنّ مناقشة كون (زيداً) في (إنَّ زيداً انطلقَ) اسماً لإنّ أو فاعلاً ل(انطلق) يُرجَعُ به (في نظري) إلى أمورٍ أخرى في الصناعة النحوية، وعلى الرغم من أهمية المعنى في ذلك فإنه ليس المبدأ الوحيد الذي يُحتكَمُ إليه في مثل هذه الجمل عند نحاة البصرة على الأقل).

وأقول: هناك فرق بين أن يكون المعنى ليس المبدأ الوحيد وأن يستبعد، وأما الاحتجاج بالصناعة النحوية فمردود إذ علينا معالجة الصناعة لا إهدار المعنى، ولسنا متعبدين بأقوال البصريين ولا غيرهم.

ويقول: (وباب التنازع يُضيءُ لنا تعاملَ نحاة البصرة مع مثل الجملة التي يُناقشها أستاذي أبو أوس: (إنَّ زيداً انطلق)، وبه يتّضحُ أنَّ عمل نحاة البصرة في إعراب مثل هذه الجملة كان صناعةً نحويةً ذات منهجٍ لم يُخِلُّوا به على الرغم من إلمامهم بالمعنى المراد، إذ يقول سيبويه في صدر ما سُمّي بعده (باب التنازع): (قولك: ضربتُ وضَرَبَني زيدٌ، وضَرَبَني وضَرَبتُ زيداً، تحمِلُ الاسمَ على الفعل الذي يليه. فالعامِلُ في اللفظ أحدُ الفعلين، وأمَّا في المعنى فقد يُعلَمُ أنّ الأوّلَ وقَعَ إلا أنّه لا يُعمَلُ في اسمٍ واحدٍ نصبٌ ورفعٌ). (سيبويه، الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، 1: 73-74)).

وأقول: لا يضيء باب التنازع شيئاً فحين ننظر إلى الجملتين في النص المذكور نجد أن من عناصرها ما هو محذوف، اجتزاءً بالمذكور، فلا تنازع في الحقيقة؛ فالجملة الأولى (ضربتُ وضَرَبَني زيدٌ) هي في أصلها: ضربتُ زيداً وضربني زيد. وبسبب أن (زيداً) عنصر مكرر لفظه حذف من الجملة الأولى. وكان يمكن أن يحذف من الجملة الثانية (ضربتُ زيداً وضربني). وكذلك الجملة الثانية (ضَرَبَني وضَرَبتُ زيداً) فالأصل: ضربني زيد وضربت زيداً، فحذف (زيد) لوجود لفظه في الجملة الثانية. والتقدير: ضربني زيد وضربت زيداً. ويمكن القول: ضربني زيد وضربته - ضربني زيد وضربت. والمعنى أنه لا تنازع بل هما جملتان متعاطفتان فلما كان اللفظ الظاهر مشترك بينهما حذف أحدهما.

جده

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة