Culture Magazine Monday  12/01/2009 G Issue 266
سرد
الأثنين 15 ,محرم 1430   العدد  266
قصة قصيرة
نقطة البدء.. نقطة النهاية!
د. خالد محمد باطرفي

 

(أنا آسفة على كل لحظة ألم سببتها لك وسامحني على كل شيء. سواء بقصد أو بدون قصد مني. عشت معك أحلى أيام عمري، وإذا أردت أن اخرج من حياتك سوف أخرج بدون أي تردد.)

لم أشتك.. لن أشتكي.. فأنا يا سيدتي استحقك.

كنت خاليا.. مطمئنا في حياتي الخالية حتى من الملل. استيقظ على فنجان قهوة وتمرة وشيء من العسل. ثم قد أفطر وقد أكتفي بالبسكويت. أمضي إلى عملي قبل التاسعة، ولا يشغلني غير أن رئيسي ربما سبقني ولاحظ تأخري عن الدوام.

أفرح بالأشياء الصغيرة: أنني وصلت قبله. أن العم (حامد) جهز لي (النسكافيه بالحليب والعسل) وأحضر لي ساندوتش الحمص بالفول قبل العاشرة. أن بريدي الإلكتروني يحتوي على رسائل خفيفة دم من أعز الزملاء والأصدقاء، فآخذ من هذا وأرسل لذاك. إن شادي، صديق العمر، ترك لك رسالة أننا سنتغدى سويا بعد الصلاة، وأن الدور اليوم عليه!

أبحث عن الأشياء الصغيرة (المفرحة). أقرأ الصحف لأثقف نفسي و(أتفلسف) على الزملاء في (الدورية) المسائية كل سبت واثنين وجمعة. أبحث في (النت) عن معلومات جديدة وطريفة ومدهشة كي أوزعها على القوائم التي أشترك فيها. والأهم من ذلك أنني أنفذ مهام العمل بكل حماس و(ذمة). وكلما أنجزت عملا صغيرا أو كبيرا، فرحت به.

هكذا يمر نهاري، وعندما يأتي المساء أكون متعبا لا أرى إلا طريقي إلى البيت، فالسرير. أنام حتى المغرب. أصلي وأذهب للنادي بحثا عن تسلية أخرى تشغلني عن الوحدة و(الخلو).

أنام وأصحو.. وفي كل يوم هناك شيء جديد.. ولا جديد. حتى الجمعة. أنام وأصحو.. أصحو وأنام..

ثم.. جئت أنت.. وتغير في حياتي كل شيء.

لماذا يحب الناس؟ ولماذا يكررون المحاولة بعد كل فشل؟ هل الحب حاجة فطرية لا نستطيع العيش بدونها، أو (متعة) لا تطيب الحياة بدونها؟ أم حالة إدمان؟

هل كل الناس مثلي؟ أم أنني حالة (مختلفة)، (منحرفة)؟

عندما جئت يا ملاك كنت وحدي. كنت وسط كل الناس والأشياء والأحداث وحدي. أبحث عن حقيقة ذاتي. أفكك شخصيتي قطعة قطعة، أدرسها، أحللها، ثم أعيد جمعها من جديد. لم أدع يوما أنني فهمت نفسي. ولكنني حسبت أني فهمتك.

جئت يا ملاك إلى رجل وحيد، فحولته في لحظة تلاق إلى (جمع) و(حفل) ومشروع (أسرة). تلونت حياته فجأة، وكأنما انزاح الغيم لتطل شمس مشتاقة، تغسل المطر وتشعل حباته بألوان الطيف وأفراح الحياة.

تغير اليوم، وتغير كل يوم. أصبحت أسباب الفرح أكبر وأجمل. لم تعد تهم التفاصيل الصغيرة المفرحة. لم يعد يهم أن أجد فطوري أو لا أجده. بل لم يعد مهما أن أفطر أو يمر اليوم بلا طعام. لم أعد أحرص على حضور المناسبات واللقاءات الثقافية والاجتماعية. لم يعد أي موعد، أو مناسبة تهم. لا شيء يهم.. لا فرح ولا حزن. لا انتصار ولا فشل. لا موت ولا حياة.. أنت فحسب.. أنت، يا ملاك، فحسب.

هل يصح أن نحكم على تجربة بتجربة؟ هل يجوز أن نحاكم الحاضر بالماضي؟ أمن العدل أن نقيس اليوم بمسطرة الأمس؟ أن نحاسب الجديد بما فعل القديم؟

يطالب كل صبح بأن يكون وليدا. وكل يوم أن يكون جديدا. هل من حقه ذلك؟ أم أن الأحد ابن السبت، والخميس والد الجمعة؟ ألا تتوالد الأيام وتحمل جيناتها معها؟ ثم ماذا نفعل بالدروس؟ ألا نتعلم؟ ألا توعينا التجارب والدروس؟

كان صباحا كئيبا ذلك الصباح. اتصلت ملَك، وقالت: صباح الخير. سألت عن حالي. طمأنتني عن حالها. لم تقل لي لمَ طعنتني، ولم تعتذر عن الجريمة ولو بأسف لحالي بعدها. لم تفسر لي أي شيء، ولم تفدني بشيء. قالت: إلى اللقاء، ومضت.

كان كئيبا ذاك الصباح. بدأت أكتب. أضفت المزيد من الجروح إلى مفكرتي. أصبحت حكايتي معها مشروع رواية. أو أنها (الرواية).

اتصلت أكابر. مجرد زميلة. مجرد صوت لم أعرف له وجها. لا أعرف حتى إن كان هذا اسمها الحقيقي. لاحظت أن صوتي مثقل وحزين. سألتني عن السبب. لم أقاوم اللمسة، فقلت. قلت بعض شيء، ملخص كل شيء.

وطالت المكالمة. اختنقت بدمعي، فأنهيتها. ثم عدت لعملي. عدت لصبحي الكئيب. عدت لذكرياتي التي تخفق بي، فأخفق بها، وتضج بي فأضج حتى لا أكاد أعقل ما حولي، ولا أتذوق طعم الحياة.

رن جرس الهاتف من جديد. (أكابر) مرة أخرى. ماذا تريد؟ هذه المرة قدمتني لزميلتها في الجامعة. قالت إنها تريد أن تسألني عن مشروع أدبي لها.

ثم جاء صوت جميل. هطل كالغيث صوت جميل. مشدود في أول الأمر، لكنه كان لحنا مطربا عزف أوتارا بقلبي وأشغل أوتارا. مكالمة بعد أخرى. صباح بعد آخر. ليلة طويلة بعد أخرى. في البدء كان الحديث عن حكايتي مع ملَك. ثم تحول إلى حكايتي معها.

قديم، جديد هذا الشعور. أخرج من جرح إلى فرح، ومن فرح إلى جرح، إلى فرح جديد. أخاف من الفرح كما تخاف هي من السلالم. أخاف لأن كل فرح مضى انتهى بجرح. لما لا أغادر الأمل؟ ما الذي يدفعني إلى هذا التورط في كل مرة؟ ربما صوتها. ربما ضحكتها. ربما هدوؤها ومنطقها الجميل. وربما لأنها، لا كمن سبقها، تتكلم بجدية عن مشروع أسرة وحياة.

هل الناس صنو بعضهم؟ هل تبقى النساء نساء ويبقى الرجال رجالا؟ هل نحمل في كل جنس وبلد (متشابهات) تجمعنا؟ هل شخصية الإنسان بعض من بيئته؟ هل المرء مرآة من حوله؟ لماذا تختلف امرأة عن أخرى في نفس الظروف وتحت نفس المؤثرات والمغريات؟ أليست لها نفس القلب، والجسد، والاحتياج؟

إذن لماذا نتوقع أن نحظى بامرأة ليست ككل النساء؟ السنا رجال القبيلة أشباه بعض؟ كلنا يفتقد البرآة، فلما نفترضها فيمن نحب؟

(ملاك) مسحت على جرح (ملك)، حتى قبل أن التقيها. ثم رأيتها. التقينا في معرض كتاب، وسرت معها. وقفت معها. ناظرتها. قرأت عينيها. تأملت البراءة والنضارة والطفولة والشقاوة والأنوثة في الوجه الجميل. كدت من فرحي أطير. هل رضي عني الحب أخيرا؟

قابلتها مرة أخرى قبل أن أسافر في رحلة دراسية طويلة. تحدّت كل الظروف وجاءت. بقيت معي في المقهى نصف ساعة فقط، ثم اضطرت إلى الرحيل. عرفت قبل سفري أنها تعرضت لمساءلة أسرتها عن غيابها المفاجئ. كنت مستعدا أن أذهب إليهم لأخطبها في ذات المساء، لو طلبت، لو تطلّبت الظروف.

قابلتها مرة ثالثة بعد العودة. كان لقاء أجمل وأطول. سلمتها قلبي أمانة بعد أن وعدتني أن لا تجرحه، مهما انتهت بنا سفينة الحب، ورياح الأيام، ومهما كانت الظروف.

وفي المرة الرابعة، كاد الأمر يبلغ أهلها، فاستعددت مرة أخرى للتقدم. ثم انتهى الأمر على خير. قررنا بعدها أن نكتفي بالتواصل الهاتفي حتى تحسم أمرها في شأن الزواج.

لم يكن الأمر بالسهولة التي توقعتها. ربما كان علي أن أكون أكثر حكمة وتعقلا. هناك فوارق في السن والتجربة لم تكن تهمها في البداية، ثم بدأت تشغل بالها وتفرض عليها التأني. وربما كان هناك أكثر. تجربة قاسية مضت؟ لم تنته بعد؟ انتهت وتبقى في القلب منها ما تبقى؟ هل جست النبض مع أهلها ولم تجد عندهم قبولا؟ هل هناك خيارات أخرى؟

الواضح أنها لم تحسم أمرها بعد. عندي ستجد أمانا وحنانا وعشرة طيبة، لكن من يدري أين أنا في قلبها، ومن يشاركني المساحة؟

هل نستطيع أن نحب بنفس الحماس أكثر من حبيب؟ هل يجوز؟ هل من العدل؟

وإن عجزنا إلا أن نعدّد الأحباب، فهل نصارحهم بذلك؟ هل نعطيهم نفس الحق؟ وإذا كنا لا نقبل التعدد علينا، فهل من العدل أن نطالبهم بقبوله؟

عندما ذهب يقيني فيك يا ملاك.. ضعفت أمام ملك. عادت من جديد. عادت بقوة. عادت باعتذار وتفسير وتبرير. عادت تطلب قلبي وتمنحني قلبها.. ب(تحفظ). قالت ان المستقبل غير مضمون. انها تعرض حياة وليس أسرة. ربما، ربما تجمعنا الأيام برباطها المقدس. ربما تحلق بنا إلى الجزر المنسية لنركض فوق رمالها ونتقافز على سواحلها ونتلاقى بين هذا الركض وذاك القفز كلما تعبنا وكلما اشتاق لنا التلاقي. ربما تجمّعنا في عمل واحد وبيت واحد، وليال اتحاد.

عادت ملك وعدت. فارقت بيننا المسافة ولم نفترق. تواصلنا كل يوم وليلة. تواعدنا على كل حلم جميل.

غبت وقتها يا ملاك. تغيبين طويلا، ثم تطلين بمهاتفة قصيرة. شعرت أنك وجدت غيري. شعرت أنك اخترت سواي. أو ربما، لم تحسمين الخيار.

كنت بالنسبة لي الخيار الأفضل. الأضمن. الأهدأ، المريح. كنت بالنسبة لي خيارا تمنيت لو كان بيدي أن أختاره. ولكنكِ لم تدع لي حق الاختيار.

وجاء اليوم الذي اكتشفت فيه أن ملَك.. لم تكن ملَكا. وأني لم أكن حبها الوحيد. قررت أن انسحب من حياتها للمرة الثالثة والأخيرة. انطفئت شعلة الحب هذه المرة، وترمّدت، وقلت لها: كويتني حتى شفيت، بعض الجروح بلسم بعضها بعضا. وقلت: لم ينظر إليك أحد بحب وحنان كما نظرت إليك، لم يخفق لك مخلوق بوجد ولهفة وتحنان كما خفقت لك، لم يعطك رجل كل الثقة، كل الولاء، كل الإيمان، ولم يتسامح مع أخطائك ونزقك مثلي إنسان. ألم يكفك ذلك كله؟ أكنت بحاجة إلى مزيد من المتيمين والمعجبين؟ زحام قلبك يا ملَك، وأنا لا أطيق الزحام. وقلت: وداعا! عازم هذه المرة، ولم أقل كعادتي: (إلى لقاء جميل!).

هل للحب ضمير؟ لماذا نكذب ونخفي ونخون ونحن نحب؟ أليس الحب سمو ورقي وحضارة؟ أليس الحب صنو الجمال؟ كيف نوفق بين هذا وذاك؟ كيف نحلق في سماوات الحب ونغرق في وحل الخيانة؟ وكيف نعيش مع أنفسنا ونتعايش مع مشاعرنا ونحن نخادع؟ أم أن الحب قلب متقلب، والعقل أداة التسليم؟

وكأنما على موعد. وكأنما قصتي مع ملَك تتقاطع مع قصتي وملاك. لم يمض يوم على هذا القرار حتى اتصلت ملاكي. وكأنما لم تنقطع قصة وتبدأ أخرى فواصلنا من حيث انتهينا. عادت وعدت، ولكن.. ب(تحفظ).

تحفظت هي لأنها لم تعد تثق بي. لأنها تخاف من بقيّة ملَك. ولأنها لا تضمن أن أكون مجرد (تعددي) كأكثر الرجال. وتحفظت أنا لأني لم أجد على أسئلتي المعلّقة إجابة شافية: هل هناك خيارات؟ هل هناك حكايات؟ هل سيعيد التاريخ نفسه، وأجد نفسي مجرد اسم على قائمة . وأني لكليهما قرار لم يحسم، وحبيب بين أحباب، لست حتى أولهم ولا أقربهم؟

تقابلنا مرة بعد أخرى في بيئة عمل آمنة. أعاد التاريخ نفسه فزاملت ملاك كما زاملت ملَك. تعارفنا أكثر. تقاربنا أكثر فأكثر. تعلقت بها، ولعلها تعلقت بي.

حاولت ب(الشفافية) المطلقة أن أقدم إجابة شافية لكل سؤال يشغلها عني، وأن أزيل بذلك كل تحفظ. ولكنني بدلا من أن أحسم أسئلتي حولها، فوجئت بالإجابة. لا يهمني الماضي الذي سبق، لا يهمني الحاضر الذي استبق. كل ما يهمني أن أعرف أني منذ آخر اتفاق ومصارحة وحيد قلبها. وأن عقلها وهاتفها لا يشغلهما أول النهار وآخر الليل سواي.

ربما كنت أحلم. ربما كنت أحتاج إلى إيمان جديد بنفسي وبالحب وبالنساء. لكنني كنت أحسب أنني وجدتها. وأنني كسبتها. وأني وإياها (الرواية).

كنت.. حتى قرأت صدفة (الرسالة). رسالة جديدة له (ذلك الآخر المجهول الذي يزاحمني على قلبها). هل أقول خسارة؟

(أنا آسفة على كل لحظة ألم سببتها لك وسامحني على كل شي. سواء بقصد أو بدون قصد مني. عشت معك أحلى أيام عمري، وإذا أردت أن اخرج من حياتك سوف أخرج بدون أي تردد).

هل تميل المرأة إلى من يعذبها؟ هل تعشق من يلاوعها؟ هل تركض وراء من يتعالى عليها ويهجرها؟ ثم إذا تعبت من الركض واللوعة رجعت إلى حضن من تأمن أنه لن يجرحها، لتستعيد ثقتها بنفسها، وتسترد شيئا من كرامتها وأمانها واطمئنانها. حتى إذا لوّح لها الهاجر من بعيد بأمل ورضا عادت إليه من جديد؟

وما الحل؟ أن نرفض عودة الحبيب مرة بعد مرة؟ أن نحرمه فرصة التوبة؟ وبعد أية مرة؟ أم أن نهجر ونقسو، نأخذ القلوب ولا نمنحها، فتلاحقنا هي بدلا من أن نشقى في ملاحقتها؟

ومتى نتوب من حب لا يتوب ولا يكف عن تعذيبنا وتمزيقنا بين أمل بعيد وخيبة أمل كل مشرق فجر جديد، وجرح بكل عيد؟

وأيهما أهون لعاشق خسر حبه؟ أن يكتفي بفتات التواصل أو يغادر؟

فواصل:

* أحيانا تكتشف أنك لا تعرف من كنت تعرف، فتحتار هل تنكره أم تتعرف عليه من جديد.

* ما أوجع أن تخسر فضاء كنت تملأه، وقلبا كان يملؤك، وحبا تنحر الدنيا فداه.

* أكاد أسامحك وأندم من جديد. متى تعلمني الدروس؟ أم أنه قدري معك، أن تقتلني جروحك ويحييني ابتسامك؟

* ويل لقلب يخفق لمن ليس له فيه نصيب. إن واصل خفقه احترق، وأن توقف مات. لا ناره تحتمل، ولا في رماده حياة.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة