Culture Magazine Thursday  14/05/2009 G Issue 283
فضاءات
الخميس 19 ,جمادى الاولى 1430   العدد  283
الاستشراق وما تُخفي النوايا
حصة البادي

 

حين سمعتُ كلمةَ استشراق أول مرة كنتُ أنظرُ لمخلوقها المبجل (المستشرق) بإعجابٍ ظنا مني أنه يؤدي عملا جليلا دافعُه الحب، لكن هذه الكلمة مثلها مثل مصطلحاتٍ كثيرة تغيرت مفاهيمها عندي، ولكم وددتُ اليومَ لو أني أجد ما أُعجب به ضمن مفهوم الاستشراق إلا فيما ندر.

ضمن دراستي في المملكة المتحدة وضمن كثيرٍ من الأنشطة الثقافية المعنونة ب(الاستشراق) وكل ما يتصل به من دراسات تعنى ب(الشرق الأوسط) وجدت نفسي في مواجهةٍ شبه يومية مع أنشطةٍ استشراقية أغلبُها لا يتعدى السطح في منهجيته وجدواه الأكاديمية لكنه يتعدى أضعاف ذلك في جدوى أخرى تختبئ بين ضلوع هذا المستشرق أو ذاك.

وهنا لا بد من الإشارة إلى الدهشة التي تلقيها أوراقُ المستشرقين في صدورِ الشرقيين إذ إنهم يعيدون اكتشافَ أنفسِهم عبر الآخر، والحق أقول إن هذا حاصل لكن هذا التلقي بدهشته يذهب إلى طريقين؛ الأول -وهو الغالبُ للأسف- تلقي أولئك الذين يظنون أنهم أخطئوا تقديرَ الغرب ولم يحسنوا النظر لما يُقدّم المستشرقون من خدماتٍ جليلةٍ إلى الشرق عبر دراسات متصلة لا تكلُّ ولا تملُّ من أجل بناءِ جسورٍ للتواصل، والثاني تلقي يتضمن دهشة أيضا لكنه يؤدي إلى بحث هذا المتلقي في تاريخه وفي طبيعة شرقه ليصل إلى نتيجة مفادُها أن أغلبَ المستشرقين بريءٌ من حبِّ الشرق كبراءةِ الذئب من دم ابن يعقوب إلا حين يصير الحب وسيلةً لغاية استعمارية أو أغراض أُخرى ما خَفِيَ منها أعظم.

بعضُ المواقف اليومية أعرضها في هذا المقام ليستنير بها الكل ويفكر بها البعض فقط لنجرب أن ننظر بهدوء لكل تلك الجهود المبذولة منذ مئات السنين وحتى الوقت الراهن وأغلبها بتمويل مباشر من شرقيين يحاولون التخلص من إحدى عقدتين: الشعور بالذنب لطول ظلم المستشرقين ظنا بأنهم مغرضون والتكفير عن الظلم السابق بدلال مفرط حاليا.

والثانية: ردم الهوة بين الشرق والغرب، والحق أقول إننا نردم الهوة حد السماح للآخر الذي نعتذر له بإلغاء كل هويتنا وصياغة هوية جديدة على وفق مقاييس عالمية.

نأتي لمشاهد تبقى في الذهن لتقرع آلاف الأجراس:

ببراءة الشرقي القادم للتثاقف مع حضارات العالم وبفخر لا يخفى كون ثقافتنا الشرقية صارت مطمحا للكثير وصارت حلقة نقاش دورية في المحافل العالمية حسبت أنني سأجد نظرة شمولية لثقافتنا تنظر لحضارة عمرها عشرات القرون للتعرف على أسرار القوة والضعف في هذه الحضارة التي لم يبق منها سوى كان وبعض أخواتها هنا وهناك، لكن ما فاجأني خلال متابعات مستمرة -حتى لا يظن بأني ممن يحكمون من موقف واحد- أن الاهتمام يتركز حول إستراتيجية المنطقة في موقعها ومواردها التي يرى كثير من المستشرقين أنها وضعت في غير محلها لذلك سيتبرع كثير لمساعدتنا على استيعابها.

هنا سألت وما زلت حتى اللحظة أسأل عن السر في تهميش إسهامات الشرق الحضارية والثقافية، على سبيل المثال لا الحصر في مجال الأدب إذ عجزت وأنا أبحث بين اهتماماتهم عن أوراق تعنى بالأدب العربي إلا فيما ندر بعد توسلنا وتراجمنا التي نقدمها وهنا لا ألومهم لأننا نساعد على هذا النوع من التهميش، وبطبيعة الحال لن يبحث مستشرق إلا عما يخدم عمله.

حالات مررت بها شخصيا كثيرا وكثيرا هنا تعني الكثرة.

وهنا لا ينبغي النظر إلى تقديم الكثير من الأوراق حول (الإسلام والإرهاب) (الإسلام والتطرف) (الإسلام والعنف) الإسلام والآخر (بسلبية إذ إن بعض الأوراق تقدم أفكاراً جيدة محاولة إثبات أن الإسلام دين غير دموي لكن السؤال المنطقي هنا هو:

لماذا نحن تحديدا (أقصد المسلمين) مطالبون دائما بشروحات من هذا القبيل نثبت من خلالها طيبتنا وتقبلنا للآخر؟

وفي هذا السياق يتبرع مستشرق أو أكثر بشرح آيات قرآنية -يراها علماء الفقه واللغة الشرقيون معجزة في لغتها العالية وفي بيانها وحتى في تفسيرها- ليثبت نظرته التي تثبت أو تنفي عن الإسلام صفة التطرف والإرهاب، مع العلم أن هذا المستشرق بعدما بلغ من العلم ما بلغ لا يحسن قراءة ثلاث جمل بالعربية المعاصرة المتداولة، مع هذا كل الشكر والامتنان له لأنه أضاء لنا في ديننا ما لم نر من قبل إذ إننا تعودنا على تقبل الآخر مهما كان نفعيا أو سطحيا أكثر من الأنا حتى لا نرمى بالتخلف والانغلاق وعدم قبول الآخر.

توجيه كثير من الأبحاث الأكاديمية لدراسة الشرق الأوسط وفهم أسراره -ليس حبا في سواد عينيه- لبلوغ سحر الشرق الذي لم يعد متمثلا في حريم القصور وخبايا الترف الشرقي بل في همزاتِ الوصل في خريطة الشرق الأوسط والسيطرة عليها، والحق أقول إني معجبة بتواصل جهود هؤلاء وتنظيم خططهم وطول ترقب تنفيذها عبر وسائل شتى يعرفُها كثيرٌ ممن تداخلَ مع الأبحاثِ الأكاديمية في الشرق الأوسط.

توجيه كثير من أبحاث أكاديمية أخرى لأهداف مغرضة بغية النيل من العرب عبر آخر معاقلهم وهو الدين، خذ على س بيل المثال المتكرر:

طلاب أوروبيون في مؤسسات تعليمية في أوروبا يسعون بتوجيه من مشرفين أكاديميين إسرائيليين عنصريين وبتمويل منهم للنيل من الإسلام بأبحاث ظاهرها البحث وباطنها إثبات سلبية الإسلام بوصفه دينا في عمومية لا يقبلها منطق فضلا عن منهج علمي، وعلى سبيل الاستشهاد فلنأخذ (الإسلام والنازية، دراسة مقارنة).

هنا لا بد من أن نثير سؤالا منطقيا أولا حول منهجية المقابلة بين دين سماوي شامل لكثير من جوانب الحياة وبين حركة طائفية هدفها إبادة أجناس أخرى والقول بفوقية أتباع هذه الحركة على غيرها، لو جاز هكذا منطق لكان الأولى أن تكون المقابلة بين الإسرائيلية والنازية، لا أفعل مثلهم فأقول اليهودية لأن من اليهود من أثبت أنه أعدل من كثير من العرب المسلمين في رفضه للمجازر والتصفيات الجماعية، ثم لإيماني بأن الأديان السماوية كلها نادت بالمحبة والسلام. لكم هنا تَخيُّل أن مِنْ هؤلاء مَن يقضي عمرا بأكمله ليصل لكتابة بحث ينال به من الإسلام ليجد فرصة للعمل في الشرق الأوسط المتضمن إسرائيل- رغما عن أنوفنا- لأن ينبغي أن يتحمل الشرق مخلفات النازية حين تصير من مخلفاتها إسرائيل.

أما الأبحاث الاجتماعية وحقوق الإنسان والمرأة فهي مسألة أخرى إذ تنشغل أوروبا بأكملها بأزمة عدم السماح للمرأة بقيادة السيارة. أو العمل لمدة عقود فقط للتفكر والتأمل في حال المرأة الشرقية المسكينة (المجبرة) -حسب يقين لا يقبل الشك لديهم- على تغطية رأسها.

هنا لا يخلو الأمر من طرافة حين يقبل المُتعولمُ كلَّ أنواع الاختلاف مع الثقافات الأخرى -زعما لعمر أبيك ليس بمزعم- ويعجز عن تقبلِ شكل المرأة الشرقية بالحجاب ولا ينظر إليها إلا نظرة المشفق على ضحية هي التخلف عينه، فلا ولن يسعى أحدهم لحوار ليعرف أن تلك الشرقية (المقهورة) ربما تشعر بشفقة مُضاعفة على ثلاثةِ أرباع - إن لم يكن أكثر من ذلك - مراهقات أوروبا اللواتي تملأ الحلقات أجسادهن ويُعملن الوشم في كل بقعة جلد بغية إثبات تقبل الاختلاف ليقعن في مصيدة (الاختلاف وتقبل الآخر).

قِس على هذه السطحية كثيرا حين يُلخِّصُ الغربُ الشرقَ في صورةٍ لجمل وراقصة شرقية. هنا لا أكثر من أن نصفّقَ لاستشراق من هذا القبيل حامدين الله على أن سخّر لنا من إخواننا المستشرقين من يعيننا على معرفة هويتنا الحقيقية عبر رموز هي نحن لا محالة.

وإن كان لا بد من وضعِ ختامٍ لهذه المقالة فإنني أختمها بتساؤل حول مصطلحات (الشرق الأوسط) (الشرق الأدنى) (العالم الثالث) و(الدول النامية) ومدى عولمة هذه المصطلحات ومدى عدلها في المساواة بين الثقافات والشعوب؟ وتساؤلٍ آخر عن كم التنازلات التي ينبغي أن يقدمها (الشرق) لتتم ترقيته ربما لرتبة عالم ثان أو لدول تجاوزت النمو أو ربما لنصير شرقا أعلى؟!

لا يَخْفَى على عاقلٍ أننا بكل براءة المتعولم نتداول ونتحاور بمصطلحات استعمارية أُطلقت علينا ذاتَ هزيمةٍ وما زلنا نَعلِكُها حتى ننالَ بُغيتَنا وهي قبول الآخر لنا ضمن قريتنا الصغيرة التي هي العالم لنصير عالما حتى ولو كان سابعا إن أرادوا.

أكاديمية وشاعرة عمانية- إكستر -بريطانيا

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة