Culture Magazine Monday  16/02/2009 G Issue 271
فضاءات
الأثنين 21 ,صفر 1430   العدد  271
الغياب
داخل دوائر الحصار
في (غايب) لبتول الخضيري 2-3
لمياء باعشن

 

في ظل هذا الفيضان من الموت تسهل الاستهانة بقيمة الحياة الإنسانية، وتظهر حادثة قتل التجار الذين اتهموا بتخريب اقتصاد البلد دليلا بارزاً على العبث بحياة لا قيمة لها إذ يصدر عفو عام متأخر بحقهم بعد إعدامهم.61

إن أعداد الموتى وكثرة الحوادث التي تودي بحياتهم بشكل متواتر تحول الأمر كله إلى عبثية سوداوية تصل ذروتها في حالة الرجل الذي مات مختنقاً بعلكة وهو يضحك. هذه الحالة يوازيها حالة موت ضاحكة أخرى يرويها العم سامي قائلاً: (قصف الجنود بقنابل عنقودية ساعات من مفرمة بشرية. في الصباح، تحولت مساحات كبيرة في الجنوب إلى ساحات خردة تتناثر فيها سيارات مدنية وعسكرية. دمرت، تفجرت وتحولت إلى كتل متشابكة من خيوط حديد. بعض السائقين احترقوا في أماكنهم. تفحّم أحدهم.. ولم يبق منه غير طقم أسنانه المبتسم للكاميرا..) 94.

هذا الأسلوب الساخر في معالجة الواقع المرير يظهر براعة بتول الخضيري في مزج الفكاهة بالمأساة فتصل بروايتها إلى مصاف الكوميديا السوداء، كوميديا (شر البلية ما يضحك). وعندما تتكثف الوحشية في هذه الأجواء المقابرية المروعة يصبح الموت نكتة سخيفة، وحين ينقض على أصدقائها الصغار تتلاعب دلال في التبليغ به وكأنه رجع قنابل صغيرة قائلة: (ياسر.. بم.. نادر... بم..) 53 ! هكذا تقلل الراوية من قيمة الموت التي أرخصتها عاديته ومن بشاعة آليته الحربية فتنقل على لسان زوج خالتها صراخه من الحمام معلناً هجوماً قادماً وكأنها غارة من طائرات حربية سوف تقوم بالقصف، ولكنه كان يسخر ويعلن فقط (هجوووووم) 59 مكثف لنوبة أخرى من قشور رأسه. هذه هي الراوية دلال التي تشرح لنا معنى اسمها كالتالي: (هي كلمة قديمة تصف العبث في الحب) 235. لكن العبث الدلالي ينهار حين يتكاثر الموت بشكل مريع حتى يطفح فوق سطح الأرض، وأمام أكوام الجثث المشوهة التي فاضت على طاقات ثلاجات المستشفيات فتناثرت في كل مكان على ساحة التنس ارتعدت أطراف دلال وتجمدت وغابت عن وعيها 241.

ليس بالإمكان لمن هو خارج دوائر الحصار تصور تلك القدرة التي تدفع بالناس ليستمروا في حياة تتقاطع مع الموت عند كل زاوية. صحيح أن النص يحكي عن أناس دفع بهم اليأس والاكتئاب إلى الانتحار، وعن أناس آخرين صعقتهم الصدمات فلم تستوعبها عقولهم مثل بدرية 220، أو اختلت من وقعها عقولهم مثل نساء حادثة العامرية 41، أو يعيشون على إثرها بعيون مطفأة كالآلات المفرغة من كل إحساس مثل أم غايب بعد القبض على زوجها 260. لكن الأغلبية الساحقة من البشر تظل تتحرك في سكون على الرغم من نزول الصدمات على نفوسهم كالقذيفة تفجر ما بداخلها وتتركها خاوية مثل تمثال شهر زاد في الميدان، قشرتها الخارجية صلبة.. برونز من الخارج ومجوفة من الداخل .. هيكلا مليئاً بالفراغ.. 100 حتى دلال يصيبها هذا التبلد الذي يحيلها إلى قطعة من الثلج حين تكتشف الخديعة الكبرى التي كانت هي ومن حولها ضحيتها. بعد أن يفتضح أمر سعد وتجسسه على العمارة يأتيها معتذراً ويسألها عن حالها، فترد: (توقف الزمن لدي.. لا أشعر بشيء) 254.

ويبقى التلهي عن المصائب 102 هو المهرب الأمثل للمحاصرين حتى وإن لم يضمن لهم الأمان، فحين يصبح ثقل اللحظة فوق الاحتمال، يلهي أبو غايب نفسه بالنظر إلى لوحاته: (أغوص في كل لوحة لأنسى. أتفهمين؟ لأنسى). 13 وتسهل (الوسادة حلالة المشكلات..) 156 لكثير من الناس الهروب من مواجهة المآسي، لكن دلال تفرض على نفسها التناسي بإرادة وتعمد: (كان علي أن أتناسى مصيبتي) 88. وهي تلهي نفسها أحياناً (بمساحات الضوء تمسح الجدار بين فترة وأخرى مع مرور السيارات). 59، وأحياناً أخرى (بعدّ أعمدة الإضاءة الكهربائية المصطفة .. في الشارع) 65. كل من حول دلال يحمل لها مشروع تلهية، فأبو غايب ينصحها أن تلهي نفسها بالرسم؟ 57، وتريدها إلهام أن تتلهى بدراسة اللغات، وينصحها العم سامي بشغل وقتها بتعلم التصوير، حتى تصرخ ذات يوم متبرمة: (مللت محاولات أهل العمارة، كل يرغب في أن يعلمني مهنته). 96

مشروعات التلهي هي أكثر من محاولات للتأقلم مع الظروف الصعبة، ففي جوهرها يكمن النبض الغريزي للبقاء على قيد الحياة. حين يعجز العقل عن احتواء حجم المأساة يميل إلى البحث عن بديل يمكن احتواءه ويفتح كوة أمل توحي ولو وهماً بأن الوضع ما زال تحت السيطرة ويمكن التعامل معه. مشروعات التلهي هي مشروعات واهمة دافعها الرغبة ليس فقط في تخدير الشعور وتبليده في أوقات حالكة، ولكن تدفعه بنفس القوة الرغبة الدفينة في محاصرة النوائب التي تتوالد بشكل عشوائي. لا شيء يمكن أن يعبر عن تناثر هذه النوائب في كل زاوية من النص مثل قشور أبو غايب البيض الرقيقة التي تتبعثر في أرجاء الشقة وتكنسها الخالة مرات ومرات لتعود وتتطاير في كل أرجاء الغرف.. 55. وتصبح مشكلة القشور المتناثرة هاجساً للنص يهيئ له مشروع احتواء ينخرط فيه أبو غايب الذي (أصابه هوس إيجاد أسباب الداء) 21 علّه يهتدي إلى علاج يمكنه من السيطرة على فوضى هطول القشور.

ويصيب أم غايب هوس من نوع آخر ناتج عن خوفها من اختفاء الأزارير من السوق مما قد يؤثر على عملها كخياطة، ولكي تشعر بالأمان تسلح نفسها بالانخراط في مشروع جمع الأزارير حتى أصبحت تملك عدداً هائلاً من الأزارير البلاستيكية والخشبية والمعدنية، كما ولديها مجموعة غريبة من أزرار العاج وأخرى من فلين مضغوط. وتظهر رغبتها في احتواء البعثرة في حرصها على حفظ الأزارير في علب بلاستيكية شفافة مربعة، تخضعها لعملية تصنيف دقيقة وتكتب على كل علبة اسم محتوياتها. وأحياناً (تكتب على العلبة نوع الزر: دمعات، دوائر، مكعبات، قصبات. أو تكتب بخط واضح الزر المناسب للاحتفال المناسب: أعراس، تخرج، عزاء..) 30 وتتراكم العلب البلاستيكية بشكل غير طبيعي حتى أن الدولاب الذي كان مخزناً للأغذية يدعى (قبّة الكفل أصبح اليوم بيت الأزرار) 86.

ومن المفارقات الطريفة في النص أن تتصاعد المناكدات المنزلية بين أم غايب وزوجها بسبب الضيق الذي يسببه كل منهما للآخر باندماجه في ممارسة مهمة الجمع والتكديس إلى حد الإغراق، وحين يعترض أبو غايب على تكوم مواد الخياطة في المنزل قائلاً: (غرقنا في الخرز والبلك والخيوط، ترد عليه زوجته بحدة: أحسن من قشورك المقرفة.. 31. وتزداد المهاترات بينهما ولا تخرج عن إطار النزاع حول الإفراط في الجمع والتكديس حتى أن دلال تصف خصامهما قائلة: (خالتي وزوجها ما يزالان يتبادلان أزراراً وقشوراً بغضب) 32.

ويبدو أن أبو غايب شخصية اختصها النص بمشروعي تلهية آخرين يوهم نفسه من خلالهما أنه ممسك بزمام الأمور، فتعلقه الشغوف باللوحات المكدسة على جدران الغرف يخرج عن طور حبه للفن واستمتاعه بالنظر إلى الرسومات. يقتني أبو غايب هذه اللوحات بأعداد مبالغ فيها حتى ازدحمت بها غرف وممر الشقة وكأنه يحاول احتواء الفن بأكمله حتى يقوم بتصنيفه ومحاصرته في زوايا خاصة على الجدار، حيث يضع كل لوحة (في عشها الملائم) 38.

أما المشروع الثاني الذي يندفع أبو غايب نحوه بإلحاح واستغراق فهو شراء سلالة من النحل يربيها ليعيش من نحلها، لكن النحّال يتحول إلى موسوعة ضخمة تنضح بالمعلومات الدقيقة عن النحل الأصفر والرمادي والأسود وسلالة النحل الكرنيولي وبيضه ويرقاته وأقراص العسل وملكته والنحل الخامل، وعن حبوب اللقاح ونسبة السكر في الزهرة وطبائع النحل وعاداته وحساسية النحل للروائح وأنواع الملابس والمواسم وأسباب تهيج النحل وهدوئه. كل هذه التفاصيل الصغيرة يفضي بها لدلال التي تصبح معاونة له في التلهي قائلاً: (يا دلال دعيني أكلمك عن حياة الطائفة التي تنقسم إلى الملكة والذكر والشغالة وتحيا على أساس توزيع العمل بين أفرادها.. الشغالة لها خرطوم لجمع حبوب اللقاح في أرجلها الخلفية 82.

يشغل النص فضاءاته بمشروعات تلهية أخرى تتورط في أحدها أم مازن التي تفتح الفنجان وتقرأ الكف وتبطل السحر وتحفظ أسرار النساء، لكنها تنكفئ على تصنيف وتنظيم موادها العشبية بدافع قسري لا يقاوم. وصفاتها العلاجية العجيبة الغريبة 130 عبارة عن خلطات تدخل في تركيبها مواد لا حصر لها: عناقيد عين القط وألياف المركدوش وزكزوكة العصفور والحشيشة المقدسة وبابونج الجبل وحب القرع وعشب الكراث، وبذور أخرى وجذور وعيدان وأوراق غامقة وفاتحة بلورية وطينية. ومثل ما تفعل أم غايب لتنظيم واحتواء أزاريرها، فإن أم مازن تلجأ أيضاً إلى فرز أعشابها ووضعها (في أوعية تختلف في الشكل والحجم ونوع الغطاء لتميزها عن بعضها، ويعلو بعض الأوعية لون أو رمز لتستدل عليه) 138 .

وتظهر في النص حالة أخرى من هوس التكديس والجمع عند أم حسن التي تسرق منافض السجائر وتضيفها إلى أكبر مجموعة منافض مسروقة.. 157، فتلقي الضوء بقوة على مرض عصاب الوسواس القهري الذي قد يفسر انغماس النص في التفاصيل الصغيرة الكثيرة، هو المرض المخبوء في دوران أبو غايب حول قشوره ولوحاته ونحله، والمحرك لرغبة أم غايب المفرطة في تخزين الأزارير، والدافع وراء انسجام أم مازن في تعليب وتصنيف أعشابها. هذا الوصف الدقيق المذهل يكشف عن احتياج المحاصرين إلى موازنة الأمور وفرض نظام ما عليها للتمكن من فهمها والتعامل معها. تنظيم الأشياء المبعثرة ولملمتها هو مشروع تلهي يعمل كمتنفس وهمي ومهرب من الفوضى العارمة والعبث المحيط بحياة بشر تنخرهم أزمات العيش وتخنق آمالهم.

هذه الفوضى الجهنمية تستدعي الخطة البوشية لتأسيس شرق أوسط جديد يقوم على نظام سمّته كونداليزا رايس (الفوضى الخلاقة Order Out of Chaos)، وكأن كل أساليب العنف والتعذيب والتجهيل والتدمير التي يعاني منها العراق قد اكتسبت مشروعية كونها خطوات ضرورية لبعث جديد، وكأن الحياة يجب أن يسبقها الموت. وترافق هذه الفوضى العارمة رغبة عارمة في فرض النظام على فلتانها، وتظهر هذه الرغبة في شكل أعراض الهوس القهري الذي يدفع إلى ترتيب الأشياء ترتيباً دقيقاً لاحتوائها وإحكام السيطرة عليها. يجد أبو غايب والخالة وأم مازن وأم حسن في مشروعات التلهي مهرباً وعزاء، بل ومخدراً مفروضاً لتضليل الذات عن أفعال العنف والخديعة في عالم يبدو عشوائيا واتفاقياً، عالم لا يكترث في جميع الأحوال لهموم الإنسان وأعبائه التي تتراكم بلا ترتيب ولا معنى أو قيمة. من خلال حركات هوسية صغيرة يعتقد شخوص رواية (غايب) أنهم يرتبون الفوضى، يمارسون التجميع والتكديس في قلق كما لو كانوا يحيطون أنفسهم بنقاط استناد، كما لو كانوا يلبون حاجة حيوية إلى التوازن، إنه الدفاع الفطري ضد السقوط.

وتستمر منظومة التكديس والفرز والتصنيف حتى نهاية النص حيث تقف دلال أمام الحاويات كعاملة في ورشة لفرز النفايات حسب نوعها: البلاستيك والزجاج والحديد والأقمشة والخشب، وهكذا.. كل في حاوية، ثم ترتب أكداس الصحف القديمة وتربطها في رزم. لكن (انصهار) دلال في عملها لا يشكل إدماناً عصبياً تحارب به مخاوفاً أو تهرب به من مواجهات، فقد كان الواقع صارخاً من حولها وكان وعيها به كاملاً، لذلك فقد حرصت على أن تصف عملها بأنه نشاط (عضلي تمارسه مثل آلة لا تفكر)، نشاط يتعبها ويزعجها، لكنه يضمن لها لقمة العيش.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة

 lamiabaeshen@gmail.com


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة