Culture Magazine Thursday  02/12/2010 G Issue 323
فضاءات
الخميس 26 ,ذو الحجة 1431   العدد  323
 
رسالة الغفران وفصل الدين عن الأدب
منصور بن عبدالله المشوح

دعونا نتحدث عن كتابٍ لم تتم ملاحقته، ولم يخضع على مر التاريخ للرقابة، علماً بأن ذلك الكتاب لا يقل خطورةً عن غيره من الكتب المحظورة، إنه سِفرٌ كُتِب بلغة أدبية مبهرة وساحرةِ، ذلك هو كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري (ت 449هـ).

يعتبر أبو العلاء أحد أبرز الأدباء المتهمين في دينهم، وهو ممن رمي بالزندقة والكفر، ولا يزال موضوع كفره وإلحاده مثار جدلٍ ونزاعٍ لدى الباحثين العرب، وسيبقى فيهم هذا النزاع وهذا الجدل ما داموا منشغلين بالقضايا الشخصية عن القضايا الفكرية.

نحن في الحقيقة أمام كتابٍ أحبه الناس، وأمام كاتبٍ أبغضه الناس، وكأن الكاتب المعري وكتابه الغفران يمثلان تناقضاً مذهلاً يفرضان علينا التأمل والنظر.

فمع التهميش الكبير والتكفير الذي لحق بالمؤلّف, إلا أن المجتمع المسلم والعربي كان ولا يزال يرحب بأحد أخطر مؤلفاته، إنه تناقض مذهلٌ حقاً، ولست أعرف سبباً لذلك التناقض إلا سبباً واحداً، وهو أن العرب والمسلمين كانوا يفصلون الدين عن الأدب، من دون أن يعوا ذلك، حيث كانوا يتعاملون مع تلك الرسالة وغيرها من الكتب الأدبية بوصفها نصاً أدبياً، وليست نصاً فكرياً، أو روحاً دينية.

الزخرفة اللفظية سبب فصل الدين عن الأدب:

لقد انشغل العرب منذ مطلع القرن الرابع الهجري باللفظ على حساب المعنى، حيث كان يعجبهم الأديب الذي يمدهم بالزخارف والزركشات اللفظية، ولا يعجبهم الأديب العميق الذي يمدهم بالمعاني والأفكار والرؤى.

يقول شوقي ضيف واصفاً تلك الحالة كما ينقل عنه علي الوردي: «إن الإنسان ليخيل إليه كأنما تحولت صناعة النثر في تلك العصور عن طبيعتها الأولى تحولاً تاماً؛ إذ أصبحت أشبه ما تكون بصناعة أدوات الترف والزينة، فهي تحفٌ تنمق في أروع صورة للتنميق وكل كاتب يتوافر على إحداث هذه التحف توافراً يتيح له أن يشارك في آياتها وبدائعها، وإنه ليعنت نفسه في سبيل ذلك إعناتاً شديداً».

من خلال هذا يتضح لنا أن العرب منذ القرن الرابع لم يكونوا يبالون بالمحتوى الفكري ولا يعيرونه اهتمامهم؛ فسواء عندهم أكان ما يقال حقاً أم كان باطلاً، أكان خيراً أم شراً، أكان موعظةً أم أغنيةً، أكان شعوذةً أم ابتهالاً. المهم أن تطربهم تلك الصور البلاغية، وأن يتمايلوا عند سماعها. وعليه فإن السبب الذي جعل العرب يفصلون الدين عن الأدب هو في الحقيقة انشغالهم بالزخرفة اللفظية عن المعنى.

الرقابة الفكرية الذاتية على الأدب:

هناك في الثقافة العربية رقابة منفتحة تروج لفكرة فصل الدين عن الأدب، ويمكننا أن نطلق عليها الرقابة الفكرية الذاتية على الأدب، فهذه الرقابة تدعو القارئ إلى أن يأخذ ما يعجبه، ويترك ما يعتقد أنه يضر به، فأما الذي يعجبه فهو البلاغة الأدبية المبهرجة و»المزخرفة» الموجودة في غالبية كتب الأدب وفي رسالة الغفران تحديداً، وأما الذي يضر به فهو الفكر المحض والترميز «والمعنى» الذي ضُمِّن في تلك الكتب ومنها طبعاً رسالة الغفران.

إن الرقابة الفكرية على الأدب «تعلي» من الكتاب الذي يحمل في طياته أشكالاً وألواناً من صور البلاغة، وهي بالمقابل «تحط» من شأن الكاتب إذا كان مطعوناً في دينه، فمثلاً المعري بأدبه الموسوعي وشعره العميق يعد أديباً وحسب، لكنه ليس كفئاً بأن يؤخذ عنه فكرٌ يستفيد منه الناس، لأنه كما يقالُ: أحد أشهر الزنادقة في الإسلام.

المشكلة في هذه الرقابة:

ليست الرقابة الفكرية الذاتية على الأدب بحد ذاتها مشكلة، فهي نوع من الرقابة الحضارية التي يجب أن تسود داخل المجتمعات بناءً على قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، وهي جزء من الوعي المعرفي الذي يجب أن يتشكل لدى الفرد، لكن المشكلة الحقيقية تتركز في فكرة «الحط» من قيمة الكاتب أولاً و»الإعلاء» من قيمة كتابه ثانياً، فالكاتب (المعري) مثلاً تم تشويهه داخل مجتمعه الذي كان يعيش فيه آنذاك، وظل على هذه الحال إلى اليوم, في حين لم يتم تشويه الكِتاب النص (رسالة الغفران) مع أن فيها شطحاً كثيراً، وهذا ما يدفعنا إلى أن ننتقل ونقول بصراحةٍ صارخةٍ بأن الرقابة العربية والرقابة الفكرية على الأدب في الغالب هي (رقابة مشخصنة) تنصبّ على الكاتب وحده، وليست (رقابة محتوى) تنصبُّ على المضمون، بمعنى أن العرب كانوا يلاحقون المؤلفين لأسباب شخصية, ويدَّعون أن سبب الملاحقة هو كتابٌ أو قصيدةٌ تم التطاول فيهما. وهذا بالمناسبة ما تنبّه إليه المعري نفسه حين قام بتأليف هذه الرسالة رداً على ابن القارح الذي شوه بنظرهِ صورة الأدباء ورماهم فيها بالزندقة والكفر, إلا أن هذه الرسالة الفكرية من المعري لم تصل إلى المتلقي؛ لأن المتلقي لا يرغب في أن يأخذ منه أي رسالة فكرية، هو فقط يريد الصور البلاغية لا أكثر.

لماذا لم تلاحق الكتب الأدبية:

نعلم بأن العديد من الكتب الفلسفية تم إحراقها وإتلافها بشكل علني، فهل إحراقها هو بسبب أنها كانت تحمل أفكاراً مخالفة للمعتقدات الدينية، أم لأنها لم تكن تتمتع بالأسلوب الرفيع؛ الأمر الذي جعلها ليست ذات قيمة؟

من خلال تتبعي واهتمامي بتاريخ الكتاب فإنني لاحظت أن الإحراق والإتلاف لا يقعان في الغالب إلا على الكتب العقلية أو الدينية المخالفة، أما الكتب الأدبية فقلما يحدث لها شيء من هذا القبيل لأنها بمثابة التحف الثمينة.

سؤالٌ أخير:

تُرى: ماذا مثلاً لو أن ابن رشد صاغ أفكاره بلغةٍ أدبيةٍ بيانيةٍ قصصية كطريقة أبي العلاء المعري في رسالة الغفران لا كطريقة ابن طفيل في حي بن يقظان، هل سوف تجد كتبه من الصدود والنكران والعداء مثلما وجدته عندما كان يكتب بلغته الصارمة المنطقية؟

بريدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة