Culture Magazine Thursday  02/12/2010 G Issue 323
فضاءات
الخميس 26 ,ذو الحجة 1431   العدد  323
 
عشرون عاماً في التوثيق والتأليف
عبد الرحمن الشبيلي

لم أكن لأستبين متعة ذلك الراوية الشهير الذي كان يَعْبُر الفيافي والقفار من أجل أن يحظى برواية حديث أو أن يوثق صحته، حتى أدركت ذلك واقعاً في تجربة التأليف التي خضتها في العقدين الماضيين، ذلك أن لي مع الحصول على المعلومة والمراجعة والتصحيح والمتابعة والتجارب (البروفات) الطباعية لمؤلفاتي أكثر من موقف ممتع أو مُضنٍ أو مفاجئ، ولعلي أدعو من يرغب في التعرّف على هذه التجربة أن يطّلع على مقدمة كتابي "أعلام بلا إعلام" الذي اخترتموه ميداناً للنقاش والحديث في هذا اللقاء. ولو سألني أحدكم عمّا إذا كنت قبل عشرين عاماً أتصوّر أن أحترف التأليف بعد التقاعد، ليكون من أبرز اهتماماتي ومشاغلي بعد أن قضيت اثني عشر عاماً في الإعلام ومثلها في التعليم العالي ومثلها في مجال الشورى، لكان ردّي بالنفي، ذلك أنني – ولا أقول الكلام تواضعاً – لا أعدّ قلمي محترفاً ولا فكري فكر كاتب أو مؤلف، لكنها الصدف والأقدار التي قادتني إلى الإعلام، واتجهت بي نحو التعليم العالي وأودعتني في مجلس الشورى ثم أخذتني إلى عالم التأليف والتوثيق.

تجربة التأليف لم تكن متواضعة، لكن أبلغ ما فيها أنها تعلم التواضع، ذلك أنك كلما تعمقت فيها، أدركت أنك مبتدئ، وكلما دخلت المكتبة ورأيت الجهد الذي يبذله المؤلفون الأقدمون والمعاصرون عرفت حجمك بينهم، لكنك متى تمكنت من إنتاج البحث المتقن، فإنك تجد من التقدير ما يعوّضك، تحسب أحياناً أن المجتمع الثقافي ينسى الكتاب المتميز، فإذا بك تفاجأ بأنه ذو قيمة متجددة كلما تقادم به الزمن، يظل مرغوباً مطلوباً محترماً.

التأليف مدرسة، يتعلّم المؤلف في فصولها فوائد اللغة والبلاغة والإيجاز والبحث والمقارنة والتدقيق والمراجعة والتوثيق والتدوين وعلامات الترقيم، وجمع الوثائق، والبحث عن المراجع، والتقنية المساندة، والإتقان.

التأليف يعلّم أهمية المشورة، واحترام النقد، والمثابرة، وتقدير الباحثين، وارتياد المكتبات، ومعرفة المؤلفين، وميادين العلوم.

التأليف المثالي، يعوّد على الكتابة المعمقة، وعلى أهمية توظيف المعلومة، والبُعد عن الإنشاء والحشو والإطناب وحشر الألقاب، وعلى دقة العنوان وتعبيره وشموله.

لقد أخذتني الكتابة الصحفية التي بدأت بها، من المقالة الأسبوعية القصيرة إلى المقالة الدورية المعمّقة، ومن كتابة الفكرة إلى البحث والدراسة والمحاضرة، وأصبحت أشعر أن مقالة بدون معلومة هي مجرد حشو وإنشاء، فصارت المعلومة المستندة إلى الحقائق والتواريخ هي العمود الفقري لكل ما أكتب، وباستثناء كتاب الشورى، تقع جميع الإصدارات العشرين في حقلي السير والإعلام، وذلك بالإضافة إلى مجموعة من المحاضرات المطبوعة.

لقد أخذت مؤلفاتي العشرون، اتجاهات متعددة، وذلك على النحو التالي:

1) كُتب ضمت المقالات والبحوث والدراسات التي نشرتها منذ بدأت الكتابة الدورية قبل ثلاثين عاماً، وهي ستة إصدارات.

2) كُتب ارتكزت على مقابلات تليفزيونية سبق أن أجريتها مع شخصياتها وقمت بتفريغها والإضافة عليها وهي خمسة إصدارات.

3) كُتب نهجْتُ فيها نهج السير والتراجم، وهي خمسة إصدارات.

4) كُتب متخصصة في مجال الإعلام وتاريخه وهي ثلاثة.

5) كُتب كان لي فيها دورُ الإشراف والتحرير والمراجعة وهي اثنان.

6) وكتاب واحد اشتركت في تأليفه مع زملاء آخرين، وكان لي فيه دور التحرير والإشراف.

يقول د. عبدالعزيز الخويطر، في سياق حديثه عن تجربته التأليفية إننا سنذهب وإن جيلنا سيذهب، ولن يبقى للأجيال إلا أولادُك الذين تتركهم في أرفف المكتبات، ولعلكم لاحظتم كيف كان المجتمع الثقافي يوم أمس، يتحدث بإعجاب عن شيخ تجاوز الثمانين ومازال يلهث بحثاً وصياغة وعطاءً، إنه المؤلف والداعية والرحالة محمد العبودي، الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي الذي تجاوزت مؤلفاته المئتين ومايزال لديه مئتا مخطوط لم يُطبع، وأصدر للتوّ ثلاثة وعشرين مجلداً في معجم أسر بريدة، وأصدر في العام الماضي ثلاثة عشر مجلداً تخصصت في إعادة بعض الكلمات العامية إلى جذورها الفصيحة. في قائمة العشرين مؤلفاً التي بين أيديكم هناك على وجه الخصوص كتابان، يجدر بي في هذا المقام أن أفرد الحديث عنهما، وأحسب أنهما الأقرب إلى اهتماماتكم:

الأول صدر في عام 1994م، وكنت قد تحدثت عنه في هذه القاعة عام صدوره، إنه عن سيرة السفير الراحل محمد الحمد الشبيلي، أو أبو سليمان كما كان يعرفه المعاصرون له، والشيخ محمد، لمن عرفه أو قرأ سيرته، وقد توفي قبل اثنين وعشرين عاماً، عالِم من المآثر، لا يتسع المقام للتفصيل فيها، لكنني أختزل شخصيته ونهجه -عبر السفارات الخمس التي مر فيها والأعوام الستين التي أمضاها في الديوان الملكي والسلك السياسي- بكلمتين هما: دبلوماسية الأخلاق، فلقد امتلك أفئدة من عرفه أو تعامل معه، داخلياً وخارجياً من خلال جملة من الخصال والمناقب التي لا يصدقها إلا من مرّ بها.

وكانت لي مع تأليف كتاب سيرته قصة، بدأت من مقالات عبّر بها بعض الكُتّاب – بإلحاح – عن ضرورة تدوين مدرسته الفريدة، واحتل الموضوع مجلس زائريه في مرضه والمعزين به في وفاته، فكان أن وضعت تصوراً منهجياً لمن يمكن أن يتصدى لكتابة سيرته، وعبر أربع سنوات بعد رحيله لم تفلح محاولتان في إنجاز المهمة، ثم وجدت أن من واجبي أن أخوض التجربة وفق المواصفات التي وضعتها من قبل.

بدأت الكتابة منزوياً بها حذر الفشل فيها، لكنني ما إن أكملت الفصل الثالث حتى تلقيت الدعم المعنوي من سمو وزير الخارجية ومن معالي د. الخويطر من خلال كتابة مقدمتين للكتاب، وكان لتعاون ابنه الراحل سليمان، بإطلاعي على أوراق والده ووثائقه الخاصة وصوره فضل في نقل المشروع من فصوله الثلاثة الأساسية إلى الفصول الثمانية التي انتهى إليها. وقد حظي الكتاب الذي طُبع في عشرة آلاف نسخة ومازال يحظى، وإجلالاً للشخصية، بإقبال منقطع النظير، يتمثل بنفاد طبعته الأولى وبالمحاضرات العشر التي عُقدت لعرض الكتاب، وبالأحاديث العطرة التي تحتل المجالس عنه، كلما خطر ذكره.

أما الكتاب الثاني، الذي بين أيديكم (أعلام بلا إعلام) الصادر عام 2007م، فقد بدأت فكرته البسيطة بمقالات أسبوعية كُنت التزمت بها لجريدة عكاظ في عام 2003م، قصرتها على نماذج من الشخصيات، أحياءً أو متوفين، أسهمت بعيداً عن الأضواء في خدمة هذا الكيان منذ تأسيسه. ولم تمض أشهر، وبالرغم من توقّف حلقات عكاظ، حتى وجدت القائمة تزداد، وأن من ينطبق عليهم هذا التصنيف أطول من أن يكفيهم جزء واحد، فطُبع الأول على أمل أن يتبعه ثان أو أكثر بإذن الله.

الكتاب يشرح نفسه، لكنني وقد اخترتموه موضوعاً لهذا اللقاء، أوجه الاهتمام إلى بعض الشخصيات التي اشتملها الجزء الذي صدر، ومنها على سبيل المثال الأمير أحمد الثنيان، الذي ربما كان أول مستشار سياسي من الأسرة المالكة بتعليم حديث ينضم لديوان السلطان عبدالعزيز قبل أن يطلق عليه لقب الملك، وهو عم الأميرة عفت الثنيان والدة الأمراء محمد الفيصل وإخوانه وأخواته، وقد سجل التاريخ السياسي للملك عبدالعزيز أن الثنيان فاوض الإنجليز أيام احتلالهم للعراق بهدف تحديد الحدود وتأمين الاعتراف بالدولة السعودية الحديثة.

أما الشخصية الثانية، فإنه د. عبدالله الدملوجي، الذي أحسب أنه كان أول مستشار سياسي عربي، يختاره السلطان عبدالعزيز في بلاطه، وذلك بعد أن انضم إقليم الأحساء عام 1912م مع نجد في مطلع تكوين هذه الدولة، ومن المهم أن أشير إلى أن الدملوجي هو أول من أسس مديرية الشؤون الخارجية عام 1926م قبل أن تصبح أول وزارة في هذه البلاد عام 1930م ويكون الأمير فيصل على رأسها، ومن المفارقات اللطيفة أنه عندما عاد إلى العراق صار يزور هذه البلاد أو يتفاوض بوصفه وزيراً لخارجية بلاده.

أكمل الدملوجي ما بدأه أحمد الثنيان، ووقع اتفاقية العقير عام 1922م وقد أصبح نائباً للأمير فيصل في وزارة الخارجية، ورافقه في رحلته الثانية إلى أوروبا عام 1926م، ومن الطريف أن أشير إلى أن الملك عبدالعزيز كان قد كلّف الدملوجي ولفترة قصيرة بأن يشرف على شؤون الحجاز، قبل تعيين الأمير فيصل. أما الشخصية المهمة الثالثة فإنه إبراهيم المعمر، الذي أظن أنه ثاني رئيس للديوان السلطاني بعد الطيب الهزازي، ثم صار فيما بعد وزيراً مفوضاً في مفوضية بغداد قبل أن تصبح سفارة، ومن طريف ما يُذكر لهذه الشخصية أنه أول من تبنّى فكرة ممانعة تنكيس العلم السعودي في بغداد أيام الحداد على وفاة الملك فيصل الأول عام 1933م، ثم صار قائمقام جدة بعد أن تبادل الوظيفة مع محمد عيد الرواف الذي انتقل إلى بغداد.

ومن الأسماء التي غطاها الكتاب، شخصيات مثل عبدالرحمن القصيبي (والد د. غازي) الذي كان وإخوانه ممثلين للملك عبدالعزيز في الأحساء والبحرين، وسفراء مثل ناصر المنقور ومحمد المرشد الزغيبي وعبدالرحمن أبا الخيل وعبدالرحمن الحليسي وعبدالله الملحوق، وعلى دبلوماسيين وملحقين من أمثال مقبل العيسى وعبدالمحسن المنقور وأحمد المانع. كما تضمن الكتاب تراجم لشخصيات سعودية معاصرة لم يسبق أن كُتبت سيرها مثل محمد النويصر وإبراهيم العنقري وأحمد عبدالوهاب، ولعدد من الوزراء المعاصرين.

وقبل أن أختم هذا الحديث القصير معكم، ونتجه معاً إلى مناقشة هذه التجربة التأليفية، لعلكم تسمحون لي أن "أحفزكم" إلى "اقتحام" منجم من المعلومات تنامون عليه، لم يسبق لأحد أن استثمر كنوزه أو غاص في أغواره، إنه مركز وثائق هذه الوزارة في الرياض، وفي النسبة الباقية التي نجت من حريق مبنى الوزارة القديم في جدة.

وإنني من هذا المقام أتوجّه بالنداء لفتح أبوابه للباحثين، وبخاصة من أبناء هذه الوزارة الذين تقع عليهم المسؤولية الأقرب والأولى لتوثيق مسيرتها العريقة منذ إنشائها عام 1926م وإلى اليوم، ولتوثيق نشأة المفوضيات والقنصليات والسفارات وتطوّرها، ولتدوين سيرة رجالاتها.

لقد كانت لي قبل سنوات فرصة زيارة المركز، وسررت لما صار عليه من حال العناية والفهرسة والتنظيم، والمرجو بما فيه من درر وجواهر ثمينة، أن يصبح من المعالم التاريخية، التي تكمل منظومة مراكز المعلومات المهمة في البلاد.

* * *

ورقة ألقيت في لقاء المعرفة في ديوان وزارة الخارجية بالرياض

الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة