Culture Magazine Thursday  03/06/2010 G Issue 313
فضاءات
الخميس 20 ,جمادى الآخر 1431   العدد  313
 
كم في العين من حور
بين العيون المبصرة والأحداق الملهمة..!
حمد بن عبدالله القاضي

أحياناً بين جمود الحياة ، وثقل بعض القراءات والكتابات يحتاج الإنسان كاتباً أو قارئاً أن يتهادى إلى ضفة مريحة من أطياف القراءة.. وكان من وحي ذلك هذا المقال.. الذي أستشرف أن يريح من تعبت قلوبهم وأحداقهم من كتابات السياسة وحروبها ومن بعض الدراسات الأدبية والنقدية، وحرابها.

لقد اخترت (عيون الثقافية) منزلاً لهذه (العيون).

أكاد أجزم أنه لا يوجد قوم تغنّوا (بالعين): شعراؤهم وعشاقهم.. أطباؤهم وعلماؤهم.. فقراؤهم وأغنياؤهم.. مثل قومنا العرب العاربة منهم والمستعربة !.

(العين) عند أمتنا محور الذكاء.. ومنبع الجمال، والموحية بالحب !.

لا أكاد أذكر أنني قرأت لشاعر - إلا ما ندر - إلا وينسج من الأهداب أعذب الألحان بدءاً من الشاعر امرئ القيس ومروراً بابن زيدون وحتى غازي القصيبي الذي نزل خبر عودته على قلوبنا كما ينزل الندى على الأزهار.

سيرحل حرفي - عبر هذه الكلمات - في عالم وعوالم الأهداب، وعينيّ ستبحر في بحر العيون.. عيون الحرف وعيون البشر معاً.. وكم غرق فيهما من لا يعرف السباحة أقلاماً كانت أم قلوباً !.

لقد توقفت أولاً عند الشاعر المتنبئ.. الشاعر الذي ادعى أنه لغروره تنكزه الأفعي فينكزها.. وأن السيف والرمح والليل والقرطاس والقلم تعرفه.. لكن هذا الشاعر (الصلب) انهزم - بعظمة شعره وغروره بنفسه - أمام سحر العيون فقال بيته الجميل:

(وما كنت ممن يدخل العشق قلبه

ولكن منْ يبصر عيونك يعشق)

ثم أوقفت قارب حرفي عند الشاعر (أحمد شوقي) الذي قال بيتاً أخاذاً على لسان القائد أنطونيو الذي انهزم في معركته.. لكن لم يهزمه عتاد الجيش المحارب، بل عيون قائدة الجيش الآخر.. وقد قال أحمد شوقي على لسان القائد أنطونيو مجسّداً أن الذي هزمه هو أجفانها لا جيشها:

(قدت الجحافل والبوارج قادراً

مالي ضعفت فقادني جفناك)

وأما أجمل وصف مزج بين الجمال والجلال: جمال تهدل الأهداب وجلال انكسار الأجفان: فهو السيّاب عندما قال في مطلع قصيدته الشهيرة:

(عيناك غابتا نخيل ساعة السحر) !.

وأخيراً: أقف عند شاعرنا الكبير غازي القصيبي في بيته الشهير:

(وهذه ضحكات الفجر في الخُبر

أم أنها العين كم في العين من حَوَر؟)

والعيون (تَمرَض) و(تُمرِِِض) - بفتح التاء في الأولى، وضم التاء وكسر الراء في الثانية -.. أما أنها تَمرَض فهذا أمر يشخصه الأطباء فيعالجونها بأمر الله، وأما أنها تُمرض فهذا شأن يدركه الشعراء والعشاق.. فالعيون تُمرِض - على مذهبهم - وأحياناً تقتل وإن كان قتلاً معنوياً، وبخاصة العيون التي في طرفها حور..! على مذهب الشاعر جرير في بيته الشهير: (إنَّ العيون التي في طرفها حَوَر.. إلخ !).

وأما حكاية إمراض العيون للآخرين فقد عبر عن ذلك الشاعر طبيب العيون شاكر الخوري، حيث جاءته امرأة تعالج إحدى عينيها فشخصها وأعطاها الدواء وبعد مغادرتها قال وهو - هنا - يحلق في خيالات الشعراء لا في فضاءات الأطباء:

(لها مقلة مرضى وأخرى سليمة

أعالج إحداها وتُمرضني الأخرى)

فبين سِقامي في الهوى وعلاجها

أضعتُ بها الاثنين: عقليَ والأجرا)

(يستاهل..!).

وماذا عن حديث العيون

العيون تقول وتفهم بل هي أحياناً أبلغ من اللسان.

ألم يقل الشاعر المجرّب:

(والعين تعرف من عيني محدِّثها

إن كان من حزبها أم من أعاديها)

والشاعر شوقي في قصيدته التي صدح بها محمد عبدالوهاب:

(وتعطلت لغة الكلام وخاطبت

عينيَّ في لغة الهوى عيناك !)

والمغني يقول:

(لا تقول.. خلِّي العيون عنك تقول).

وربما أنه رآها أبلغ تعبيراً.

أما أجمل وصف (لحور العين) والمرأة الحوراء فهو في ذلك البيت الذي امتدح فيه الشاعر عدل أحد الخلفاء قائلاً:

(لم يبق للجور في أيامهم أثر

إلا الذي في عيون الغيد من حور)

أرأيتم أجمل من هذا الوصف بالجور والحور معاً.

ما أبهى هذا الجور !.

وما دمنا على ذكر المرأة (الحوراء) فدعوني أعرج على ضد المرأة

(الحوراء) وهي المرأة (الحولاء)، وذلك عبر هذه الحكاية الطريفة:

(يروى أن رجلاً تزوج امرأة حولاء وكانت ترى كل شيء اثنين فإذا اشترى لها زوجها شيئاً واحداً أطنبت في الثناء عليه على أساس كرمه وسخائه، فإن اشترى لها كيساً من (السكر) ظنته كيسين، وإن أتى لها بفستان أطرت كرمه الذي حفزه أن يأتي لها (بفستانين) وهكذا.. كل شيء عندها اثنان والرجل سعيد بوصفه بالكرم الذي تنعته به زوجته، ولكنها قالت له مرة وهو يهم بدخول غرفة النوم: ماهذا الرجل الذي معك؟ وهنا أوقفها قائلاً: (كل شيء اثنين إلا في غرفة النوم..!).

أما بعد

سلمت العيون لتمنحنا نعمة البصر، وسلمت الأهداب لتكون ملهمة لنسج أجمل الشعر وأبهى النثر.

أخيراً..

هل هناك - يا ترى - رابط بين عيون الشعر وعيون البشر.. وهل ثمة وشيجة بين أهداب الأجفان وأهداف الكلام.. ربما !.

لكن ليس لدي جواب جامع مانع إلا ما ورد من شواهد الشعر وشوارد النثر في هذه المقالة.

hamad.alkadi@hotmail.comالرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة