Culture Magazine Thursday  04/02/2010 G Issue 297
فضاءات
الخميس 20 ,صفر 1431   العدد  297
 
(فخاخ الرائحة): التحايل السردي في ضوء نظرية الأنماط الأولية -1-
د. لمياء باعشن

يعتبر النقد الأركيتايبي Archetypal criticism من مفرزات نظرية "الأنماط الأولية" التي وضع أسسها الفيلسوف النفساني كارل جوستاف يونج Carl Gustav Jung، والتي تهتم بمتابعة ظهور تلك الأشكال الأصلية المترسبة في الضمير الجمعي للبشرية (collective unconscious), وتطورها في النصوص الأدبية والإبداعات الخيالية على مر العصور. يرى هذا النقد أن التصورات الميثولوجية الكامنة في اللاوعي الإنساني تشكل بالضرورة وظائف وأسلوب وطرق صياغة تلك الأعمال الإبداعية، بل إن معنى النص مرهون بمكوناته النفسية والثقافية. وتعاود تلك الأنماط المتوارثة الظهور مرات ومرات وتتجسد على سطح الوعي إما على شكل شخوص أو موتيفات أو رموز تدخل كلها محملة بالمعاني والإحالات الغنية إلى ثنايا النصوص لتعطيها زخماً هائلاً من المرجعية والتأويل.

وتنقسم الأنماط الأولية إلى شخصيات مثل البطل والأم والحكيم والشيطان...، وإلى حبكات مثل التهيئة والنضج والموت والانبعاث والصحراء والطقوس..، وإلى صور رمزية مثل الماء والدائرة والثعبان والألوان. والمحتال شخصية نمطية استبقتها كل الثقافات البشرية ونوّعت على قالبها الأصلي، فظهر المحتال في آداب الشعوب في حقب زمنية مختلفة وتمت إعادة اختراع وظائفه الثقافية. وفي هذا الاستمرار لشخصية المحتال تأكيد واضح على مركزيتها في تحريك الراكد وتنبيه اللاوعي، فالمحتال شخصية مزدوجة قادرة على التحول والتخفي وراء الأقنعة واستنساخ الذات.

تفحص هذه الورقة رمزية الاحتيال في رواية (فخاخ الرائحة) للروائي "يوسف المحيميد" من المنظور الأركيتايبي اليونجي، فالشخصيات ذات الحضور الرئيس في الخطاب السردي عند "المحيميد" تقترب في تكوينها وحضورها من أن تكون احتيالية بامتياز، بل وتجرنا في اقترابها هذا من مصطلح الأدب الاحتيالي Literary Tricksterism الذي يتسم بالسرد المراوغ والمضمون المتداخل وفنيات المخاتلة وحكائية التوالد التناسلي.

تركز هذه القراءة على (فخاخ الرائحة) كنص احتيالي يزخر بالاحتمالات، وتستخدم الاحتيال كموشور تجتمع في بؤرته ملامح الثقافة السعودية السائدة بما فيها من اهتمامات بمسائل الجنوسة والهوية الذاتية والطبقية وصراعاتها المادية وأخلاقيات المنظومة الاجتماعية. ومن خلال الاشتغال على فكرة تعالق نص المحيميد مع أنماط ميثولوجية عتيقة وتشكُلها وفق نماذجها، سيجري تقصي العلاقة الرابطة بين الشخوص والصور الرمزية والوحدات السردية وتحدي استقلاليتها وانفصالاتها الظاهرة.

في تناولنا لرواية يوسف المحيميد (فخاخ الرائحة) نعرف أننا أمام نص مفخخ، أولاً: من تركيبة العنوان الإيحائية كمقولة تصرح بالمراوغة والمخادعة، وثانياً: لأن هذا العنوان له دلالة استدراجية فهو يسحب القارئ إلى فضاءات المفاجأة ويبث فيه الخوف والتوجس، ويأتينا قول يوسف المحيميد في لقاء صحفي مؤكداً لذلك: "العنوان هو الفخُّ الذي أنصبه للقارئ، فأغويه ويدلف معي إلى متاهة النص" (حوار: زوينة خلفان) فالقارئ هدف لفخ التلقي والتورط في فعل القراءة بحثاً عن الرائحة التي تنصب فخاً. وثالثاً: لأن العنوان نواة للنص فإن خصائصه المجازية تنسحب على عالم الرواية المشدود إلى الخديعة والذي يعج بفخاخ الروائح وروائح بلا أفخاخ وأفخاخ بلا روائح.

لكننا نوقن أكثر بأن هذا النص مفخخ؛ لأن كاتبه يصرح بذلك في أكثر من لقاء صحفي، فقصدية التفخيخ لا اختلاف عليها. مدخلنا إلى النص هو مقولات ليوسف المحيميد يدلي فيها بالتالي:

- "أحب أن أصنع شركا لذيذا أمام القارئ وأصرخ هأنذا أوقعته في الفخ!" (الحوار: عدنان فرزات القبس، الكويت الخميس 26 رجب 1428 9 اغسطس, 2007رقم العدد: 12281).

- في فخاخ الرائحة كان التشويق يعتمد على الإخفاء والتأجيل، فثمّة سرّ مخبوء لم أصرّح به، بغرض استدراج القارئ حتى الفصل الأخير". (جريدة اليوم اليوم الثقافي لعدد 11385 السنة الأربعون الاثنين 1425-06-30هـ الموافق 2004-08-16م).

- أحتفظ بمفتاح السرّ أو الكنز في جيبي حتى آخر شهقة في عمر السرد.. وأقول دائما لقارئي: لا تتعجل الذهب، فقط واصل اللعبة معي إلى آخرها.... هذا ما فعلته بالضبط في "فخاخ الرائحة" إذ دفعت سرّ الأذن المقطوفة لدى البطل إلى آخر فصل من الرواية". (الشرق الأوسط الخميس 27 رجب 1429 هـ 31 يوليو 2008 العدد 10838).

بيد أن تصريح المحيميد هذا يشكل معضلة تأويلية، فالفخاخ التي تُنصب على مدارات النص تستلزم الخديعة، أي أنها تعد بشيء وتقدم شيئاً آخر، لذلك عندما جذب الجلابة جماعة السودانيين برائحة الشواء تبين لهم حين اقتربوا من النار أن ما عليها ليس لحماً بل شحماً. وقياساً على ذلك فإن الفخ الذي نصبه المحيميد للقارئ لا يمكن أن يفي بالشرط الخداعي، فالقارئ كان ينتظر تفسيراً للأذن المقطوعة وهذا هو تماماً ما حصل عليه. إن الطعم الذي يجب أن يجذب القارئ في هذه الحالة لا يكفي لإكمال أطراف المعادلة، لذا كان لا بد من البحث عن الخدعة من حيث هي غير متوقعة ولا منتظرة، من حيث إنها تحدث أثراً توريطياً لدى المتلقي وذلك بتخييب توقعاته بكشف يخالف أفق انتظاره.

في رحلة البحث عن الطعم الجاذب وطبيعة الحيلة التي انطلت علينا كقراء للنص نجد أنفسنا أمام خدعة سردية عالية المستوى لا يمكن رؤيتها إلا من وجهة ما وراء السردية والتي تشد الانتباه إلى موقع النص كعمل خيالي وابتعاده بالتالي عن الواقع، فلا شيء يظهر كما هو متوقع أو متخيل، بل إن الوهم الروائي يتبدد في ثنايا السر. سأحاول أن أتوقف في هذه الدراسة على ملامح الإستراتيجية التي اتبعها النص في بناء شراكه الخداعة التي أوقع فيها القارئ والنظر إلى ما وراء الظاهر الذي يخفي أكثر مما يعلن لاستكناه التقنية التي استخدمها النص في بنائه.

تنتمي رواية "فخاخ الرائحة" إلى الرواية الجديدة المغايرة لما هو سائد من الأنماط السردية والتي تتسم بسردها المراوغ، ومضمونها المتداخل، وطرائقها السردية المبتكرة. هي رواية تقاوم الحبكة التقليدية وتخلخل افتراضات القارئ المألوفة باشتغالها على فنية مخاتلة تعتمد تعددية المنظور السردي وتقطيع النسق الزمني بدلاً عن الانسيابية المعهودة. نحن إذاً بحاجة إلى مدخل نقدي مختلف يتماشى مع وعي النص بالتفكيك الما بعد حداثي وتعارضات المنطق، مدخل يفي بمطالب هذا النص المبتكر ليمنحه القدرة على تخليق دلالات أكثر انفتاحاً. عنوان هذا النص ودلالاته وسماته التقنية تجعلنا نستدعي مفهوم الأدب الاحتيالي "literary tricksterism" المنبثق عن النقد الأركيتايبي Archetypal criticism وهو من مفرزات نظرية "الأنماط الأولية" التي وضع أسسها الفيلسوف النفساني كارل جوستاف يونج Carl Gustav Jung، والتي تهتم بمتابعة ظهور تلك الأشكال الأصلية المدفونة في عمق التجربة الإنسانية المترسبة في الضمير الجمعي للبشرية (collective unconscious), وتطورها في النصوص الأدبية والإبداعات الخيالية على مر العصور.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244

lamiabaeshen@gmail.com * جدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة