Culture Magazine Thursday  04/02/2010 G Issue 297
سرد
الخميس 20 ,صفر 1431   العدد  297
 
مقاربة
محمد المزيني في روايته «الدنس»:
الرواية سرد لتفاصيل الحكاية المتخلقة من رحم التحولات
عبدالحفيظ الشمري

في الجزء الأخير من ثلاثية ضرب الرمل «الدنس» ينهي القاص والروائي محمد المزيني ملحمة سرده التي عني فيها وعلى مدى أعوام سالفة، إذ لم تكن فيما يبدو وليدة اليوم أو الأمس القريب إنما هي تراكمات عمل مضني بدأ فيه المزيني منذ منتصف التسعينيات حينما كان يردد مقولته «قديماً كتبت، وحديثاً أنشر». في روايته الجديدة «الدنس» يصر البطل (ناصر بن شقير الهدب) وهو يدفع بطاقة تخييل فاتن من الراوي العليم حينما يعرج بنا وبفتنة السرد الشفيف لاستلهام خطاب أهل الأرض هنا.. هؤلاء الذين عبرت الحياة والطفرة والتاريخ من حولهم دون أن يستشعروا أهمية المرحلة الإنسانية فيها.

ففي لحظة التنوير الأولى وعلى لسان الراوي حينما دفعت الظروف ناصر بن شقير ندرك حجم الغواية المتمثل بكتاب الشيخ سيد قطب، لتنكشف للقارئ المعادلة البكر عن فرضيتي التبدل والتحول بوصفهما جدليتان تتواكبان في بناء قناعات هشة سرعان ما تبيد في الأولى وتميد في الثانية.

فالأسرة في بيت شقير الكبير تتشضى، وتتفكك ويعلوها غبار العاصفة المادية التي تثير فيها رغبة الطمع، وشهوة المادة وحب المال، وجموح الرغبة في الامتلاك، حتى باتت الحراب مسنونة ومسمومة بالغواية والغدر.

فتساوق الوصف في منطلقات رواية الدنس تفجير لكوامن حكاية أضحت حديث الناس، وشغل الجماعة والفرد على حد سواء، فالراوي لا يجدد غضاضة في كشف كل ما يملكه من أدوات في سبيل تدوين شهادته القوية ضد هذه الظاهرة من التحول في بناء خطاب الإنسان الذي بات شغوفاً بالجديد حتى بالتحرر من صورة الواقع على نحو ما فعلته بنات شقير، وأزواجهن، حيث يشير الراوي إلى أنهم محملين برغبات المادة ولا شيء سواها.

فأبطال الرواية بتنوع هيئاتهم، ومظاهرهم الباذخة وقشور حياتهم الفارهة هو ما جعل «ناصر بن شقير» يحدث من حوله في محترفه الوعظي الأخير بزيهم الغريب وبلحاهم الكثة ومسامراتهم المريبة وكتبهم الصغيرة وأشرطتهم (الكاسيت) وبتراتيلهم وتحولاتهم من الانشغال بالذات إلى التنكير على الناس ومن ثم المواجهة والصدام فكل هذه التحولات ستفضي حتما إلى قراءة ممكنة للواقع الذي تسير عليها هذه المجموعات التي بات ابن شقير في تفاصيل الرواية واحداً منها.

انتهج المزيني في سرد تفاصيل رواية الدنس أسلوب المزاوجة بين الحوار والتصوير حتى بات المتلقي لا يجد صعوبة في التعرف على هوية الشخوص من خلال محادثة عائلية، أو مهاتفة ثنائية، أو تجاذب شفيف لسيرة الحياة بين عاشقين أغرقى في الفحش على نحو أليم.

الفصل الرابع في الرواية يذيع مفاتن سرد الحكاية بين (منذر) و(سلمى) حتى تحين في هذا السياق جدلية الهم الممزوج بعاطفة ممكنة لا تلبث إلا وتتحول في الفصل الخامس إلى بعد استشرافي دقيق يصف الأحداث من منطلق التصوير الحي لكل مناسبة أو موقف، فالحوار -كما أسلفنا- هو البعد الواقعي الذي يذكي روح السرد في كل شاردة وواردة حتى تصل الحكاية إلى مداها، فكأن حالة (شقير) ومن بعده (ناصر) إيذان بتنويع حدثي يضفي بعداً تجذيرياً لحكاية الإنسان في زمن التحولات.

تفاصيل رواية الدنس حكاية تتلو حكاية، وقصة بأثر أخرى فلا وقت للراوي أن يشيح ولو لبرهة واحدة عن تفاصيل هذه الرحلة لأسرة كادت رياح التحولات أن تعصف بها لا سيما وأن الشخوص لديهم مشاريعهم الخاصة.. تلك التي تنبني على تداخلات أليمة تعجز الذائقة عن حلحلت هذا الإشكال وفك هذا الشجار المحموم بين الشخوص الذين تدب بينهم شجارات حول المادة، والاستحواذ على كل ما له بعد مادي صرف، على نحو جموح «وحيد» وتصرفات «نذير»، وصراع النساء الأفاعي، عذبة ورنا وسلمى، ذلك الصراع الأزلي الذي عرف من يؤججه ومن يصوغ منه مفاجأة غير سارة هو ذلك الذي يشير إليه الراوي العليم بأنه المال الذي يراد من ورائه خطلاً السعادة، في وقت يسترشد الشخوص بوجيب الحب لكنه يبدو في التفاصيل واهن، ومهلهل ولا مكان له في زمن هذا التكالب على المادة التي تفرزها آلة البطل القديم «شقير الهداب».

محاولة المزيني الاتكاء على الحكاية لها ما يبررها كمنهج استرشادي على هذه الحالة الاجتماعية المتشابكة التي عني في تقدمها، إذ برع في رسم تفاصيل حكاية «شقير» في خريف العمر، فحينما زج الراوي بكل ما لديه عن هؤلاء باتت الحكاية موجعة وذات بعد انتقامي محض تتساوق معطياته على مفصلات المواجهة الخفية بين نساء شقير زوجتيه وبناته في غياب تام عن الاسترشاد بالعقل، والاستنارة بخطاب الوعي حتى باتت الحكاية على شفير هاوية سحيقة كان وقودها «ناصر» هذا الشاب الذي دفع الثمن. ومع تلاحق الأحداث وتساقط أوراق العمر، وهجوم موجات المرض على شقير، وتعنت ناصر وتيه النساء وتفرق السبل بالبيت الكبير الذي ظل رمزاً للقوة والثبات فهاهو يعود خرباً تصفر فيه رياح الدمار، وتنعق على شرفاته غربان البين حتى استحالة الحكاية إلى هزيمة منكرة.

****

إشارة:

الدنس (رواية)

محمد بن عبدالله المزيني

دار الكفاح -الدمام- 1430هـ-2009م

تقع الرواية في نحو (334 صفحة) من القطع المتوسط

/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة