Culture Magazine Thursday  06/05/2010 G Issue 309
فضاءات
الخميس 22 ,جمادى الاولى 1431   العدد  309
 
القياس في مقامه الموجب
عبدالله بن محمد السعوي

بادئ ذي بدء من الجدير بالتنويه أن ابن تيمية لا يرفض المنطق جملة وتفصيلاً، كما هو الانطباع المختزن في الذاكرة الشعبية، وإنما يتقاطع ولو ضمنياً مع مواطن صوابيته، كما في فكرة استلزام الدوال للمداليل، والتي يصرح بأنه يدلف في إطارها آليات الاستدلال المنطقية الشمولي والاستقرائي والتمثيلي، وكما أنه أيضاً استعمل المنطق في نقد المنطق، وكوّن بحسب هراس «فلسفة نقدية في غاية القوة والخصوبة» ابن تيمية السلفي ص29. وهذا مؤشر يبرهن بجلاء على أن المنطق ليس عديم الجدوى بصورة مطلقة - في تصوره - بدليل استعماله لأدواته لما رام استجلاء مكامن خلله. هذا وقد وضعه أداؤه المنطقي «في نسق المناطقة السيكولوجيين الكبار في العصور الحديثة» مناهج البحث عند مفكري الإسلام, ص263.

أما تصعيد النبرة التيمية إزاء المنطق، فلعل الحادي صوبها هو ضرب من الخشية الشديدة من الامتدادات الثيولوجية للفلسفة التي لا تنبعث من واقع أسئلة الواقع القائم بقدر ما تقدم ذاتها كمعطى جاهز يبحث عن حضوره في فضاء خارج إطاره, ذلك الفرَق من متتاليات التوظيف الماكر للبنية المنطقية جعلته يؤْثِر تحصين الإنسان عبر إبعاد وعيه عن الفهومات سوى المنسجمة مع مجمل الخطوط الكبرى لجناب الدينونة.

وتأمل معي في هذا النص التيمي الذي يؤكد أن الحاجة قد تقوم إلى المنطق في دفع السوفسطيقا، حيث يقول في كتاب الرد على المنطقيين: «وكذلك من كان به سفسطة ومرضت فطرته في بعض المعارف لا يستعمل معه الأدلة النظرية بل يستعمل معه نوعاً من العلاج والأدوية، فقد تكون الحدود والأمثلة التي تحوجه إلى النظر والفكر إذا تصورها مقدمة مما يزيل سفسطته وتحوجه الى الاعتراف بالحق».

ومع أنه يؤكد كثيراً أن الحقيقة تعرف بدون المنطق، لكنه يستدرك قائلاً «قد يُزال به بعض الأمراض ويُقطع به بعض المعاندين» المرجع السابق.

لقد باشر اشتغالاً نقدياً رحب المساحة جلى فيه عدم توفر القيمة العلمية، لا لمجمل المنطق وإنما لطائفة غير ضئيلة من قضاياه، وعلى وجه الخصوص ذات الصلة بالميتافيزيقا والتي تقلل بطبيعة الحال من فرص ترشيحه ليكون كما يراد له المنهجية العلمية الأجدى أو القالب الأعلى للمعرفة. وقد كان لذلك الحراك التيمي الذي مضى في عمليات تشريحية واسعة نكات بستمولوجية ولطائف دقيقة ولمسات تحديثية مبهرة تتوسل العقلي كبَعدي متكئ على استلهام النقلي كقبلي وكفريضة معرفية أولية في بناء المعارف وكمعطى إلهي نهائي لا ينفك عن الدائمية ولا مناص من إقامة التصورات المنضبطة على ضوئه. وقد قرر ابن تيمية جراء ذلك أن ثمة قضايا منطقية لا يُعتد بها لما لها من دور فاعل في عرقلة التقنين البنائي لمنهجية علمية تتوفر على قسط وافر من الفاعلية.

ولو وقفنا نستجلي معالم الموقف التيمي إزاء المنطق الصوري ممثلاً في هذا المقام الموجب في القياس «أن القياس يفيد العلم بالتصديقات» لألفينا إشارات مضيئة أرقم جزءاً منها على سبيل الإجمال وعلى قدر الإمكان والمكان كالتالي:

أولاً:

يقرر ابن تيمية حقيقة حيوية مفادها: أن كافة القوالب القياسية التي يروج المناطقة لتكريسها وتلك المواد الصورية التي لا ينفكون عن التفاني في سبيل جمهرة التلبس بها, وتنمية الإزورار التدريجي عن نقائضها, بل والتعبئة التجييشية ضد مضاداتها, هي عند التحقيق حجج محجوجة بفعل مكابرتها للمعقول حتى ولو أُلبِست لباسه فهي لا تفضي إلى ما من شأنه أن ينطوي على حمولة معرفية نوعية يتعذر الظفر بها من غير سلوك سبيل القياس المشائي, بل على العكس من ذلك «كل ما يمكن علمه بقياسهم يمكن علمه بدون قياسهم» الفتاوى 9-207.

فعامة ما يوقف عليه عبر هذا القياس من المتاح الوقوف عليه بدونه. هذه الحقيقة محض وجودها في التصور كاف لتبرير تهاوي الزعم المضاد ولا غرو فالسبيل نحو الحقيقة ليس يتيماً لا ظهير له, بل هو سبل شتى لا حصر لها. إن إدراك الحقائق ومعانقة المعطيات العلمية تمر بعدة خيارات، فثمة تعدد لمداخل النظر إليها وحصرها في مساقات نهائية مغلقة هو خيار ضيق وتحجيم غير مدلل وادعاء خاوٍ من مبلورات برهنته، إنها دعوة للمنطق بغير منطق! وما كان حاله كذلك فليس إلا آفة ثقافية لا يليق العمل على تبيئتها فضلاً عن العمل على استحالتها إلى مادة ذات امتداد أممي معمم. وفي هذا المساق يؤكد ابن تيمية أن ذلك القياس ليس فيه «لا تحصيل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه ولا حاجة به الى ما يمكن به بدونه فصار عديم التأثير في العلم وجوداً وعدماً وفيه تطويل كثير متعب» الرد على المنطقيين284

ثانياً:

إن جملة من القوانين المنطقية التي يراد ترسيخ معاييرها والانبعاث وفقاً لأفقها وجعلها موئلاً يُقفل إليه هي عند التحقيق لا تمتلك قاعدة رؤيوية متكاملة ولا تقدم المعرفة عبر قوالب ديناميكية تتسلل المعارف جراءها إلى الحس بانسيابية رائعة، إنها لا تعمل ذلك بقدر ما هي في حقيقة الأمر تحد من حراك الذهن وتضاعف من حدة اللغوب التفكيري الذي يُعقد ميسور المعرفة وينهك الوعي ويستهلك طاقته ويستنزف قواه كإفراز حتمي لكثافة اللف والمداورة والدوران والإسهاب الممل والإطالة المفتقرة لما يبررها وهذا هو ما جعل ابن تيمية يصف لغة المناطقة بأنها «حشو لكلام كثير يبينون به الأشياء وهي قبل بيانهم أبين منها بعد بيانهم» نقض المنطق ص187.

فالمناطقة ينزعون نحو الشكل العباراتي المتكئ على الإجمال والإشتراك وإبهام المدلول وإبعاد الإشارة, ويكثفون من اجترار المقدمات ويتكلفون السبل الوعرة التي تتيه بفعلها الوحدات الزمنية. ويضرب ابن تيمية مثلاً لذلك بمن «يريد أن يسلك الطريق ليذهب إلى مكة أو غيرها من البلاد فإذا سلك الطريق المستقيم المعروف وصل في مدة قريبة بسعي معتدل, وإذا قيض له من يسلك به من التعاسيف ويسلك به مسالك منحرفة فإنه يتعب تعباً كثيراً حتى يصل إلى الطريق المستقيمة إن وصل وإلا فقد يصل إلى غير المطلوب» الرد على المنطقيين ص248

ثالثاً:

عدم فطرية هذا القياس, بفعل مباينته لتلقائية الإنسان, وعدم انسجامه مع طبيعته العفوية، ومن المتحقق أن الأبعاد المدرَكة عبر الجبلّة والتي يتاح التّماس معها فطرياً والوقوف على معالمها بشكل بديهي إذا جرى تغيير سُبل معاينتها من الفطري إلى سوى الفطري، فإن ذلك يكون تشتيتاً لنشاط الذهن وتبديداً لاشتغالاته وإمداداً له بعوامل الإنهاك وتكليفاً له بلا مردود إيجابي ولا عائد مثمر, إن إكراه الفطرة وإقحامها قسراً فيما لا يتناغم وصبغة الله ليس إلا تحريضاً ضد إنسانية الإنسان وعرقلة لأريحية العقل فلا يتنفس بحرية ولا يتحرك باستقلالية ولا يباشر بفعالية.

إن معاكسة الفطرة ليس إلا «تعذيباً للنفوس بلا منفعة لها» الرد على المنطقيين ص48.

إن الفطرة أو «الحكمة الغريزية» كما يعبر- أبو البركات البغدادي - تغني الإنسان عن ذلك القانون الصناعي الذي يراد منهجة تعميمه وإعادة الاعتبار له كضرب من الاشتغال التعسفي الذي يصادر فاعلية الحراك الذهني ويقلص من تألقه الحيوي بفعل العدول عن المعرفة الفطرية.

رابعاً:

إبان اشتغاله على صياغة واقع منطقي قشيب سلط ابن تيميه أضواء نقده على فرط العناية بالقالب الصوري في القياس وقرر تهافت ما كانت العناية الاحتفائية تنصب على منحاه الشكلي متجافية عن الملاحظة والتجربة والاستقراء كما هو الحال في قياس المناطقة الذي تكمن إشكاليته في شكليته حيث تتوجه المعاينة نحو الأفق الصوري مغفلين البحث عن مادته الحقيقية وعما تتضمنه من صحة أو بطلان ف»قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته» الرد على المنطقيين 2/9». الشأن الذي أفقد ذلك القياس ما يُشترط لصوابيته من وجاهة معرفية يترتب جراء تخلفها تداعي ذلك القانون وتهلهل مفاصله.

وهم بقدر ما يحتفون بالصورية بالقدر ذاته لا يكترثون بالمحتوى، أي أنهم يهمشون الأصل ويعلون من قيمة الفرع الذي يتبوأ مكانة الأصل، مع أن البديهة تقرر أن استدعاء الفرع وإقصاء أصله هو إلغاء لكليهما. ويندد ابن تيمية بذلك المسلك الذي يتجاوز مادة القانون نحو شكليته ضارباً صفحاً عن الجمع بين حدّي تلك الثنائية ويرفض أيضاً تلك الفكرة التي فحواها: أن صحيح الأدلة أو فاسدها يُدرك عن سبيل القياس فيجلي عدم دقة تلك الفكرة ويبرز أوجه قصورها وعدم توفرها على بناء موضوعي رصين لأن القياس فى نظره لا ينطوي إلا على صورة الدال وشكله، أما مادته أي «كون الدليل المعين مستلزماً لمدلوله فهذا ليس في قياسهم ما يتعرض له بنفي ولا إثبات وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التي اشتمل عليها الدليل وليس في قياسهم بيان صحة شيء من المقدمات ولا فسادها» الرد على المنطقيين 252

إن ما يريد ابن تيمية الإفصاح عنه يتمثل في أن إيلاء الاعتبار للقوالب المظهرية وتجاهل محتوياتها كما هو حاصل القياس الصوري أمر من شأنه الإفضاء لا إلى عين المقصود, بل إلى نقيضه لأنه يحيل الوسيلة إلى غاية بحد ذاتها، وهذا فضلاً عن عدمية جدواه فهو أيضاً يباين ما تقتضيه اللوازم الفنية للتفكير السليم والتي تلح على أن تكون الأدلة والبراهين هي السبل المفضية إلى العلم لا أن تكون بكينونتها الذاتية هي العلم.

Abdalla_2015@hotmail.com بريدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة