Culture Magazine Thursday  06/05/2010 G Issue 309
فضاءات
الخميس 22 ,جمادى الاولى 1431   العدد  309
 
أمام مرآة «محمد العلي»
الحداثة الشعرية في قصائد محمد العلي(2)
علي الدميني

قصائد الهجرة الثانية:

تجاوز الشاعر في هذه المرحلة حالة تصادي التجربة الشعرية مع بواعث تأثير الحادثة أو المناسبة، إلى فضاء الحالة الشعرية المرتكزة على علاقة الذات بواقعها الجديد، حتى وإن تمحورت في البداية على حالة قسوة الشعور بالاغتراب في الوطن،والالتجاء إلى وهج الحنين للأصدقاء والأمكنة القديمة، إلا أن نصه الشعري لم يتوقف عند الحالة الفردية للاغتراب وحسب، وإنما أحاله إلى تعبيرٍ عن الحالة الفردية والاجتماعية على السواء، وقد تمثل ذلك في عدد من قصائده، ومنها (خطاب إلى العام الجديد، غربة، الشعلة الباردة، إحدى اللحظات).

يقول في قصيدته «غربة»:

ها هنا، حيث لا يرى الحب

والشوق طريقاً إلى قلوب العبادِ

يا حياة اركضي فقد ذبل النور

وشلّ العناد صوت الحادي

لن تنالي قبراً كبيراً يضم

الناس في غير هذه الأبعادِ.

ومن قصائده التي لم تنشر، (ولذلك التغييب دلالة خاصة) نص اطلعت على بيتين منه منسوباً إلى الشاعر «محمد الهجري» في كتاب للشاعر الراحل مصطفى جمال الدين (أحد الأصدقاء الحميمين لشاعرنا).

«يا من تغني حولهم دجلةٌ

أغصاننا بالت عليها الكلاب

وشمسنا قد نسيت لونها

وبدرنا يحثو علينا التراب»

ولعل هذا النص وسواه، مما لم ينشر من قبل، قد دفع الشاعر إلى العزوف عن نشر نتاجه بين دفتي كتاب، ولم يكن ذلك كسلاً، كما يردد الشاعر تهرباً من الإجابة، وإنما لأسباب أخرى، أوجزها الأستاذ صالح الصالح في كتابته المشار إليها آنفاً، حيث يقول: (إن المسألة لا كسل ولا يحزنون، وإنما إشكالية لها أكثر من وجه، فالعلي شديد الاعتزاز بأي مرحلة من مراحل تجربته التي لا تزال مستمرة – مهما تجاوزها الزمن وتجاوزها هو الآخر – وهو شديد الاحترام للقارئ، حادُّ الوعي برسالة الأديب..)، ولعلي أوضح ما أومأ إليه الأستاذ صالح الصالح في كلامه، بالقول إن ضابط الرقابة الاجتماعية والثقافية لم يكن مهيئاً لنشر بعض تلك القصائد، التي تعبر عن حالاتها الشعرية، وعياً وموقفاً مختلفاً، لذا لم يرد أن ينشر بعضها دون الآخر، فاختار حالة العزوف عن نشرها جميعاً، فالمساواة في الظلم عدالة في بعض الأحيان!!

وخلال هذه المرحلة، وبعد أن غادر حالة الاغتراب والحنين، يتوج الشاعر سلسلة انزياحاته الفكرية (من السلفية إلى الرؤية النقدية ومن ثم إلى المنهج العقلاني والواقعي)، بكتابة أولى قصائده في تجربة التفعيلة، بنصه المعنون ب: «الغابة» في 15-11-1965م. ومن أهم قصائد تلك المرحلة (العيد والخليج، دارين، هيلا.. هيلا، كنت تقرأ شعراً، بحرنا من حجر، الذي نسي قناعه، عروق المدينة، نافورةٌ من نخيل، آهٍ متى أتغزّل، لا ماء في الماء، أنين متقطع، يا سوف، يا ليلي ويا عيني)، وغيرها من عيون القصائد مثل «انتظار» التي قالها وهو مرتهن في زنزانة انفرادية في عام 1982م، ومن أبياتها:

مترعاً كان ذاك الجدار

كنت أقرا ما خطّه السابقون على وجنتيه

وأصنع في لوعةٍ مقمرة

نوافذ من فرحٍ راكدٍ

ثم أرسم للاحقين:

مواعيد أجنحة، ثرثرة!

وتجربة «العلي» تعد إحدى التجارب المؤسسة للحداثة الشعرية في المملكة، بما توفرت عليه من مقومات البساطة والعمق، والرهافة اللغوية وأناقة بناء الصورة وتفردها، وكثافة التعبير في بناء الجملة الشعرية والنص، والمزاوجة بين معرفته الموسوعية بالتراث الشعري والإبداع المعاصر، والانحياز إلى قيم التنوير والرؤية النقدية والعقلانية، ووضوح الرؤيا وصدق الموقف:

يقول في قصيدة «لا ماء في الماء»، مخاطباً الخليج، ومعادله الموضوعي هو «الوطن»:

ولسنا نريد اللآلئ

لسنا نريد الذي لم يزل نازحاً في امتدادك

إنا نريد الوجوه التي كان آباؤنا يبذرون على الموج

أسماءنا

أن نسير على الأرض دون انحناء!

وعبر رحلته الطويلة ما برحت تبديات جدل التراث والحداثة وتعالقاتها النصية ماثلة في قصائده، وذلك عبر استحضار رمزية أسماء أو لفتات شعراء التراث المضيئين، أو بتضمين بعض أبيات من أشعارهم في نصه، وذهابه أحياناً، من أجل تعميق الحالة الغنائية لقصيدته، بكتابة أبيات عمودية. كما تنفتح تجربته من جهة أخرى، في شواهد عديدة على الحياة اليومية، باستحضار ومضات الكلمات الدارجة، والأمثال، والأغاني التراثية والمعاصرة، مثل:

وتجهش حولي الأسوار، والمذياع، والأقفال

(صوت السهارى يوم

مرّوا عليّه

عصرية العيد). – قصيدة العيد والخليج

وكذلك ما نراه في حواره مع امرأة عابرة، في قصيدة «شو بدّ ك»:

-في المدى كنتَ، لكنني لم أرك

-ولكنني قد رأيتك.

-أوه.. وهللا.. شو بدّك؟

- «بدي أتجوّز عالعيد»

وغير ذلك من اللفتات المحملة بسخرية المفارقة، مثل قوله:

ها أنا أشتري بصلاً للفرح

بعد أن غرب العمر

في بصلٍ للبكاء!

بل ويصل ذلك إلى عنونة بعض قصائده باللهجات المحكية، من مثل : «ولدنة» و»يا صلاة النبي»، و»هيلا ..هيلا»، و»كاشيرة»، و»يا ليلي ويا عيني».

ويمكن أن نلخص أبرز خصائص شعرية «العلي» في النقاط التالية:

*- الحساسية اللغوية العالية وتجليها في رهافة وأناقة الصورة الشعرية (في صياغة الجملة، وفي تشكيل البنية الكلية للنص)، بما يجعلنا نستعير قول د.يمنى العيد: «هل جاءت هذه الأناقة من الكلام أم أن الكلام أتى من هذه الأناقة؟»

*- المفارقة الحاملة لأبعاد تراجيدية السخرية، عبر توظيف الدوال المتباعدة لإنتاج دال آخر.

*- تعد قصائده من النماذج البارزة على مفهوم الانزياح التي نظّر لها نقاد الحداثة (جان كوهين – مثلاً)، والتي تقوم على فاعلية الانتقال من «مجاز» المفردة إلى مجاز القصيدة، وتحويل كنائية الكلمات والجمل إلى فضاء استعاري كلي للنص، ينهض بمهمة التعبير المنتج لدواله الجديدة خارج الحمولات الجاهزة أو المرجعيات التقريرية المباشرة.

*- استثمار فاعلية التناص مع التراث، وتوظيفه بشكل خلاّق في إثراء جماليات النص وبؤره الدلالية.

*- «العلي» شاعر تجربة غنية بمذخورها المعرفي والفني والحياتي، فكراً وموقفاً، ويتبدى فيها صراعه الحضاري من أجل استيلاد الجديد، ولكنه يجابه دائماً – بحسب مقولة د. يمنى العيد - «حالة موت لا يموت، وولادة لا تلد»، لذلك فإن تجربته الشعرية تغدو أنموذجاً لتجادل المعرفي والجمالي مع الواقع من أجل إنتاج بنية نص حداثي متجاوز، يقوم على فعالية ما أسماه د. كمال أبو ديب «الفجوة / مسافة التوتر» في جل قصائده.

*- يعمل على إخراج نصه من السمة الغنائية إلى التأملية الدرامية، عبر تشكيل حالة «النموذج الفني» التي لا يستخدم فيها تقنية القناع أو التوظيف الرمزي الأسطوري أو التاريخي، وإنما يقوم بإنتاج رموزه الخاصة وأساطيره الصغيرة المختلفة، وتفتيق ثنايا النص بالأسئلة والحوار.

*- يتميز بالقدرة على الإيجاز والاختزال والعمل على «إبراء الشعر من اللغو حيث يبدو كمن يجر اللغة إلى ما هو أبعد من اللغة، وإلى كثافة رهيفة منتقاة من تجربة إنسانية يتعذّر على أية لغة أن تعبر عن كامل أبعادها» (صبحي حديدي- موقع www.ashiaa.net).

لذلك نلحظ قصر نصه وكثافته وقلة القصائد التركيبية ذات البعد الملحمي، وغالباً ما يتكون العنوان من كلمة واحدة تحمل أبعادها الإيحائية الشاسعة، مشحونة بمقدرتها على التجادل مع الجملة الأولى في النص التي تحمل بؤرة النص وإمكانات تنميته.

*- يمتلك شاعرنا حيوية التجدد والتفاعل مع الحساسية الفنية المتغيرة، فلم يتوقف أمام تجريب فضاء حرية التشكيل التي رآها في قصيدة التفعيلة، ولكنه مضى في غمرة نزوعه نحو آفاق حرية التعبير والإبداع إلى تجريب كتابة قصيدة النثر، فكانت أولى محاولاته في الدمام في عام 1967م، وليمضي لتعميقها في رحلته الثالثة إلى بيروت منذ عام 1998م.

*- ورغم كل هذه الممكنات التعبيرية المتفردة التي يمتلكها ويشتغل عليها شاعرنا لإبداع متنه الشعري، إلا أن القارئ المتفحص لقصائده سيأخذ عليه تكرار استخدام مفردات مركزية بعينها، ومسكوكات تعبيرية بذاتها، وإحالات إلى أسماء ودلالات تاريخية محددة، رغم أنه يعمل دائماً على توظيفها وترميزها بشكل مغاير في أغلب الأحيان.

كما لا يمكننا في هذا الصدد إغفال الإشارة إلى استمرار هيمنة نبرة الصواتة العالية على إبداعه من حيث (الموسيقى أو أدوات المخاطبة وتوجيه الرسالة)، وكأنما يبدع نصه وفي ذهنه أن المستقبِل هو «مستمع» وليس قارئاً، ونرى ذلك في عدم اهتمامه بالصورة البصرية للنص، و متلازماتها مثل تشكيل الكتابة وتوزيع مكونات جملها الشعرية، واستخدام البياض في الصفحة.. الخ!!

الدمام
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة