Culture Magazine Thursday  07/01/2010 G Issue 293
فضاءات
الخميس 21 ,محرم 1431   العدد  293
 
عاش بصمت وبصمت رحل
أبوأوس إبراهيم الشمسان

في 13من محرم سنة 1431هـ بهدوء وصمت أودع الثرى جسد أستاذنا عالم العربية وأستاذ الأجيال الدكتور حسن شاذلي فرهود، أما هو فظل بيننا وسيظل أبدًا، كتب بيديه مجده بصمت وهدوء وعمل دؤوب لا يكل ولا يمل. كانت العربية همه الأول وعشقه الوحيد، وكانت مكتبته مكانه المقدس الذي ينسى الدنيا ومن فيها حين ينزوي فيها فتنداح له بالمطالعة والتحقيق دوائر غير متناهية من المعرفة بالدقائق. قال لي بعيد وفاة زوجته رحمهما الله رحمة واسعة إن ابنتي تريد أن ننتقل إلى جدة؛ ولكني لا أستطيع أن أستغني عن مكتبتي يومًا واحدًا. كأنه أمس القريب حين دخل علينا قاعة الدرس في مبنى كلية الآداب في الملز، كنا طلاب السنة الأولى، وهي سنة تمهيدية يمضي من يجتازها ثلاث سنوات تخصص في قسم من أقسام الكلية الأربعة، كان الأستاذ في يومه الأول يحمل كتابًا صغيرًا حتى إذا انتظم الفصل وهدأ الجمع من مهابته دفع بالكتاب إلى أحد الطلاب ليقرأ منه أسطرًا وهو يصغي ثم ينقله من واحد إلى آخر، تبين لنا بعد ذلك أن الكتاب هو (الأيام) لطه حسين، وتبين لنا أن الأستاذ يقيس مهارتنا في القراءة الجهرية، ويتعرف جوانب الضعف فيها. لم تكن هذه السنة التحضيرية مؤهلة لدرس كتاب نحوي من المتون أو الشروح التراثية التي يصعب التأتي إليها، فكان أن رأى إعداد مذكرة تزوي أهم أحكام النحو مما له علاقة ماسة بالأداء كالنواسخ الفعلية والحرفية ونواصب المضارع وجوازمه، قدم ذلك وغيره بلغة واضحة سهلة وضرب الأمثلة الدالة، لم يحشد الشواهد ولم يورد النوادر والشواذ، ولم يشغل الطالب بالحدود وما تجمع وما تمنع. كان ممن يختلف إلى بيتنا زائرًا من حين إلى آخر صديق أخي الذي كان ينهي سنواته الأخيرة في كلية اللغة العربية، فرأى المذكرة بين يدي فتناولها وتصفحها والدهشة تأخذ منه كل مأخذ، فأنَّى يقدم النحو الذي عانى منه في سنوات دراسته كلها بهذا الوضوح وبهذه الطريقة المباشرة السهلة. قال لي: سلم لي عليه، وهي جملة لازم معناها إنشاء المدح والتعبير عن الإعجاب. وكما كان أمر إتقان العربية ونحوها همه الأول كان الطريق إليه بعث التراث النحوي بتحقيقه تحقيقًا علميًّا دقيقًا، وهكذا بدأ حياته العلمية بتحقيق كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسيّ ثم كتاب (التكملة) الذي يعد الجزء الثاني من الإيضاح على اختلاف بينهما في المنهج والهدف، فقد كان الإيضاح كتابًا تعليميًّا يسير العبارة واضحها، وهو ما دعا النحويين من بعده كالجرجاني وابن الحاجب إلى بسطه بالشرح، وهكذا قضى رحمه الله حياته في تخير الأعمال الجليلة والعكوف على إخراجها إلى الناس، لا يرجو منها سوى المثوبة من الله، كان حفيًّا بالتحقيق وأهله، والمشتغلون بالتحقيق من كل الجامعات يعرفون له فضله، ولا ينسون عونه لهم وإرشاده. ما اجتمعنا مرة إلا دعاني بلطف ورغبة في الخير شديدة إلى مزاولة التحقيق، غير أني أعتذر لأني لا أملك مؤهلات المحقق من صبر شديد ومعاناة متواصلة في التنقير عن الدقائق في كتب غير متناهية. كان أستاذنا شديد الوفاء للتراث شديد التمسك بآراء القدماء، ولعل هذا من أسباب عكوفه على بعث تراثهم وتحقيقه، ولكنه مع ذلك قارئ دقيق لا يترك شاردة ولا واردة، خبرت هذا حين فاجأني باحتفاظه بأبحاث كتبتها أيام التلمذة عليه في الكلية، بحث عن حروف الجر في السنة الأولى وبحث عن أسماء الفعل في السنة الثانية مخطوطين بل أطلعني على رسائلي إليه كنت أبعثها إليه من القاهرة. وكنت كلما زرته يخبرني أنه قرأ ما كتبته في المجلة الثقافية، أعلم أنه ربما لا يكون راضيًا عن بعض ما أكتب؛ ولكنه لا يشير إلى ذلك بل يدعوني إلى الكتابة في موضوعات يقترحها.

نذر أستاذنا رحمه الله نفسه لخدمة العربية وتراثها بصمت، كان أيام عمله يشهد ما يلقى من محاضرات، قال لي إنه يراقب ما يقع منهم من أخطاء، ولكنه مع ذلك كره أن يبرز ذاته أو يشهر نفسه، عزف عن الندوات أو المؤتمرات، لم يرض أن يكتب في مجلة أو صحيفة، سعيت إليه بأخرة لتجري معه المجلة الثقافية لقاءً يطلع فيه القراء على عالمه وعلمه فرفض؛ لأنه يحب العمل بصمت وهدوء، لم يحد عن موقفه طوال عمره. رفض أستاذنا أن يكرمه قسم اللغة العربية غير مرة، وكذا حين دعا عميد الكلية الدكتور سليمان العقيل إلى تكريمه لم يقبل، ورأينا طلابه أن نكتب كتابًا يضم بعض الأبحاث يهدى إليه، فكان كتاب (الشاذليات) الذي أخذنا اسمه من اسم والد أستاذنا (شاذلي)، وكنت كتبت على الغلاف اسمه هكذا (حسن الشاذلي فرهود). وعلى الرغم من إبداء الفرح بتكريم طلابه له بعمل علمي مجدٍ لم يتخل عن نزعته التصحيحية فعاتبني على الخطأ في كتابة اسم والده، قال: اسم والدي هو (شاذلي) لا (الشاذلي). لست أدري كيف وقعت في هذا الخطأ، كأني لم أقرأ اسمه قط، على أني تداركت هذا في النسخة العنكبية، وكان العميد فكر بدعوته بمناسبة صدور الكتاب؛ ولكنه أبى، رحم الله أستاذنا رحمة واسعة، لقد عاش بصمت وبصمت رحل.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7987» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة