Culture Magazine Thursday  07/01/2010 G Issue 293
فضاءات
الخميس 21 ,محرم 1431   العدد  293
 
في وداع أستاذ جليل
أ.د. أحمد بن محمد الضبيب

منذ أيام قليلة ودعنا إلى رحمة الله العالم الجليل والزميل الصديق، الأستاذ الدكتور حسن الشاذلي فرهود أول أستاذ أكاديمي سعودي للنحو والصرف في الجامعات السعودية.أستاذ نذر حياته لعلوم اللغة العربية، تدريسا وتأليفا وتحقيقا ونشرا لأمهات كتب العربية. عاش عيشة المتبتل لعلمه في صومعة متواضعة، لم تخالط نفسه أطماع الدنيا من مال أو جاه، بل كان همه الأول والأخير نقل العلم إلى تلاميذه، وإطالة النظر في علوم النحو والصرف والعروض.

لقد جمع الدكتور حسن كتب هذه العلوم من مظان وجودها في جميع بلدان الدنيا، ووضع ذلك تحت تصرف الباحثين، والتلاميذ، وطلاب العلم. كان ذلك حين كلف من قبل الجامعة بتعزيز قسم المخطوطات فكانت جهوده العظيمة في تزويد هذا القسم بمئات المخطوطات التي جعلت من قسم المخطوطات بجامعة الملك سعود مركزاً يشار إليه بالبنان.

ولم تكن معرفة أبي علي تنحصر في كتب النحو بل كان موسوعة في معرفة كتب التراث بجميع تخصصاتها، وكان دائم البحث والتنقير عن النوادر سواء أكانت مخطوطات أم كتباً مطبوعة، أم مجلات علمية. بل كان عندما يعلم بمكتبة لعالم توفي وأراد ورثته بيع مكتبته كان يسارع بإخبار الجامعة بذلك كي تقتني هذه المكتبة إن كان سعرها مناسباً.

في حقل التأليف كان الدكتور حسن أول أكاديمي ينشر كتاباً محققاً في النحو فقد أصدر سنة 1969م كتاب الإيضاح العضدي لأبي علي الفارسي وهو أطرحته للدكتوراه. كان أسبق الكوكبة التي تخرجت بالدكتوراه سنة 966م إلى النشر، ثم أتبع ذلك بمجموعة متميزة من التحقيقات العلمية، منها التكملة لأبي علي الفارسي وهو الجزء الثاني من كتاب الإيضاح، وكتاب العروض لابن جني، وكتب أخرى كثيرة بلغت 278 كتابا بين تحقيق وتأليف.

وعندما أنشأت جمعية اللهجات والتراث الشعبي في كلية الآداب سنة 1987هـ/1967م كان الدكتور حسن أنشط أعضائها، فقد كنت وإياه نعمل بجد في اتجاهات علمية عدة، وكان موكولا إليه الجانب المالي لما يعرف عنه من نزاهة مثالية ودقة في الحساب. وكنا نقضي ساعات طويلة في أيام متفرقة من الأسبوع تتحول إلى أسواق الرياض القديمة، من أجل جمع مواد التراث الشعبي الموجودة الآن في متحف التراث الشعبي، (وهو أول متحف رسمي للتراث الشعبي في المملكة). كنا نفعل ذلك بالطبع متطوعين، وحبا في حفظ تلك النماذج الشعبية خوفاً عليها من الاندثار. ولم تقتصر جولاتنا على الرياض بل ذهبنا معا إلى الخرج حيث اشترينا مجموعة من مواطن يحتفظ بها، كما توجهنا إلى مكة المكرمة واشترينا مجموعة كبيرة من مواطن آخر.

كانت رحلاتنا متكررة في الثمانينيات، وحتى منتصف التسعينيات الهجرية. وكان نعم الرفيق في السفر، يتميز بالطيبة المتناهية والروح المرحة، والجدية في العمل. ومن أطول الرحلات التي قمنا بها معا رحلة إلى الولايات المتحدة لحضور مؤتمر المستشرقين في مدينة آن آرير بولاية متشجان سنة 1967م. جاء المؤتمر بعد الهزيمة النكراء التي منينا بها في الحرب مع الكيان الصهيوني. وكان الحاضرون من ذلك الكيان يزيدون عن الثمانين، ولم نقابل أحدا حضر من عرب المنطقة. فصار العبء ملقى علينا في التوضيح، والدفاع، والإجابة على الأسئلة من قبل الآخرين. وكان مما فعلناه في الدعاية أن أخذنا معنا كتيبات عن جامعتنا وبرامجها العلمية، وقمنا بتوزيعها في ردهات المؤتمر، وتلقينا عددا من التعليقات الإيجابية، فقد كان القوم متأثرين بالدعاية الصهيونية التي تصفنا بالبدو الرحل، أصحاب الخيمة والجمل، فكان ظهورنا باسم المملكة لافتا وداعيا للاستغراب، إذ لم يكن أحد يتصور أن في المملكة جامعة كجامعاتهم. كان أبو علي رحمه الله وجها وطنيا مشرقا في تلك الرحلة.

في التعليم كان الدكتور حسن الأستاذ المثالي الجاد، الصارم، يعطي الطلاب كل وقته للشرح والتبسيط، والمراجعة، ويفتح قلبه قبل مكتبه وداره، ومكتبته لطلاب العلم، لكنه لم يكن يسمح بالأخطاء مهما كانت، وكان دقيقا في تصحيحه، ولم يكن يتهاون مع أي أحد مهما كانت منزلته في المجتمع، وأيا كان قربه منه، ولم يكن يخشى في ذلك لومة لائم، حتى أن المقربين منه كانوا يتحاشون الحديث معه حول شؤون التصحيح.. وأذكر من شدة نزاهته أن زوجته رحمها الله كانت ضمن طلابه في إحدى السنوات، ومع أن الأسماء كانت سرية، إلا أنه قرر أن يصحح مادته في الكلية، ولم يأخذ الكراسات إلى البيت، وسألته عن ذلك، فأشار بأن التصحيح في الكلية أفضل خوفا من الإحراج، وأظن أن زوجته لم تكن من الناجحات في تلك الفترة.

كان التجويد في العمل منهجه في الحياة، فإذا أوكل إليه أمر أداه على خير ما يستطيع من الجودة، ولذلك كان ينتظر من الآخرين أن يكونوا مثله في تطلب الدرجة العليا من الأداء. وهذا ما يفسر موقفه من الدقة وعدم التهاون في الدراسة والاختبارات.

تضم مكتبة الدكتور حسن الشاذلي الخاصة نوادر الكتب التي قضى عمره جامعا لها، وهي مكتبة ثمينة بحق، وبخاصة في مجال اللغة العربية، وحبذا لو كرمته جامعته بشراء هذه المكتبة من ورثته، وضمها إلى مكتبتها في قاعة خاصة، فهو يستحق ذلك. بل حبذا لو كان لدى كل جامعة قاعة أو أكثر من قاعة، تضم كتب الرواد من الذين عملوا فيها، وأسهموا في تاريخها العلمي، أو الإدراي، تخلد فيها ذكراهم ليكونوا مثالا للأجيال القادمة.

إن الرواد رموز، وهم في حياتهم وبعد موتهم، مشاعل تضيء الطريق أمام الأجيال.

رحم الله الأستاذ والمربي الفاضل الأكاديمي العريق، والعالم المتميز، والصديق العزيز الدكتور حسن الشاذلي فرهود، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه وأحبابه وزملاءه الصبر والسلوان، و(إنا لله وإنا إليه راجعون).

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة